بقلم سمية الغنوشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لم تكشف الإبادة في غزة عن عنف دولة الاحتلال فحسب، بل عن المنظومة التي وفرت لعقود لها الحماية، أما فوز زهران ممداني، فهو أول تعبير انتخابي عن هذا الوعي الجديد الذي تشكّل في الشارع العالمي.
لقد حدث شيء غير عادي في نيويورك، ففي مدينةٍ اعتادت أن ترسم فيها القوة المالية والإجماع الإعلامي حدود الممكن سياسيًا، استطاع شاب مسلم اشتراكي ديمقراطي أن يهزم حاكمًا سابقًا مدعومًا من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومن شبكات المال التي اعتادت أن تحدد مسبقًا نتائج الانتخابات.
انهالت الاتهامات المألوفة على ممداني من وسائل الإعلام السائدة: “راديكالي”، “شيوعي”، “مسلم معادٍ للسامية”، لكن الاتهامات أخفقت هذه المرة وفاز ممداني.
لم يكن فوزه ضد الجمهوريين فحسب، بل ضد تحالف مؤسسي واسع، فقد أعلن ترامب دعمه العلني للحاكم السابق أندرو كومو، بينما أحجم قادة الحزب الديمقراطي عن مساندة ممداني حتى الأيام الأخيرة، وحتى حين فعلوا جاء ذلك على مضض.
تحوّلت المعركة الانتخابية إلى مواجهة مزدوجة بين اليمين الجمهوري والقيادة الوسطية للحزب الديمقراطي التي احتكرت توجهاته لعقود، حيث يمثل فوز ممداني اختراقًا حقيقيًا لليسار داخل حزبٍ طالما هيمنت عليه سياسات الممولين ومناورات التوازن السياسي.
صحيح أن هذه الانتخابات لم تكن رئاسية، بل محلية تدور حول قضايا النقل والإسكان والخدمات العامة، غير أن انتخابات نيويورك المحلية طالما كانت مؤشرًا على الاتجاه الوطني في الولايات المتحدة، فهي تكشف أين يتحرك التيار قبل أن يصبح ظاهرًا للعيان، واليوم، هذا التيار تغيّر.
تراجع مشروع ترامب
في فرجينيا، فازت آبيغيل سبانبيرغر بمنصب الحاكمة بعد أربع سنوات من سيطرة الجمهوريين، وفي نيوجيرسي، هزمت ميكي شيريل خصمها جاك سياتاريلي بشكل حاسم، أما في كاليفورنيا، فقد صوّت نحو ثلثي الناخبين لصالح “المقترح 50” الذي ألغى استراتيجيات إعادة ترسيم الدوائر الانتخابية على الطريقة الجمهورية المستوردة من تكساس.
وعند جمع هذه النتائج معًا، يتضح أن مشروع ترامب السياسي القائم على الخوف من المهاجرين، والإسلاموفوبيا، وتوجيه الغضب الشعبي، وتحالف المال المركّز بدأ يفقد زخمه، فقد توقّف اندفاعه، وهو يواجه الآن قوة اجتماعية جديدة: جيل شاب متنوع الأعراق، من الطبقة العاملة، والمهاجرين، والمهمشين.
في الواقع لم يكن مشروع ممداني قد بني عبر رعاية النخب، بل من القاعدة، حيث تشكلت حملته أفقيًا من طلاب وأُجراء وشبان من الطبقة العاملة ومهاجرين غير موثّقين وأسر سوداء ولاتينية، وشباب بيض فقدوا الثقة بالليبرالية الإدارية. وقد تم تمويل الحملة بتبرعات صغيرة، واستمرت عبر التواصل المباشر مع الناس، لقد تغلبت الحركة على المال، رغم عشرات الملايين التي ضخّتها النخب التجارية وجماعات الضغط المؤيدة لدولة الاحتلال، مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك).
والأهم، أن ممداني حصل على أكثر من ثلث أصوات اليهود، مُسقطًا بالوقائع لا بالكلام الادعاء القائل إن التضامن مع فلسطين هو معاداة للسامية.
غزة كسرت الصمت
لم يكن هذا التحول سياسيًا فحسب، بل عالميًا أيضًا، ففي هولندا، كُسر نفوذ اليميني المتطرف خيرت فيلدرز بعد صعود ائتلاف يسار الوسط، وفي بريطانيا، تجاوزت عضوية حزب الخُضر حاجز الـ150 ألفًا بعدما سمّى الأمور بأسمائها ووصف ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية، بينما رفض حزب العمال ذلك، وكان من أبرز الأصوات في هذا التحول زاك بولانسكي، الزعيم اليهودي الشاب لحزب الخُضر، الذي تحدث بوضوح أخلاقي افتقر إليه الحزب التقليدي.
وفي ويلز، لم تتردد حركة “بلايد كمري” في إدانة الإبادة الجماعية، وطالبت بفرض حظرٍ على تصدير السلاح إلى دولة الاحتلال، ودعمت الاعتراف بالدولة الفلسطينية في البرلمان الويلزي، وشاركت علنًا في التظاهرات الشعبية، فحافظت على دعمها الانتخابي.
في إيرلندا، استعادت حركة شين فين موقعها كصوتٍ مناهض للاستعمار عبر خطابها الحازم بشأن غزة، ما عزز الدعم الذي تحظى به في أوساط الطبقات العاملة والشباب والجمهوريين القدامى.
وفي 24 أكتوبر/تشرين الأول 2025، فازت كاثرين كونولي فوزًا كاسحًا بنسبة 63.4% من الأصوات، أي أكثر من 914 ألف صوت تفضيلي أول، وهو الأعلى منذ تأسيس الرئاسة الإيرلندية، وقد حمل فوزها رسالة واضحة مفادها أن الناخبين يكافئون من يتحدثون بوضوح أخلاقي.
وفي فرنسا، صعد حزب فرنسا الأبية ليصبح القوة المعارضة الأولى، مستندًا إلى دعم واسع من الشباب والمهاجرين المسلمين والأحياء العمالية.
وهكذا أصبحت الأنماط كلها تشير إلى الاتجاه ذاته، وضوح الموقف من غزة صار معيار الشرعية، والتردد بات علامة ضعف، والمراوغة أصبحت تواطؤًا، والسبب بسيط: غزة حطّمت آلة الصمت.
لم تكشف الإبادة الجماعية عنف دولة الاحتلال فقط من قصف وحصار وتهجير قسري بل كشفت أيضًا عن النظام الذي حماها: الاصطفاف الإعلامي، وترهيب الممولين، والاستخدام الممنهج لتهمة “معاداة السامية” لقمع أي صوت معارض.
سقوط المحرّمات
طوال عقدٍ كامل، رسمت الشعبوية اليمينية أفق الممكن السياسي، فقد تحرك اليمين التقليدي يمينًا أكثر، وسار اليسار المعتدل وراءه. لكن جاءت غزة، وفي أعقابها، خرجت الملايين إلى الشوارع في لندن ونيويورك وبرلين وشيكاغو وجوهانسبرغ وساو باولو وجاكرتا وباريس. لقد عاد اليسار إلى الشارع لا كخطابٍ بل كـ حركة، استعاد لغته التضامنية، وإحساسه بالعدالة، ووعيه التاريخي، ومن رحم هذا الوعي الجديد، برز زهران ممداني، لم يكن هو من صنع اللحظة، بل أحد تعبيراتها السياسية الأولى.
حتى بعض أصوات اليمين الأمريكي بدأت تطرح ما كان حتى الأمس القريب محرّمًا: أن السياسة الخارجية الأمريكية قد لا تُدار وفق المصلحة الوطنية، بل تبعًا لولاء أعمى لدولة أجنبية. لم يعد السؤال همسًا، بل بات يُطرح علنًا، لقد انهار التابو، صحيح أن غزة تعرّضت للإبادة، لكنها لم تصمت سياسيًا، فقد كسرت الإجماع الأمريكي، وأيقظت الضمير العالمي، وأعادت التاريخ إلى مساره الحقيقي.
فوز ممداني لا يعلن ولادة نظامٍ جديد، بل يكشف شيخوخة النظام القديم، فالمعادلات تغيّرت، والجمهور لم يعد مجرد متفرج، والسلطة لم تعد تُدار خلف الستار كما كانت، والمرحلة المقبلة ستكون لمن يدرك ذلك، لمن يفهم أن زمن الصمت قد انتهى.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







