“فلسطيني” بالاتهام لا بالهوية: المكارثية الجديدة في أمريكا

بقلم سمية الغنوشي

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

لم يعد يهوديًا، إنه فلسطيني، لم يكتفِ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإهانة السيناتور الديمقراطي تشاك شومر بهذه الكلمات، بل كشف عن أمرٍ أشدّ خبثًا من ذلك، ففي عالم ترامب، لا تُعدّ كلمة “فلسطيني” مجرد جنسية، بل هي اتهام، وحكمٌ بالنفي، وعلامةٌ على نزع الشرعية.

أما جريمة شومر فكانت التشكيك في حكومة رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو التي تزداد استبدادًا، فقد تجرأ شومر، وهو الصهيونيّ المتشدد الذي لطالما صوّر نفسه كأحد أشدّ المدافعين عن دولة الاحتلال، على القول إنّ تطرف نتنياهو يضرّ بمستقبل دولته، وكان ذلك كافيًا لترامب كي يجرّده من يهوديته، ويصفه بشيءٍ آخر، شيءٍ يُقصد به الإهانة.

وهذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها ترامب كلمة “فلسطيني” كإهانة، فقد استخدمها ضدّ الرئيس السابق جو بايدن، وضدّ شومر سابقًا، بل وضدّ كل من يجرؤ على التشكيك في سياسات دولة الاحتلال.

الرسالة واضحة: أن تُوصف بالفلسطيني يعني أن تُطرد، يعني أن صوتك لم يعد يُؤخذ بعين الاعتبار، وشرعيتك مُلغاة، وحقوقك ممسوحة.

لو لم يكن شومر يهوديًا، لكان ترامب قد وصفه بمعاداة السامية، لكن حتى هذه التسمية تفقد معناها هنا، فالأمر لا يتعلق بالهوية، بل بالطاعة، ففي هذا النظام السياسي الجديد، يُمكن لأي شخص أن يصبح فلسطينيًا.

المحو من التاريخ

أن تكون فلسطينيًا في عالم ترامب يعني أن تكون بلا حقوق، حيث يُمكن تجويع الفلسطيني وقصفه وطرده، وحيث يُمكن محو الفلسطيني من التاريخ تمامًا كما فعل ترامب وصهره، جاريد كوشنر، عندما هندسا اتفاقيات إبراهيم، متجاوزين الفلسطينيين كما لو كانوا غير موجودين.

ويمكن تجريد الفلسطيني من الحماية القانونية، حتى لو كان يحمل إقامة أمريكية ولم يرتكب أي جريمة، فهذا محمود خليل، الطالب في جامعة كولومبيا، يواجه الترحيل لمجرد التعبير عن آرائه السياسية.

يُعتقل الفلسطيني لاحتجاجه، ويُفصل من عمله لتعبيره، ويُدرج في القائمة السوداء لمعارضته، والآن، يُمكن معاملة أي شخص على هذا الأساس، فهذا هو التحذير الحقيقي في هجوم ترامب، ليس عليك أن تكون فلسطينيًا لتُعاقب كفلسطيني، ليس عليك أن تكون عربيًا أو مسلمًا، ما عليك سوى تجاوز الحدود.

وحتى الانتماء للديانة اليهودية لم يعد يوفر الحماية، فقد أصبحت هويتك مشروطة، وتاريخك قابلًا للتصرف، ويُمكن اعتبارك خائنًا وعدوًا داخليًا وشخصًا فقد مكانته.

ففي اللحظة التي تُشكك فيها بدولة الاحتلال، تُصبح فلسطينيًا، لا بالولادة، بل بحكم القانون، ففي هذا العالم لا حقوق للفلسطيني ولا حقوق لمن يدافع عنه.

وفي أمريكا تترسخ مكارثية جديدة وهذه المرة، لا يقبع الشيوعيون في مرمى نيرانها، بل كل من يرفض الانصياع لأجندة الاحتلال.

تطهير تاريخي

في خمسينيات القرن الماضي، بُرر القمع بأنه حملة صليبية ضد التخريب، وتطهير لمن يُعتبرون أعداءً للدولة، واليوم، تُمارس نفس آلية الإسكات تحت ستار مكافحة معاداة السامية، لكن الأمر لا يتعلق بحماية اليهود من الكراهية، بل بتجريم انتقاد الاحتلال.

إنه يتعلق بإسكات الطلاب والصحفيين والأكاديميين والناشطين وكل شخص يُعارض الاحتلال والفصل العنصري والتطهير العرقي، والنفاق هنا بات جليّاً.

لقد بنى ترامب وحلفاؤه سمعتهم على التهجم على الصوابية السياسية، فهم يدّعون أنهم مدافعون عن حرية التعبير، ومحاربون ضد الرقابة، فقبل بضعة أسابيع فقط، وقف نائب الرئيس ترامب، جيه دي فانس، في مؤتمر ميونيخ للأمن ووبخ القادة الأوروبيين لتقييدهم حرية التعبير، وأعرب عن أسفه لتراجع الغرب المزعوم عن النقاش الحر، لكن حرية التعبير لا تطبق في الولايات المتحدة تحت حكم ترامب ومن يدافعون عن أيديولوجيته حين يتعلق الأمر بدولة الاحتلال.

فهنا يُعتقل الطلاب المؤيدون للفلسطينيين ويُطردون ويُجرّدون من شهاداتهم، ويُطرد الأساتذة الذين يتحدّون سياسات الاحتلال، ويُدرج الصحفيون الذين يُغطّون جرائم حربه على القائمة السوداء، ويُضايقون وتكمم أفواههم، وتُلغى الأفلام التي توثّق معاناة الفلسطينيين، وتُشوّه سمعة منظمات حقوق الإنسان وتُصوّر على أنها متعاطفة مع الإرهاب.

أما الجامعات والكليات التي كانت في السابق معاقل للتحقيق الحر فقد أصبحت مُحاصرة، حيث تُهدّد إدارة ترامب بسحب تمويلها الفيدرالي إذا لم تقمع النشاط المؤيد للفلسطينيين، وتُجبر المؤسسات نفسها التي كانت في السابق تُناصر الحوار المفتوح الآن على مراقبة الفكر

وتمتد العواقب إلى ما هو أبعد من الحرم الجامعي، فقد أُمرت وزارة التعليم الأمريكية، التي يُفترض أن تحمي الطلاب الذين يواجهون التمييز، بإعطاء الأولوية لقضايا معاداة السامية وبعضها ذو دوافع سياسية على حساب احتياجات الأطفال الضعفاء.

ويُكافح أولياء أمور الطلاب ذوي الإعاقة للحصول على الدعم الذي يستحقونه قانونًا، لأن موارد الحقوق المدنية حُوّلت إلى مراقبة الخطاب المُتعلّق بدولة الاحتلال، إنه نظامٌ كان من المفترض أن يحمي المهمشين، لكنه الآن يُعاد توظيفه لحماية حكومة أجنبية من النقد.

“مطاردة الساحرات”

وقد أُعيد توجيه وكالة فيدرالية أخرى، وهي هيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك (ICE)، لا لمكافحة الاتجار بالبشر أو تهريب المخدرات، بل لملاحقة الطلاب الذين يُعربون عن تضامنهم مع فلسطين. 

فقد أفادت التقارير أن الهيئة أوقفت تحقيقاتٍ رئيسيةً حتى يتمكن أعوانها من مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، وتتبع الطلاب المؤيدين لفلسطين والإبلاغ عن منشوراتهم وتفضيلاتهم، هذا ليس إنفاذ قانون، بل مطاردة الساحرات.

أما الخطوة التالية فهي تحول القمع القانوني إلى عنفٍ صريح من قِبل الدولة، فترامب مُستعدٌّ لاستدعاء قانون أعداء الأجانب لعام 1798، وهو إجراءٌ يعود إلى زمن الحرب يسمح للرئيس باحتجاز وترحيل غير المواطنين دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة.

وبموجب هذا القانون، يُمكن اعتقال وطرد حاملي البطاقة الخضراء والطلاب وأزواج المواطنين الأمريكيين وأي شخصٍ بلا جنسية وفقًا لتقدير الرئيس، لقد صُمم هذا القانون لأوقات الحرب، لاستخدامه ضد مواطني الدول المعادية، لكن ترامب يُعيد توظيفه، مُحوّلاً وضع الهجرة إلى سلاح سيطرة سياسية.

وقد بدأت هذه العملية بالفعل، فقد رحّل ترامب مؤخرًا رشا علوية، أخصائية زراعة الأعضاء اللبنانية والأستاذة في كلية براون الطبية، وهي مقيمة قانونية بتأشيرة عمل سارية المفعول من نوع H-1B 

لم ترتكب علوية أي جريمة مزعومة، ولم تُعقد لها جلسة استماع، ولم تُجرَ أي إجراءات قانونية، لقد طُردت طبيبة مرموقة بجرة قلم لأنها تُطابق صورة النظام عن غير المرغوب فيهم، وهذا ليس نظامًا قانونيًا، إنه تطهير عرقي وسياسي مُقنّع بزي إنفاذ قوانين الهجرة.

من سيُستهدف؟ نحن نعلم ذلك بالفعل، إنهم الفلسطينيون والعرب والمسلمون، وأولئك الذين احتجوا، والذين عبّروا عن آرائهم، والذين يُعامل وجودهم الآن على أنه تخريبي، والحملة تتصاعد، بدءاً بالتشهير ثم الإدراج على القوائم السوداء والآن التهديد بالترحيل دون محاكمة.

هكذا تُدمّر الحقوق، ليس دفعة واحدة، بل على مراحل، كل خطوة تُمهّد الطريق للخطوة التالية، والأمر يبدأ بمجموعة واحدة، ثم ينتشر، وسرعان ما تُصبح المعارضة نفسها فعل تحدٍّ يُعاقب عليه بالنفي.

أزمة ديمقراطية

لقد أظهر لنا التاريخ كيف تتجلى هذه الظاهرة، فقد بدأت المكارثية مع الشيوعيين، لكنها لم تتوقف عند هذا الحد، بل امتدت إلى الصحفيين والأكاديميين ومنظمات العمال ونشطاء الحقوق المدنية وأي شخص يُعتبر مخرباً، حيث دُمّر أناسٌ وشُوّهت سمعتهم وطُهّرت مجالات بأكملها من المفكرين المستقلين.

والآن يتكشف النمط نفسه، يبدأ بالفلسطينيين، ثم الطلاب ثم الأساتذة ثم الصحفيين، ثم الشخصيات العامة ثم كل من يرفض التعهد بالولاء المطلق لدولة الاحتلال، فاليوم، يُحرم الفلسطينيون من إنسانيتهم، وغدًا، يُحرم كل من يجرؤ على المعارضة، هذه ليست أزمة للفلسطينيين فحسب، بل هي أزمة للديمقراطية نفسها

لم تكتفِ دولة الاحتلال والولايات المتحدة بانتهاك القانون الدولي لشن حرب الإبادة الجماعية على غزة، والآن، تدوسان على الحقوق والحريات التي اكتسبتاها بشق الأنفس في الداخل لإسكات أي انتقاد لجرائم الحرب التي ارتكبتاها، وتقويض الديمقراطية، وتجريم المعارضة.

إنهم يُقوّضون حرية التعبير باسم مكافحة معاداة السامية، بينما في الواقع، يُحوّلونها إلى سلاح، ويُحوّلونها إلى أداة سياسية، وبذلك، يُغذّون معاداة السامية نفسها التي يدّعون محاربتها، مُدمجين هذا القمع مع دولة الاحتلال وحتى مع اليهودية نفسها.

في اللحظة التي نُسلّم فيها بأن انتقاد دولة الاحتلال جريمة، نفتح الباب أمام أمرٍ أشدّ قتامة، اليوم، الفلسطينيون هم من يُحرمون من إنسانيتهم، وغدًا، كل من يجرؤ على المعارضة.

ففي عالمٍ يكفي فيه مجرد التعبير عن الرأي لحرمانك من حقوقك وهويتك ومكانتك في المجتمع، يُمكن لأي شخص أن يُصبح فلسطينيًا.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة