حملت واحدةٌ من أولى الصور التي شاهدها العالم لمعسكر سدي تيمان مشهداً يظهر فيه أحد الأسرى الفلسطينيين معصوب العينين وذراعيه خلف رأسه واقفاً بجوار سياج من الأسلاك الشائكة.
في هذا المعسكر سيء الصيت يقبع آلاف الأسرى الفلسطينيين دون تهمة ويتعرضون للتعذيب بشكل روتيني.
والأسبوع الماضي، أطلق سراح الرجل الذي ظهر في الصورة المسربة ويدعى إبراهيم سالم بعد ما يقرب من ثمانية أشهر من الاعتقال.
وقال سالم لموقع ميدل إيست آي أن الصورة التي نشرتها شبكة سي إن إن لأول مرة كانت مجرد غيض من فيض تجربته المروعة في الاعتقال، والتي شملت الاغتصاب والصعق بالكهرباء والضرب المتكرر.
وأوضح سالم (36 عاماً) أن “معظم الأسرى سيخرجون من السجن مصابين بجروح في المستقيم نتيجة للاعتداء الجنسية”،
وأضاف أن الأسرى يخبرون بعضهم البعض أنهم يعانون من البواسير، لأن معظمهم يتجنبون الاعتراف بأنهم تعرضوا للاغتصاب، وأحياناً من قبل جنديات.
وفي رواية شاهد العيان التالية، يتذكر سالم محنته، بدءاً من اعتقاله في مستشفى في غزة حتى إطلاق سراحه.
الاختطاف
كان سالم في وحدة العناية المركزة في مستشفى كمال عدوان شمال غزة عندما داهمتها قوات الاحتلال في ديسمبر/كانون الأول 2023.
ظل سالم في المستشفى بجوار أطفاله، الذين أصيبوا بجروح خطيرة في غارة للاحتلال على منزلهم، وقد استشهد أشقاؤه إلى جانب العديد من أطفالهم في ذات الغارة.
وتابع سالم: “عندما دخل الجيش طلب من جميع الرجال النزول إلى الساحة”، لكن الطبيب سلمه تقارير أطفاله وأمره بالبقاء معهم في العناية المركزة لشرح حالتهم الحرجة للجنود إذا جاءوا.
وفعلاً كما توقع الطبيب، جاء الجنود وسألوا سالم: “ماذا تفعل هنا؟”، فقدم لهم التقارير وقال لهم باللغة العربية: هؤلاء أطفالي، لا يمكنهم الحركة في العناية المركزة، وكانوا في غيبوبة حقيقية”.
وتابع الرجل: “أمسك جندي آخر بالتقارير وقرأها وقال لبقية الجنود أن يأخذوني”.
وخلال نقل سالم مع رجال آخرين، أمرهم جنود الاحتلال بخلع ملابسهم قبل وضعهم في حفرة كبيرة في مكان غير معروف، وهناك، تحت المطر، بدأ الجنود بضربهم وإهانتهم بعد ربط أيديهم وأرجلهم.
يقول سالم إن الإهانات شملت القول لهم “لقد مارسنا الجنس مع النخبة، وحدة النخبة في الجناح العسكري لحماس”، و”لقد مارسنا الجنس مع والدتك”.
وأضاف سالم: “ذهبوا إلى الرجل القريب مني وقالوا له: “ارفع رأسك”، ففعل ذلك، ثم قالوا له: “قل أنا ابن عاهرة، قل أختي عاهرة وأشياء من هذا القبيل”، وكان الرجل يكرر ما يطلبون منه أن يقول.
وفي النهاية، تم نقل المجموعة التي تضم حوالي 100 رجل إلى مركز احتجاز في صحراء النقب، حيث تركوا بملابسهم الداخلية بينما كان المطر يهطل لمدة ليلتين قبل أن يتم إعطاؤهم ملابس عمل خفيفة ونقلهم إلى الثكنات.
وأضاف سالم: “بالطبع، تم ربط الأيدي خلف الظهور، وربط الأرجل أيضاً وتعصيب العيون”.
وفي الزنزانة، كانت أرجل الأسرى غير مقيدة، ولكنهم تركوا بدون طعام لمدة يومين، وتم تقاسم زجاجة صغيرة من الماء بينهم جميعاً، ثم جرى استدعاؤهم واحداً تلو الآخر للتحقيق.
سدي تيمان
وذات يوم اشتكى سالم من اعتقاله، وسأل الجنود عن سبب احتجازه وماذا كان يفعل حتى يعاقب، حينها تم نقله إلى سدي تيمان، وهي قاعدة عسكرية للاحتلال تستخدم كمعسكر اعتقال للفلسطينيين الذين تم اعتقالهم من غزة منذ أن شن الاحتلال غزوه البري للقطاع المحاصر في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
وقال سالم عن الأيام الـ 52 التي قضاها في سدي تيمان: “لقد كان أسوأ كابوس”، حيث كان المعتقلون يتعرضون للعقاب بشكل منتظم هناك، وكان الحراس يهينونهم باستمرار في ما أسماه محاولة “لإيذائك عقلياً”.
“بينما كنت مقيداً ومكبل اليدين، ضربني جندي بكرسي فانكسر على صدري، دون أن أعرف لماذا، ثم تبين لي أن الجندي كان يتحدث على الهاتف مع صديقته، وحول الشاشة إلي وجعل صديقته تشتمني أيضاً” – إبراهيم سالم، سجين فلسطيني مفرج عنه
وتتبع: “كل من يتحرك بطريقة معينة كان يعاقب، وإذا طلبت الذهاب إلى الحمام، فإنك تعاقب”.
وأوضح سالم: “كانوا يجبروننا على الوقوف على ساق واحدة لمدة ساعتين، ثم يسألوننا إذا كنا نريد المساعدة؟ وعندما نجيب بنعم، يقولون إذن فلتقل: أنا ابن عاهرة، أنا شقيق عاهرة، نتنياهو مارس الجنس مع أختي”.
وأضاف أن الجنود كانوا يطلبون من الأسرى أن يرددوا مقولة “شعب إسرائيل حي” مئة مرة، وحين يفعل الأسرى ذلك، يخبرهم الجنود أن أداءهم لم يكن مقنعاً ويطلبون منهم الإعادة لمئات المرات فيما يظلون واقفين على قدم واحدة، قبل أن ينهالوا عليهم بالضرب.
وبحسب سالم فقد كان الجندي يقول للمعتقلين: “سنلعب كرة القدم برؤوسكم في غزة، وسنحول غزة إلى ملعب كرة قدم للعب برؤوسكم ورؤوس نسائكم”.
الصعق بالكهرباء
كانت بعض أسوأ أشكال التعذيب ترتكب أثناء الاستجواب، ففي إحدى المرات، عندما واجه سالم جندياً بشأن قتل أبناء أخيه الصغار، كانت عقوبته الصعق بالكهرباء.
وأضاف: “سألني المحقق أين الصواريخ وأين الرهائن، فقلت له أنت تسألني؟ ما شأني أنا بالرهائن وكيف لي أن أعرف مكانهم أصلاً؟ لقد كنت في مستشفى كمال عدوان، وأنتم قتلتم إخوتي وقصفتم منزلنا، فكيف لي أن أعرف مكان الرهائن؟”
وعندما قال سالم ذلك للمحقق، رد عليه بالقول: “نحن لا نقتل الأطفال”، فسأله سالم: “ماذا عن أطفال أشقائي، الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاث وخمس سنوات، هل كانوا جنوداً؟”.
ويضيف أن المحقق طلب بعد هذا الحوار من أحد الجنود إحضار كرسي وتم عصب عيني سالم وربط يديه “ثم بدأ بصعقه بالكهرباء في أماكن حساسة وضربني في هذه الأماكن”.
اغتصبته جنديات
وتمثل الإساءة الجنسية حلقة مؤلمة أخرى للعديد من الأسرى مثل سالم.
فعلى الرغم من تفشي هذه الإساءة في السجون، إلا أن سالم يؤكد أن الأسرى نادراً ما يتحدثون عنها مع بعضهم البعض.
وأضاف أن الكثيرين يتحرجون من الاعتراف بذلك، خاصة إذا تعرضوا للاغتصاب من قبل جنديات، هن في بعض الأحيان في سن المراهقة.
وأشار إلى أنه كان من الشائع أن يقوم الجنود بتجريد المعتقلين من ملابسهم، وإدخال أشياء في المستقيم والإمساك بأعضائهم التناسلية بقوة.
وقال سالم أن أسيراً في الأربعينيات من عمره أسرّ له أنه تعرض للاغتصاب من قبل جندية، وعندما سأله سالم كيف حدث ذلك، أوضح له أن ذلك كان يحدث بحضور جندي آخر في الغرفة.
وأضاف أن السجين يجبر على الانحناء على مكتب ويداه موضوعتان أمامه، مكبلتان بالأصفاد، ثم تقوم الجندية التي تقف خلفه بإدخال أصابعها وأشياء أخرى في شرجه.
وعندما كان الأسير يتحرك إلى الخلف، كان الجندي التي يقف أمامه يضربه على رأسه ويجبره على الانحناء مرة أخرى.
وأضاف سالم أن هذه كانت واحدة من القصص الكثيرة التي سمعها خلال اعتقاله، مؤكداً أنه تعرض أيضًا للمس في أعضائه التناسلية من قبل جندية، وتم إدخال أشياء في شرجه في إحدى المرات.
“فضح الاحتلال”
أمضى سالم 52 يوماً في سدي تيمان، وبضع ليالٍ في سجن عوفر في الضفة الغربية المحتلة ومعظم فترة اعتقاله في النقب، ثم أطلق سراحه مع 14 أسيراً آخرين الأسبوع الماضي، وتركوا عند نقطة تفتيش بالقرب من دير البلح وسط غزة.
وفي البداية، اعتقد سالم أن الحرب ربما انتهت، لكن جندياً أخبره: “لن تنتهي الحرب حتى نقتلكم جميعاً”.
وقال سالم أن الجنود حين أخلوا سبيلهم حذروهم من أن أي شخص ينظر إلى الوراء سيتم إطلاق النار عليه، وبدأ الجنود في إطلاق النار عندما أبطأ سالم لمساعدة امرأة مُفرج عنها.
وأضاف: “في النهاية وصلنا إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح”.
وعندما سُئل سالم عن الصورة التي انتشرت على نطاق واسع، قال أنها التقطت أثناء عقوبة استمرت خمس أو ست ساعات كان يتعرض لها، حيث سمع صوت كاميرا تنقر في ذلك الوقت.
وأضاف أنه كان قد تشاجر مع جندي بعد أن تركوا أسيراً يتبول على نفسه بمنعه من استخدام الحمام.
أُجبر سالم على البقاء في هذا الوضع لساعات طويلة، وهي العقوبة التي قال إنها لا تصف المحنة التي واجهها في الاعتقال، مضيفاً أن “هناك عقوبات أكبر، وضرب أكبر”.
وقال: “لم يكن هناك ما هو أكثر إذلالاً من إجباري على خلع ملابسي، وإدخال شيء في مؤخرتي، وقيام مجندة بلمس أعضائي، لكن من الجيد أن يرى الناس حقيقة الاحتلال وأنا أصر على فضح ذلك، وهذه هي رسالة كل أسبو تحدثت إليه”.
وكانت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بتسيلم قد قالت في وقت سابق من هذا الأسبوع، أن حكومة الاحتلال تنفذ سياسة التعذيب المؤسسي ضد جميع المعتقلين الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر.
وتم تسجيل التعذيب في مرافق الاحتجاز المدنية والعسكرية في جميع أنحاء الدولة العبرية، حيث استشهد ما لا يقل عن 60 فلسطينياً أثناء اعتقالهم في أقل من 10 أشهر.
وقالت بتسيلم أن الطبيعة المنهجية للإساءة في جميع مواقع الاعتقال لم تترك أي مجال للشك في كونها “سياسة منظمة ومعلنة من قبل سلطات السجون الإسرائيلية”.
وأضافت منظمة حقوق الإنسان إن هذه السياسة حولت سجون الاحتلال فعلياً إلى “معسكرات تعذيب”.
وفي تقريرها المكون من 182 صفحة، قالت منظمة بتسيلم أن التعذيب الذي واجهه الأسرى شمل “أعمال عنف شديدة وتعسفية متكررة واعتداءات جنسية وإذلال وإهانة وتجويع متعمد”.
كما شمل “الاحتجاز في ظروف غير صحية قسرية والحرمان من النوم وحظر ممارسة الشعائر الدينية وفرض تدابير عقابية عليها ومصادرة جميع الممتلكات الجماعية والشخصية والحرمان من العلاج الطبي المناسب”.
وقالت بتسيلم إن انتهاكات الاحتلال بحق الأسرى الفلسطينيين ترقى إلى جرائم حرب وحتى جريمة ضد الإنسانية.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)