بقلم أسامة مقدسي
يتوقف الكاتب أسامة مقدسي في مقالته على موقع ميدل إيست آي عند الحماس الذي أبداه العرب على اختلاف جنسياتهم احتفاء باللاعبين المغاربة في كأس العالم، مشيراً إلى أن هذا الحماس لم يتأثر أو يخفت بكون عدد من اللاعبين ولدوا أو ترعرعوا خارج المغرب، أو أنهم لم يتقنوا الحديث بالعربية بطلاقة، كما لم يتأثر الدعم لأسود الأطلس لكونهم من بلد عربي اختارت حكومته التطبيع الرسمي مع إسرائيل، بل على النقيض من ذلك، فقد أخرجت الرياضة أصدق ما في العرب، خاصة مع قيام اللاعبين المغاربة برفع علم فلسطين بعد فوزهم في الملعب، في إشارة إلى موقف لطالما كان ممتداً تجاه فلسطين في الهوية العربية الحديثة.
لو لم يكن للهوية العربية الحديثة إلا معتقد واحد يجتمع العرب جميعاً عليه، فهو إدراك الأثر العميق لغياب العدالة في المشروع الاستعماري الصهيوني
ويستدل مقدسي في مقالته بما قاله الباحث القانوني السوري إدمون رباط عام 1956 ملخصاً جوهر العروبة وارتباط ذلك بفلسطين بقوله ” وجود إسرائيل سبب رئيسي في توحد العرب، فإن لم يتوحدوا على ذلك، لن يكون هناك عرب بعدها”، متجاوزاً بذلك الدين واللغة إلى ربط العروبة بالمساحة الجغرافية التي تجمع هؤلاء وتجعل منهم أمة عربية رغم اختلاف الدين أو العرق اللذين استخدما كسلاح في وجه القومية العربية في كثير من الأحيان، حيث تظل قضية فلسطين برأي الكاتب هي القلب الجامع للأمة العربية.
انقسام غربي مقابل وحدة عربية
يسترشد مقدسي بمثال الباحث السوري إدموند رباط، فهو مسيحي من حلب، رفض الاستعمار الفرنسي لبلاده في الثلاثينات والأربعينات، وكان مدركاً لمؤامرة الاستعمارين البريطاني والفرنسي في تحويل إحدى أغنى بقاع الشرق الأوسط بالموروث الديني والتنوع العرقي إلى موطن للنزاع الطائفي، فقد حرصت كل من فرنسا وبريطانيا كقوتين إمبرياليتين على شحن الطائفية في المنطقة، في الوقت الذي ادعت فيه تلك القوى جلبها التمدن والحضارة إلى “مجتمعات محلية تعادي بعضها”.
وبحسب الباحث رباط، فقد قامت القوى الاستعمارية الغربية ” بترويج أكذوبتها في مناطق شمال إفريقيا والمشرق العربي، مستهينه بإمكانية نشوء قومية عربية علمانية بعد سقوط الحكم العثماني للمنطقة”، معتبراً أن الدليل الأوضح والأكثر تشاؤماً وألماً على ذلك ما حصل في فلسطين تحت الاستعمار البريطاني، الذي ساهم عسكرياً وإيديولوجياً في قيام دولة قومية يهودية على أرض فلسطين.
في ظل الاستعمار الغربي للمنطقة، ظهرت أشكال عديدة من التعبير عن العروبة، بعضها كان رجعياً أو قومياً أو محافظاً أو شوفينياً أو وطنياً أو قمعياً أو رافضاً للآخر، فيما تكونت صور أخرى أكثر جمالاً وتحرراً، ففي أكثر أشكالها رجعية، أخذت العروبة منحى استبدادياً إقصائياً معتبرة الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة حصان طروادة للاستعمار الغربي، وعلى الجانب الآخر، تبلورت العروبة إلى أكثر أشكالها تقدمية ومعاصرة، انتماءً للوطن ورفضاً للاستعمار.
ويوضح مقدسي نقلاً عن الباحث رباط، الذي كتب في 1956، أن جوهر العروبة المضاد للاستعمار يكمن في مركزية فلسطين كنقطة توحد العرب من كل الأديان والمناطق والمعتقدات والطبقات الاجتماعية في الحقبة الحديثة، وفي حال إنكار العربي لأهمية فلسطين، يتلاشى جزء كبير من هذه العروبة.
ومن هذه الفكرة يوضح مقدسي أن العرب ينتمون لعقائد وطوائف مختلفة، حتى أن ملايين منهم اليوم لم تعد العربية لغتهم الأم ربما، ويقصد هنا من ترعرع في الشتات في أوروبا والأمريكتين، ولكنهم في الجوهر عرب ويدركون ما هي فلسطين بالنسبة لهم.
يعتقد الكاتب أنه لو لم يكن للعرب إلا معتقد واحد يجمعهم من المغرب إلى السعودية ومن أمريكا الشمالية إلى أستراليا وتشيلي، فهو إدراك الأثر العميق لغياب العدالة في المشروع الاستعماري الصهيوني، يقابله ما تمثله قضية فلسطين من عدالة إنسانية تتجاوز الطائفية، وهو ما تجلى في تشكل دعم مشترك من قبل العرب مسلمين ومسيحيين ويهود معادين للصهيونية، في مواجهة مشروع أوروبا الذي سعى إلى تصدير الطائفية إلى المنطقة العربية وصهرها في فكر قومي إقصائي.
ويستشهد الكاتب بالمظاهرات التي قامت في فلسطين مبكراً بعد صدور وعد بلفور عام 1917، والتي قادتها مؤسسات إسلامية مسيحية مشتركة، فرقت بين اليهود العرب الرافضين للصهيونية وبين المستوطنين الصهاينة، معتبراً إياها بذوراً لفكرة توسعت مع انتشار الراديو بعد ذلك في ثلاثينيات القرن الماضي، وصارت عابرة للعالم العربي، تبلورت فيها فلسطين كبوصلة للتحرر والعروبة، وامتدت آثارها إلى تأميم قناة السويس في مصر عام 1956 والثورة الجزائرية في الخمسينيات وظهور جمال عبد الناصر الذي اعتبر قائداً عروبياً آنذاك.
مركزية فلسطين
يمر الكاتب مقدسي في مقالته على هزيمة عام 1967، ليقف عندها كنقطة محورية في استسلام الأنظمة العربية للهيمنة العسكرية الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة، ومنذ ذلك الحين نجحت الولايات المتحدة بالتدريج بتحويل الطغاة العرب نحو التطبيع مع إسرائيل رغم احتلالها وقمعها للفلسطينيين، فقد جاء في تقرير سري أمريكي يعود لعام 1969، ذكر في كتاب الأمريكي ماثيو جاكوبز ” تخيل الشرق الأوسط” أن ” بناء السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط اعتمد على تفكيك القومية العربية”، ليس الدين أو اللغة، وإنما دفع العرب لنبذ الهوية التي تجمعهم وتعزز انتماءهم لفلسطين وما تعنيه وحدتها للعالم العربي.
وعليه، كما يقول مقدسي، تم تصنيف قادة العرب، فمن يطبع مع إسرائيل تتراجع شعبيته وينظر إليه على أنه غير ديمقراطي، بينما يحظى من يقاوم إسرائيل بشرعية شعبية واسعة ابتداء من عبد الناصر في 1956 إلى حسن نصر الله في 2006.
بالنسبة للشعوب العربية، تظل فلسطين قضية رمزية وأخلاقية عالية التأثير، فمن جهة هو رفض للاستعمار الصهيوني الذي يمارس العنف والتمييز ضد العرب، ومن جهة أخرى هو التعاطف مع ألم الفلسطيني من باب الأخوة العربية.
ثم يعود بنا مقدسي إلى المشهد الذي بدأ به، من المعاني التي يحملها رفع المنتخب المغربي لعلم فلسطين في الملعب، مشيراً إلى أنه يمثل تأكيداً على دعم صلب للفلسطينيين، وتذكير للعالم الذي يشاهد ذلك أن فلسطين فكرة مرتبطة بجوهر الانتماء للعروبة أولاً وللانسانية ثانياً بصرف النظر عن الجنسية أو الدين.
ويضيف الكاتب مقاربة مهمة، معتبراً أن رمزية فلسطين ذاتها أيقظت في عدد من شعوب المنطقة أيضاً رغبة في التحرر من الظلم والاستبداد في بلدها، فنظام البعث في العراق الذي دعم تحرر فلسطين، هو ذاته الذي مارس القمع على الأكراد في العراق، والحكومة السورية التي تدعي تمثيل محور المقاومة ضد إسرائيل في المنطقة، تمارس الاستبداد ضد الشعب السوري ومنهم اللاجئين الفلسطينيين، وفي لبنان هناك جيل ثالث ورابع من اللاجئين الفلسطينيين المحرومين من أبسط حقوقهم، ناهيك عن جامعة الدول العربية التي وقفت ضد قمع الفلسطينيين رسمياً في السابق، بينما صمتت لفترة طويلة عن طمس يتعرض له الأمازيغ وغيرهم من الأقليات العرقية والدينية في العالم العربي!
يرجع مقدسي ذلك التناقض العربي إلى سببين، أولهما أن هذه الدول بعد استقلالها من الاستعمار، أوحلت بذاتها بمؤامرات التقسيم والسيطرة، والثاني أن معاني التحرر من الاستعمار تحولت لدى البعض إلى حالة استعداء للأقليات، خاصة مع تورط بعض المجموعات من الأقليات في خدمة الاستعمار الفرنسي والبريطاني سابقاً، أو الولايات المتحدة وإسرائيل في الوقت الحالي.
هوية عربية استعمارية
ويرى الكاتب أن هناك مشكلة أخرى ظللت الهوية العربية بعد تبلور القوميات العربية في منتصف القرن العشرين، حيث ربطت الهوية العربية بسيادة عسكرية أحادية البعد تستثني كل الاختلافات الاثنية والدينية من الهوية العربية، وهي فكرة ساهمت الهزائم العربية ضد إسرائيل ببلورتها، مما ساهم في انصهار مفهوم العروبة بفعل محفزات دينية وسياسية وثقافية متعددة.
تصنيفات على أساس عرقي بين عربي وكردي وأمازيغي لطالما أسفرت عن صراعات جيوسياسية في المنطقة لم تكن محصلتها إلا صفراً
يشير الكاتب مقدسي إلى أنه منذ القرن التاسع عشر، أخذت خارطة تعدد تتمدد في العالم العربي كجزء من الاستجابة أو الارتباط أو المقاومة مع العالم الغربي، من خلال تفاعلات ثقافية ولغوية وعرقية وزيجات مختلطة مع شعوب غير عربية، مثل الأتراك والأمازيغ والأكراد والأرمن والإيرانيين والأفارقة وجنوب آسيا، فانبثق عن هذه التفاعلات تصنيفات على أساس عرقي بين عربي وكردي وأمازيغي لطالما أسفرت عن صراعات جيوسياسية في المنطقة لم تكن محصلتها إلا صفراً، فكما أن العربي لا يكون عربياً بحق إلا إذا تجاوز الاختلافات الدينية، فلن يكون عربياً متحرراً أيضاً إلا بتجاوز الاختلافات الاثنية الموروثة في العالم العربي.
ومن وجهة نظر الكاتب، هنا تظهر فلسطين كنموذج لهذا الشكل المتقدم من الهوية العربية، بالاختلاف الذي تجاوزه الفلسطينيون دينياً وعرقياً في طريق النضال ضد الاحتلال، فحول عدالة قضية فلسطين لطالما التف التقدميون من الأرمن والأكراد والأتراك إلى جانب العرب، كما أن الالتفاف حول تحررها يساهم في نبذ خرافات القومية العربية الاستعمارية، ويتعداها إلى انتماء علماني واسع لا يخضع لسيادة بيولوجية او عرقية أو تاريخية أو لغوية على حد قول الكاتب.