لو عدنا لعام 2016، للساعات الأولى من يوم 16 يوليو ذلك العام على وجه التحديد، سنتذكر بوادر انقلاب عسكري عنيف كان قد بدأ يأخذ شكله على الأرض خلال ساعات قليلة، تم فيها قصف البرلمان من قبل طائرات مقاتلة، كما حدث إطلاق نار خارج مقر المخابرات التركية، وبات مصير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مجهولاً بعد آخر مرة شوهد فيها في فيلا خاصة كان يقضي إجازته فيها.
في زاوية أخرى، نقلت التلفزيونات التابعة للسعودية والإمارات ومصر تلك الليلة محاولة الانقلاب لحظة بلحظة، مبتهجين مستبشرين بسقوط خصمهم الذي دعم الربيع العربي، ناقلين إشاعات عن موته أو فراره باعتبارها معلومات شبه مؤكدة.
أما وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جون كيري، فقد أسقط قواعد اللعبة كما تم استخدامها عند الإطاحة بأول رئيس مصري مدني منتخب، محمد مرسي، من خلال انقلاب عسكري، ولم يقترب من تسمية ما حصل في تركيا “انقلاباً” أصلاً، بل ذهب إلى التأكيد على “الاستقرار والسلام”!
عزل أردوغان من خلال الصندوق الانتخابي سوف يتم الاحتفال به بالشمبانيا ربما من برلين إلى واشنطن، لكن السؤال المهم، هل سيكون اختفاؤه عن المسرح الإقليمي مفيداً فعلاً بالنسبة لتركيا أو للشرق الأوسط؟!
كما نشرت صحيفة الغارديان مقالاً افتتاحياً على شكل تحليل إخباري عن قصة وفاة رجل وصفته بالإسلامي الاستبدادي، في تلميح إلى أن أردوغان من وضع حداً له، تحت عنوان ” كيف أشعل رجب طيب أردوغان التوترات في تركيا؟”، وعندما ظهر أردوغان في مؤتمر صحفي في المطار في تأكيد على فشل الانقلاب، كان لزاماً تعديل العنوان.
اليوم في 2023، في 14 مايو أو على الأرجح بعد ذلك بأسبوعين في جولة ثانية من التصويت، قد يفقد أردوغان السلطة بالفعل، وعبر الدستور هذه المرة، فهي أصعب انتخابات يخوضها منذ 22 عاماً، ولو افترضنا سقوطه، فإن ذلك سيكون على الأغلب بسبب قضايا اقتصادية مرتبطة بالتضخم الاقتصادي وتكلفة المعيشة.
لا يوجد متفرج محايد
لا يمكن للعالم الغربي أن يقف بدور المتفرج المحايد تجاه الانتخابات التركية، تماماً كما حصل في محاولة انقلاب 2016، فعلاقة أردوغان وتعاملاته مع القادة الغربيين كانت وما زالت نشطة على أقل تقدير.
في الوقت الذي وصفه فيه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأنه “لاعب شطرنج من الطراز العالمي”، أكد الرئيس الحالي جو بايدن في تصريح له قبل انتخابه رئيساً أن “على أردوغان أن يدفع ثمناً”، أما نائب رئيس البوندستاغ الألماني، وولفجانج كوبيكي، فقد وصف أردوغان بأنه “جرذ”!
في نظر القادة الغربيين، فإن أردوغان هو من أوقف دخول السويد إلى الناتو فيما سمح لفنلندا بذلك، كما أنه ارتكب “خطأ لا يغتفر” بنظرهم بسبب حفاظه على علاقات جيدة مع كل من روسيا وأوكرانيا، وقواته تتدخل في مناطق عديدة في الشرق الأوسط وإفريقيا، مثل سوريا وليبيا والعراق وقطر والصومال.
آخر نقاط الغضب الغربي على أردوغان كانت في السليمانية في العراق، بعد اتهام تركيا بشن غارة عبر طائرة مسيرة على قافلة استهدفت القائد الكردي السوري مظلوم عبدي، وهو قائد “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تعتبرها أنقرة تابعة لحزب العمال الكردستاني.
مما لا شك فيه إذن، أن عزل أردوغان من خلال الصندوق الانتخابي سوف يتم الاحتفال به بالشمبانيا ربما من برلين إلى واشنطن، كل هذا معروف، لكن السؤال المهم، هل سيكون اختفاؤه عن المسرح الإقليمي مفيداً فعلاً بالنسبة لتركيا أو للشرق الأوسط؟!
وجهة سفر واضحة!
ما انفك المرشح المعارض الأقوى لأردوغان، كمال كليتشدار أوغلو، بإطلاق التصريحات التي تتصدر عناوين الصحف منذ إعلان ترشحه، ومن أهمها أنه وعد بالسفر بدون تأشيرة إلى أوروبا خلال الشهور الثلاثة الأولى من توليه للمنصب حال فوزه، كما هدد اليونان بالتدخل المسلح، وحرص على زيارة واشنطن والمملكة المتحدة وألمانيا!
سخر المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم، عمر تشيليك، من زيارات رئيس المعارضة كيليتشدار أوغلو إلى الولايات المتحدة وإنجلترا.#اسطنبول #تركيا #MTurkTV https://t.co/VhDfWdwD0b #pazartesi#yargı#GSvBJK pic.twitter.com/s7mFrLQLiE
— ميديا ترك – Media Türk Tv (@MturkTv) November 7, 2022
وعود تحتاج إلى مؤهلات شخصية من العيار الثقيل، وليس غريباً أن يرد مسؤول تركي كبير في المعارضة، بعد الضغط عليه، عن قصة التأشيرة بالقول “لقد كان كليتشدار متفائلاً زيادة”، فالحقيقة أنه حتى وإن استطاعت الحكومة التركية الجديدة تلبية جميع معايير الاتحاد الأوروبي، تبقى هناك مسألة مهمة تتعلق بقبرص.
ويؤكد كبير مستشاري كليتشدار أوغلو للشؤون الخارجية، أونال سيفيكوز، أن الحكومة الجديدة “مصممة على تطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وسياستها سوف تستند على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للجيران والالتزام بالمعايير الدولية”، في انتقاد لسياسة أردوغان التي اعتبرها “قوة صلبة” في ليبيا مثلاً، مرة أخرى أقول أن قول هذا أسهل من تحقيقه!
أما في سوريا، فقد وعدت المعارضة بثلاثة أشياء في وقت واحد، إعادة جميع اللاجئين السوريين البالغ عددهم 3.7 مليون، وفتح العلاقات مع نظام بشار الأسد، وتصحيح سياسة التحيز إلى طرف ما في الحروب الأهلية، وعند سؤاله عن معارضي الأسد السياسيين، أجاب سيفيكوز بالقول “سوف يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تكسب حكومتنا ثقة دمشق، سيتعين علينا إعادة سكان إدلب إلى المجتمع”.
“السياسة الخارجية في الشرق الأوسط تبدأ وتتوقف عند الرجل الموجود في قمة الهرم، إذا كنت تتمتع بعلاقة شخصية معه، حتى وإن دخلتما في حرب، فهي ليست أكثر من مسألة وقت حتى يتم استئناف العلاقة من جديد”
من أهم القضايا بالنسبة للغرب اليوم أوكرانيا، وهو أمر لم يغب عن كليتشدار الإشارة إليه في أحد تصريحاته في مغازلة واضحة للموقف الغربي بقوله “يجب أن تقف تركيا إلى جانب أوكرانيا”، فيما يخالفه آخرون الرأي في حزبه معتبرين أنه ليس على تركيا “التضحية بالطرف الروسي أوالأوكراني بشكل كامل، بل يجب أن تواصل تهجها الحالي المتوازن”.
تراجع إقليمي
لو افترضنا جدلاً أن الأحزاب السياسية المتباينة والمتحاربة في وقت ما، والتي تشكل قوام التحالف المعارض اليوم، ستبقى متماسكة في حكومة ائتلافية، فإن السياسة الوحيدة التي تجمعهم هي اتفاقهم على انسحاب عام من المنطقة، والاقتراب أكثر من الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، رغم صعوبة وسائل تحقيق ذلك، بسبب الأنظمة الضريبية والجمركية لتركيا، بالإضافة إلى ضعف قدرة الموهوبين من الخريجين على تحويل أفكارهم إلى مشاريع استثمارية في البلد.
تذهب حوالي نصف صادرات تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا ما يفسر أهمية الاقتراب أكثر من العالم الأوروبي، إلا أن العضوية في الاتحاد الأوروبي تظل بعيدة المنال، فمنذ ترشح تركيا قبل أكثر من عقدين، صار هناك 7 دول أخرى على قائمة الانتظار، وأنا أشك تماماً بأن كليتشدار قد يتمكن من زحزحة هذا المربع أسرع مما فعل أردوغان.
بالنظر إلى ما سبق، يمكن ملاحظة الرغبة الواضحة بالاقتراب من واشنطن والناتو والاتحاد الأوروبي، إلا أن وسائل ذلك لا تبدو واضحة دون التضحية بمصالح تركيا الحيوية، وعلى رأسها العلاقة مع روسيا، فروسيا سوف تواصل بناء محطة “أكويو” للطاقة النووية في الأراضي التركية بغض النظر عن مكونات الحكومة، كما أن طرد قطر من مصنع دبابات تموله بنسبة 49%، كما تعهدت المعارضة، أمر قد يخيف المستثمرين الأجانب الآخرين، وهو أمر مضر بتركيا.
على صعيد السياسة في بلدان الشرق الأوسط، فإن تغيير النظام في أنقرة أشد وطأة، وهنا لا أتحدث فقط عن المنفيين واللاجئين السياسيين من مصر وسوريا والفلسطينيين الذين استضافتهم تركيا في السنوات الماضية، بل عن علاقة تركيا مع نفس رؤساء الدول التي حاولت إبعاد أردوغان عن الساحة السياسية والمسرح الدولي في 2016.
خيارات براغماتية
أذكر هنا كلاماً لأحد المسؤولين في الشرق الأوسط يقول “يتم تعليمك في العلوم السياسية أن السياسة الخارجية تصوغها وحدات كبيرة “اللوبي الصناعي العسكري”، ثم يتم صقلها في وحدات أصغر مثل مراكز الفكر والوزارات، ليعبر عنها المستشارون ويقررها الرؤساء”، أم في الشرق الأوسط “هذا الهرم مقلوب، السياسة الخارجية تبدأ وتتوقف عند الرجل الموجود في قمة الهرم، إذا كنت تتمتع بعلاقة شخصية معه، حتى وإن دخلتما في حرب، فهي ليست أكثر من مسألة وقت حتى يتم استئناف العلاقة من جديد”.
فقدان قيمة الاستقلال سيكون كارثة ليس على تركيا فحسب، وإنما على المنطقة ككل!
إذا أردنا تطبيق ذلك على تركيا، فنرى أن تركيا قد حصلت مؤخراً على استثمارات بمليارات الدولارات من السعودية والإمارات، وهما ذاتهما اللتان مولتا محاولة الانقلاب في 2016، فمن ناحية، أدرك محمد بن زايد أن الأموال التي كان ينفقها على دعم الطغاة في شمال إفريقيا لم تؤت ثمارها، فقرر تغيير المسار، ومن ناحية أخرى، اتخذت تركيا أيضاً خيارات عملية على حساب التخلي أحياناً عن الأسباب السابقة للقطيعة، مثل تقديم قتلة الصحفي السعودي جمال خاشقجي إلى العدالة، التي دافع عنها أردوغان دوماً.
اليوم يتم التعامل مع تركيا كحليف تكتيكي في موسكو وفي الخليج على وجه التحديد، وذلك لأنها حاربت القوات الروسية في سوريا، واستخدمت طائراتها المسيرة ضد قوات فاغنر في ليبيا وتصدت للثورة المضادة على الربيع العربي الممولة من قبل الرياض وأبو ظبي، تركيا اليوم باتت تعتبر لاعباً لديه قوة الانتشار لحماية الحلفاء في المنطقة، وهذا أمر مهم.
لا يقتصر القلق على وجهة السفر التي سوف تتخذها تركيا إذا ما وصلت المعارضة إلى السلطة، ولكن التوقيت مثير للقلق أيضاً، قد تكون تركيا على وشك التنازل عن ركائز استقلالها في وقت تستعد فيه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لمواجهة عسكرية كاملة مع الصين، وهو خطر لا يغيب عن حلفاء واشنطن في الخليج، لذلك باتوا يسعون لتنويع تجارتهم والتوجه نحو الصين.
بالمقابل، استغلت الصين هذا القلق، فبادرت في إذابة الجليد بين الرياض وطهران بعيداً عن الولايات المتحدة، وتعرض الآن وساطتها بين الفلسطينيين وإسرائيل، وفي ظل بيئة كهذه، يجب أن يبقى في الشرق الأوسط دول قوية مستعدة لممارسة سيادتها واستقلالها، وهو امر استطاع أردوغان تحقيقه رغم أخطائه التي لا شك بها، لكن فقدان قيمة الاستقلال تلك، سيكون كارثة الآن، ليس على تركيا فحسب، وإنما على المنطقة ككل!
بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)