بقلم جوناثان كوك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في الآونة الأخيرة، كانت هناك موجة من الادعاءات العنيفة وغير المدعمة بأدلة ضد طلاب وأكاديميين بحجة معاداة السامية، وفقاً لدراسة جديدة حول الجامعات البريطانية، حيث كشفت الدراسة أنه، وخلال 5 سنوات حتى نهاية 2022، فإن 38 من أصل 40 قضية مرفوعة ضد أساتذة وطلاب واتحادات طلاب وجمعيات لم يتم العثور على أي دليل يدعم اتهامات معاداة السامية، حتى أن جلسات الاستماع لم تنته في آخر قضيتين.
وأوضحت الدراسة الأضرار الجانبية الناجمة بحق المتهمين عن تلك الادعاءات الكاذبة، من معاناة شخصية وإضرار بالسمعة المهنية، فضلاً عن التأثير المروع على الحرية الأكاديمية في المجتمع الجامعي بشكل عام.
لا يقتصر استخدام معاداة السامية كسلاح في الأوساط الأكاديمية على الجامعات، فقد تم استخدام تكتيكات تشويه مماثلة لسنوات من أجل إسكات النشطاء السياسيين وجماعات حقوق الإنسان والأيقونات الثقافية والفلسطينيين، من أجل تطهير الخطاب السياسي والاجتماعي من أي انتقاد موجه لإسرائيل
من جانب آخر، فقد قامت مجموعة”بريسمز”، وهي مجموعة تمثل أكاديميين بريطانيين متخصصين بشؤون الشرق الأوسط، بنشر نتائج استطلاع تشير إلى أن الادعاءات بحجة معاداة السامية مرشحة للزيادة، بعد أن بدأت الجامعات باعتماد تعريف منقح ومثير للجدل لمعاداة السامية، وهو تعريف وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة عام 2016، حيث وافقت ثلاثة أرباع الجامعات على التعريف بعد أن هدد وزير التعليم، غافين ويليامسون، عام 2020 بقطع التمويل عن أي جامعة ترفض التعريف.
ويشير التقرير، الذي نشر نتائج الاستطلاع، إلى أن أغلبية الأمثلة التوضيحية التي قدمها التحالف الدولي في تعريفه، تتناقض مع التعريف الرئيسي وتحول المعنى بعيداً عن التركيز الأساسي لكراهية اليهود إلى أي انتقاد لإسرائيل، مما أعطى لمؤيدي إسرائيل مصيدة تمكنهم من استخدامها لتشويه سمعة أي شخص يعبر عن تضامنه مع الفلسطينيين ويخيف المتفرجين ويدفعهم إلى الصمت!
هذا هو الهدف في نهاية المطاف، فالتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست نشأ بالأصل من جهود سرية للحكومة الإسرائيلية لطمس الفروق التقليدية بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية لحماية نفسها من المنتقدين، بما في ذلك جماعات حقوق الإنسان الذين يسلطون الضوء على الفصل العنصري الإسرائيلي.
إسكات المنتقدين
ينطوي الترويج لتعريف التحالف الدولي لمعاداة السامية على خطر انتهاك التزامات بريطانيا القانونية بحماية حرية التعبير، فحكومة المملكة المتحدة هي إحدى الدول الموقعة على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ومن المفارقة أنها أصدرت قانون التعليم العالي المتعلق بحرية التعبير في مايو الماضي!
قانون تم تصميمه ظاهرياً “لضمان قدرة الطلاب على التحدث بحرية داخل وخارج الفصل الدراسي مع توفير المزيد من الحرية للأكاديميين والمدرسين”، لكن الأدلة التي جمعتها “بريسمز”، بدعم من أبحاث مركز الدعم القانوني الأوروبي، تدحض تلك الادعاءات بقوة، فمعاداة السامية بشكلها المسلح، إن صح التعبير، هذا تجعل مجرد مناقشة الجرائم الإسرائيلية محظورة مع الوقت!
تظهر إحصاءات حزب العمل أن أعضاء الحزب من اليهود أكثر عرضة بما يقارب 6 أضعاف عن غير اليهود، للخضوع للتحقيق حول معاداة السامية، وأكثر عرضة للطرد من الحزب بنحو 10 مرات!
ولا يقتصر استخدام معاداة السامية كسلاح في الأوساط الأكاديمية على الجامعات، فقد تم استخدام تكتيكات تشويه مماثلة لسنوات من أجل إسكات النشطاء السياسيين وجماعات حقوق الإنسان والأيقونات الثقافية والفلسطينيين، من أجل تطهير الخطاب السياسي والاجتماعي من أي انتقاد موجه لإسرائيل.
هذا السياق يتيح للمملكة تعزيز الروابط التجارية مع إسرائيل وتمرير تشريع يمنح إسرائيل حماية خاصة، في وقت تم فيه التوصل إلى إجماع في المجتمع الدولي لحقوق الإنسان على أن إسرائيل دولة فصل عنصري، خاصة بعد أن ضم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى ائتلافه الحكومي شخصيات فاشية.
علاوة على ذلك، فإن مشروع قانون النشاط الاقتصادي للهيئات العامة، الذي طرحته الحكومة، سوف يحرم السلطات المحلية من حق دعم حملات مقاطعة إسرائيل وحركة BDS، فالحقيقة المتناقضة أنه كلما زاد الإعلان عن جرائم إسرائيل، تقل إمكانية التحدث عنها أو القيام بأي شيء لرفضها!
شكوى قانونية
يعد تقرير “بريسمز” علامة متأخرة على النضال ضد الحظر، حاله كحال القرار الذي اتخذه نشطاء سياسيون يهود مؤخراً لتنبيه لجنة المساواة وحقوق الإنسان في الحكومة، إلى المعاملة التمييزية لحزب العمال ضد الأعضاء اليهود داخل الحزب بقيادة كير ستارمر، حيث أرسل الصوت اليهودي من أجل العمل، الذي يمثل اليهود في الحزب، شكوى رسمية إلى حزب العمل، متهماً الحزب “بالتمييز غير القانوني ضد أعضائه اليهود”.
جاء في نص الشكوى أن “اليهود يتعرضون للعقاب بسبب انتقادهم الصريح لإسرائيل بحسب تعريف التحالف الدولي”، وأن “الأعضاء اليهود في حزب العمل يشعرون بمسؤولية أخلاقية خاصة للتحدث علنًا عن الوحشية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين لأن هذا القمع تمارسه إسرائيل باسم جميع اليهود”!
تأكيداً على ذلك، تظهر إحصاءات حزب العمل أن أعضاء الحزب من اليهود أكثر عرضة بما يقارب 6 أضعاف عن غير اليهود، للخضوع للتحقيق حول معاداة السامية، وأكثر عرضة للطرد من الحزب بنحو 10 مرات!
في عهد كوربين، كانت اللجنة متحمسة للتحقيق، حتى مع ضعف الأدلة، والآن رغم شكوى الصوت اليهودي الواضحة، إلا أن اللجنة تتجاهل الشكوى، مما يدفع للتساؤل حول حقيقة أن يخضع ستارمر لتحقيق مماثل لكوربين، خاصة عندما تبدو الأدلة ضد أعضاء الحزب اليهود واضحة؟
وتشير الشكوى أيضاً إلى أن المضايقات التي يتعرض لها الأعضاء اليهود اليساريون من قبل المكتب الرئيسي لحزب العمال، تتضمن “نظامًا تأديبيًا قاسيًا” يُخضعهم للتحقيق، فضلاً عن عدم أخذ شكاواهم على محمل الجد، فقد تم التحقيق مع 11 عضوًا من أصل 12 عضوًا في اللجنة التنفيذية لمجموعة الصوت اليهودي من أجل العمل!
قبل عام، كتب مستشار حكومة الظل السابق، جون ماكدونيل، إلى الحزب يحذر فيه من المعاملة غير المحترمة للأعضاء اليهود، كما أشارت جيني مانسون، إحدى المؤسسين لمجموعة الصوت اليهودي، إلى أنه كان يُطلب من الأعضاء اليهود، في كثير من الأحيان، التدرب على كيفية عدم معاداة السامية، من وجهة نظرهم، بعد تأديبهم بسبب ما تم اعتباره سلوكاً معادياً للسامية، كشرط لبقائهم أعضاءاً في الحزب!
تقول مانسون “إنها خدعة قاسية، بل من الوحشية وصف هؤلاء الأعضاء اليهود بأنهم معادون للسامية، فقط لأن لديهم خبرة وفهم عميق لمعاداة السامية الحقيقية”، وأضافت “حزب العمال لا يتسامح مع وصفهم بأنهم نوع خاطئ من اليهود فحسب، بل يؤيد ضمنًا هذا التصنيف العنصري من خلال رفض التعامل مع شكواهم وما يتعرضون له من مضايقات”.
دفن الأدلة!
من المرحج أن تؤدي شكوى الصوت اليهودي داخل الحزب إلى إحراج ستارمر، فهي تؤكد الادعاءات التي وُجهت ضده سابقاً من قبل سلفه جيرمي كوربن، فكوربين، على عكس ستارمر، لم تكن تحوم حوله أي دلائل حقيقية سوى تلميحات إعلامية بأن حزب العمال كان يمارس تمييزاً ضد اليهود أو الانغماس في معاداة السامية خلال رئاسته للحزب، باستثناء شكوى قدمتها مجموعتان مؤيدتان لإسرائيل داخل الحزب عام 2018، وقد كان ذلك أول تحقيق من نوعه بحق حزب كبير.
لكن، حتى بالاعتماد على تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية، فلم تتمكن لجنة المساواة وحقوق الإنسان، وقتها، من تحديد سوى حالتين لما وصفته بـ “التحرش المعادي للسامية” كانتا فرديتين وليس من قبل هياكل حزبية على أية حال.
كان الاستنتاج الرئيسي، والذي تم دفنه في التقارير والتغطية الإعلامية آنذاك، هو أنه عندما تدخل المسؤولون في الحزب خلال رئاسة كوربين، في القضايا التأديبية المتعلقة بذلك النوع من التمييز، فقد كانت تدخلاتهم لصالح من قدموا الشكوى، بعبارة أخرى، كان الحزب يحكم بشكل غير عادل عندما لم تكن هناك أدلة كافية.
لم تكن تلك النتيجة التي تمثل حماساً مفرطاً لتعليق أو طرد الأعضاء بتهمة معاداة السامية مفاجئة، إذا ما أخذنا بالحسبان أن وسائل الإعلام المحلية كانت بأكملها تصور أن حزب العمال آنذاك كان وكراً لمعاداة السامية!
النضال ضد استخدام تهمة معاداة السامية مهم للغاية، لأن الأمر يتعلق بكشف مدى الزيف والتزوير الموجود في أعماق السياسة البريطانية!
في عام 2022، خلص تحقيق مستقل أجراه مارتن فورد، بتكليف من ستارمر، أن قضية معاداة السامية تم استخدامها كسلاح لأغراض حزبية متعلقة بإلحاق الضرر بكوربين وأنصاره من تيار اليسار لصالح تيار اليمين داخل حزب العمال، فقد كشف تحقيق فورد عن تقرير داخلي مسرب أظهر تآمر تيار اليمين داخل الحزب ضد كوربين، وذلك بالتباطؤ في القضايا التأديبية بغرض إحراجه، وتخريب حملته الانتخابية لعام 2017.
يذكر أن ستارمر بذل قصارى جهده من أجل دفن تقرير فورد منذ نشره قبل عام، بل هو مستعد للمخاطرة أيضاً بمبلغ 4 ملايين جنيه استرليني ككلفة قانونية لملاحقة المسؤولين السابقين حول كوربين والذين يتهمهم ستارمر بتسريب التقرير!
سياسة زائفة
من المفارقات المثيرة للسخرية، أنه قد أصبح من الممكن الآن، تحت قيادة ستارمر، قياس التمييز ضد اليهود داخل حزب العمال، حتى أن ذلك طال أعضاء يهود انتقدوا إسرائيل، وهي نتيجة كان قد حذر منها كوربين وأنصاره صراحة في السابق.
رغم ضعف الأدلة ضد كوربين، إلا أن لجنة المساواة وحقوق الإنسان فرضت على حزب العمل “خطة عمل لمنع استمرار أو تكرار الأعمال غير القانونية المتعلقة بمعاداة السامية”، وأضافت أن الخطة “قابلة للتنفيذ قانوناً من قبل المحكمة إذا لم يتم تنفيذها طوعاً من قبل الحزب”.
في عهد كوربين، كانت اللجنة متحمسة للتحقيق، حتى مع ضعف الأدلة، والآن رغم شكوى الصوت اليهودي الواضحة، إلا أن اللجنة تتجاهل الشكوى، مما يدفع للتساؤل حول حقيقة أن يخضع ستارمر لتحقيق مماثل لكوربين، خاصة عندما تبدو الأدلة ضد أعضاء الحزب اليهود واضحة؟ ألا يعد تجاهلها انتهاكاً صارخاً لما سمي “خطة العمل” التي وضعتها لجنة المساواة؟! الحقيقة الصادمة أن اللجنة قامت بإعفاء الحزب من الخطة الخاصة في يناير الماضي!
أكد كوربين، في تصريح سابق له، بعد نشر تقرير اللجنة في عهده عام 2020، أن حجم معاداة السامية في حزب العمال تحت قيادته “كان مبالغاً فيه لأسباب سياسية من قبل خصومنا داخل الحزب وخارجه” على حد قوله، والحقيقة أن هؤلاء الخصوم قد فازوا بالفعل.
لم تكن الضجة حول التمييز ضد اليهود متعلقة باليهود بطبيعة الحال، كانت متعلقة بإسكات المنتقدين لإسرائيل من ناحية، وبمنع الاشتراكي المعتدل كوربينمن الاقتراب من المقر الموجود في العمارة رقم 10 في شارع داونينج ستريت، فليس لدى ستارمر ما يخشاه، فلا أحد يهتم بمدى مضايقة حزبه لليهود عندما يكون هؤلاء اليهود من تيار اليسار!
أما معاداة السامية فلا تزال سلاحاً لسحق اليسار سياسياً، وتستخدم إسرائيل كهراوة تضرب بها، موجهة في الوقت الراهن نحو الجامعات، في المكان الذي يمكنه كشف مدى زيف ادعاء معاداة السامية وتسييس الحملة ضد اليسار، ولهذا السبب فالنضال ضد ذلك مهم للغاية، لأن الأمر يتعلق بكشف مدى الزيف والتزوير الموجود في أعماق السياسة البريطانية!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)