في الحرب الأخيرة.. ضربة إيرانية لاقتصاد الاحتلال وصفقة رابحة لترامب

بقلم أحمد القاروط

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

أعادت الهجمات الصاروخية الإيرانية الأخيرة على دولة الاحتلال رسم مسار الصراع، محولةً إياه من حالة حرب حركية إلى هجوم استراتيجي ضد البنية التحتية الاقتصادية والمالية التي تدعم سلطة الدولة العبرية.

فما بدأ كضربة انتقامية تحول إلى هجوم متعدد الأبعاد، لا يهدف فقط إلى إلحاق خسائر فورية بدولة الاحتلال، بل يرمي أيضًا إلى زعزعة استقرار الأسس المالية واللوجستية لاقتصاد الحرب فيها.

ولم تكن الضربة الصاروخية التي استهدفت منزل داني نافيه الرئيس التنفيذي لشركة تطوير سندات إسرائيل مصادفة، فهو ليس مجرد شخصية بيروقراطية بارزة بل هو مهندس عملية بيع سندات الاحتلال عالمياً.

فمنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، ساهمت إدارة نافيه للسندات في جذب أكثر من 5 مليارات دولار من تدفقات رأس المال من الشتات والمشترين المُؤسَسيين، بما في ذلك 1.7 مليار دولار من الهيئات العامة الأمريكية، وأصبحت هذه السندات، المعزولة عن الأسواق الثانوية والمباعة مباشرةً، شريانًا ماليًا حيويًا لدولة في حالة حرب.

وبالضربة لمنزل نافيه، استهدفت طهران آلية تحصيل الديون الإسرائيلية في أكثر نقاطها ضعفاً ألا وهي ثقة المستثمرين، وبذلك، أشارت إلى الأسواق العالمية بأن أي عقدة اقتصادية أو مالية إسرائيلية ليست بمنأى عن الضرر. 

وغني عن القول أن ذلك لا يمثل مجرد تعطيل للكوادر فحسب، بل هو محاولة لتشويه سمعة البنى التحتية المالية في دولة الاحتلال التي تصب في مجهود الحرب.

وفي الوقت نفسه، تشير هجمات إيران على الحي المالي في تل أبيب والبنية التحتية الاستراتيجية لميناء حيفا ومصفاة تكرير النفط إلى مبدأ الاستنزاف المتماسك للبنية المالية، حيث أدت الضربتان المزدوجتان الإلكترونية والنارية إلى تعطيل عمليات التكرير الحيوية لإمدادات الطاقة الصناعية والمدنية على حد سواء.

يتعين على دولة الاحتلال، التي تعاني بالفعل من ضغوط جراء ارتفاع نفقاتها الحربية، الآن أن تواجه اختناقات في إمدادات الوقود وتكاليف متصاعدة في سلاسل الإمداد والإنتاج

الاختناق البحري

جاءت الضربة الأشد وطأة على اقتصاد الاحتلال من خلال القطاع البحري العالمي، ففي 20 يونيو/حزيران، أعلنت شركة ميرسك، أكبر شركة شحن حاويات في العالم، تعليق جميع رحلات السفن إلى ميناء حيفا.

لقد حول خطر تلقي المزيد من ضربات الانتقام الإيراني التهديد إلى إقصاء للسوق، صحيح أنه لم يُعلن عن أي حصار بحري، لكن التأثير كان ذات تأثير الحصار، فمع تجاوز أقساط التأمين على الشحنات المتجهة إلى دولة الاحتلال نسبة 1% من قيمة السفينة، دخل الاقتصاد البحري العبري في حالة حظر فعلي.

وقد أدى خروج شركة الشحن العملاقة ميرسك من حيفا إلى قطع شريان الحياة البحري عن دولة الاحتلال محوّلاً التهديد إلى حظر فعلي يتجاوز بكثير أضرار أزمة الشحن السابقة في البحر الأحمر التي سببها حصار الحوثيين.

وتُعدّ حيفا البوابة الرئيسية لدولة الاحتلال على البحر الأبيض المتوسط ومنها تحصل على الآلات الصناعية والأدوية والواردات الاستراتيجية، وبدونها، يُصبح اقتصاد الاحتلال هشاً وعرضةً للتضخم.

لقد ارتفعت تكاليف الاستيراد، ومن المتوقع أن تتسع فجوات المخزون وستُضطر حكومة نتنياهو إلى دعم الخدمات اللوجستية بتكلفة مالية باهظة أو الاعتماد على شركات شحن دون المستوى تعمل بموجب أنظمة “أعلام الملاءمة”.

لم تؤكد شركة ميرسك استئناف رحلات السفن في ميناء حيفا إلا بعد إعلان وقف إطلاق النار الذي توسط فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لتعيد بذلك فتح خدمات الاستيراد والتصدير، ومع ذلك، كان الضغط خلال الاشتباك كبيرًا ومنع دولة الاحتلال من تجاهل تكلفة حربها.

المرونة الاستراتيجية

في المقابل، أنفقت إيران الحد الأدنى لتحقيق أقصى قدر من الاضطراب، وتُعتبر عملياتها الصاروخية، التي تُقدر قيمتها بما يتراوح بين مليارين وثلاثة مليارات دولار، استثمارات استراتيجية.

فقد حافظت الحكومة على استقرار الاقتصاد الكلي من خلال ضوابط صارمة على العملة، ودبلوماسية النفط خارج السوق، والتقشف الانتقائي.

باستخدام الردع النفسي كسلاح، حققت طهران ما عجزت عنه سنوات من العقوبات أي جعل النظام المالي للاحتلال يبدو غير مستقر وضعيفًا وغير مستدام من حيث الأساس.

ولطالما عاشت إيران تحت وطأة العقوبات والحصار، وطوّرت القدرة على تحمل مثل هذه الظروف لعقود، وقد منحها ذلك مرونةً أقوى تتفوق بشكل حاسم على اقتصاد الحرب العبري، الذي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على أسواق رأس المال العالمية، والدعم السياسي الغربي، والهيمنة العسكرية قصيرة الأمد.

وعلى عكس دولة الاحتلال، التي لا تستطيع تحمل اضطراب طويل الأمد دون المخاطرة بالانهيار الاقتصادي والسياسي، فإن نظام إيران مبني على البقاء من خلال الاستنزاف.

بل إن صبر طهران الاستراتيجي، الذي اكتسبته عبر عقود من الضغوط، يمنحها عزيمة وطنية أعمق تهدد بالصمود واستنزاف قدرة الدولة العبرية على تمويل وتبرير حرب مطولة.

الانهيار المالي الحر

ولا تقتصر أزمة الاحتلال الاقتصادية على التكلفة، بل تشمل أيضًا الثقة، حيث انخفضت قيمة الشيكل بشكل مطرد منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، أما عوائد السندات فهي آخذة في الارتفاع، فيما تُحتسب عقود مقايضة التخلف عن سداد الائتمان بمخاطر مرتفعة، وينضب الاستثمار الأجنبي وتنهار الشركات الصغيرة والمتوسطة كما خُفِّضت التصنيفات الائتمانية.

لقد تحوّلت ساعات العمل الضائعة في المدن الخاضعة لحالة التأهب إلى صدمات إنتاجية وعجز ضريبي، وها هي البطالة في ارتفاع والغضب الشعبي يتزايد.

وقد ردّت حكومة تل أبيب على ذلك كله برفع ضريبة القيمة المضافة، وخفض الإنفاق الاجتماعي، وإصدار المزيد من الديون المحلية لكن ذلك ليس خطة إنعاش بل هو فرز مالي.

إذ بات الإنفاق على التعليم والصحة والبنية التحتية العامة يستنفذ في تمويل العمليات العسكرية الجارية، وستستمر التكاليف طويلة الأجل حتى بعد انتهاء الحرب، ورأس المال البشري يتآكل، ورأس المال وهروب البشر يتزايدان، والثقة في الإدارة الاقتصادية للدولة تتداعى.

والآن، ولأول مرة منذ نصف قرن، تُصدر دولة الاحتلال نداءً دوليًا لا لطلب الأسلحة، بل لطلب المال، حيث طلبت تل أبيب رسميًا من دول الخليج وألمانيا وبريطانيا وفرنسا المساهمة بمساعدات اقتصادية لدعم موقفها في زمن الحرب، وهذا ليس تواصلًا استراتيجيًا، بل هو اعتراف بالإرهاق.

لم تعد الحرب قابلة للاحتواء ماليًا داخل الدولة العبرية، ويكشف هذا النداء أيضًا عن تناقض مُقلق، فالدولة التي كانت تُشيد بالاعتماد على الذات اقتصاديًا أصبحت تعتمد على التمويل الخارجي لمجرد الحفاظ على ملاءتها المالية، وهذا ليس مرونة مالية، بل هو انهيار مالي بطيء.

مقامرة انتهازية

حققت استراتيجية إيران أهم نتائجها حتى الآن والتي لا تتمثل في تدمير الأصول العسكرية للاحتلال بل في زعزعة استقرار جهاز تمويل الحرب.

وقد أدت الضربات إلى تفكك أوسع لممرات الشحن، وأسواق السندات، ومعنويات المستثمرين، وثقة الجمهور، فتل أبيب لا تُقاتل على سبع جبهات عسكرية فحسب، بل تُقاتل الآن من أجل البقاء الاقتصادي.

ومن المفارقات أن الهجوم الإيراني على دولة الاحتلال ساعد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على صد الانتقادات الداخلية المتزايدة بإعادة صياغة الصراع على أنه صراع وطني وجودي بدلاً من كونه مسؤولية سياسية.

ومع ذلك، فإن النجاح المحدود للضربة الأمريكية على المنشأة النووية الإيرانية في 22 يونيو/حزيران يؤكد أن هذه ليست حرب انتصارات سريعة، بل حرب استنزاف، حيث سيحدد العزم الاستراتيجي النتيجة في النهاية.

إن وقف إطلاق النار الذي أنهى الجولة الأخيرة من الأعمال العدائية بين إيران ودولة الاحتلال لا يعني الحل، بل إعادة التوازن.

وفي ظل هذا الإرهاق المتبادل، انتهزت الولايات المتحدة، بقيادة ترامب، الفرصة لإعادة تموضعها ليس فقط كحكم، بل كمهندس للنظام الإقليمي لما بعد الصراع.

لا تعكس تحركات ترامب الأخيرة سخاءً استراتيجيًا، بل مناورة انتهازية، فقد استغل مكاسب إيران الاستراتيجية واستنزاف الاحتلال المالي لإعادة تأكيد النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط من خلال إعادة تشكيل البنية التحتية، والتبعيات الاقتصادية، والتحالفات السياسية

وقد كان من التطورات المحورية التي سبقت التصعيد تدشين إيران لخط سكة حديد مباشر مع الصين، مما قلص أوقات الشحن إلى حوالي 15 يومًا، والأهم من ذلك، أنه يُسهّل المعاملات التي تتجاوز نطاق الأنظمة المالية القائمة على الدولار وتطبيق العقوبات.

وبانضمامها إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، أشارت إيران إلى خطوة متعمدة لإعادة توجيه مستقبلها الاقتصادي بعيدًا عن النظام الذي يقوده الغرب.

وتشير الضربات الأمريكية الإسرائيلية المشتركة اللاحقة ضد البنية التحتية الإيرانية إلى أن هذا التحول في البنية التحتية وليس التخصيب النووي وحده كان يُنظر إليه جزئيًا على أنه تهديد رئيسي.

الخطط الأمريكية

وعقب وقف إطلاق النار، اعتمدت الولايات المتحدة نهجًا قائمًا على المعاملات لاحتواء المزيد من المكاسب الإيرانية.

ويعكس قرار إدارة ترامب بالسماح للمصافي الصينية باستئناف شراء النفط الإيراني، والذي أُلغي لاحقًا، استخدامًا مدروسًا لتخفيف القيود بشكل انتقائي لإبطاء التقارب الاستراتيجي لإيران مع الصين.

هذا ليس تنازلًا، بل محاولة لجذب إيران إلى ترتيبات مالية تُحكمها المؤسسات الأمريكية، وبالتالي الحفاظ على درجة من السيطرة على سيولتها وانكشافها التجاري، وفي موازاة ذلك، كثّفت الولايات المتحدة استخدامها للتمويل متعدد الأطراف كأداة استراتيجية ضد إيران.

وعلى الرغم من أن منحة الكهرباء التي قدمها البنك الدولي لسوريا صُممت كمبادرة تنموية، إلا أنها تُضعف نفوذ إيران على مستقبل سوريا، وتُبذل جهود مماثلة في لبنان، تستهدف شبكات الخدمات الموازية لحزب الله، حيث تهدف هذه الخطوات إلى تثبيت البنية التي تقوم عليها اتفاقيات السلام الإبراهيمي.

وفي ظلّ الضغوط المالية التي تواجهها دولة الاحتلال وتراجع مصداقيتها في مجال الردع، يُعدّ الهدوء الإقليمي أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على التكامل الاقتصادي مع دول الخليج وحماية جدوى مشاريع مثل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا وهي مشاريع أبرزت قدرة إيران على تعطيل ممرات الشحن وتدفقات الطاقة هشاشتها.

باختصار، تنتهج الولايات المتحدة استراتيجيةً قائمة على موازنة البنية التحتية والتطويق المؤسسي، وهي تسعى إلى تحييد الزخم الاستراتيجي لإيران، ليس من خلال التصعيد، بل من خلال التكيف الانتقائي والأدوات الاقتصادية والاحتواء.

ويُمثّل هذا النهج تحوّلًا من الهيمنة العسكرية إلى النفوذ الهيكلي، يهدف إلى إدارة تناقضات النظام الإقليمي الحالي، بدلًا من حلها.

ومن خلال مبادرات مثل خطة درع إبراهيم، تأمل الولايات المتحدة في تحويل الزخم الحربي للاحتلال إلى نظام مستدام يرتكز على الردع الاستراتيجي، والتكامل الاقتصادي، والتطبيع السياسي.

للاطلاع على المقال من (هنا)

مقالات ذات صلة