بقلم: لبنى مصاروة
ترجمة وتحرير: نجاح خاطر
هزّت تسريبات موثقة تُظهر عملية اغتصاب جماعي لأسير فلسطيني داخل معتقل “سديه تيمان” الرأي العام في دولة الاحتلال، لكن الصدمة لم تكن من هول الجريمة، بل ممن تجرّأ على فضحها.
ففي الوقت الذي كان يُفترض أن تشكّل فيه هذه الفضيحة لحظة حساب أخلاقي وإنساني، تحوّل الغضب الشعبي والسياسي إلى حملة تشويه وشيطنة ضد من سربت الفيديو، فيما بقي مرتكبو الجريمة أحرارًا يفاخرون بأفعالهم تحت رايات “الأمن القومي” و”الانتصار على الإرهاب”.
قبل عام، انتشر مقطع مصور يُظهر جنودًا من جيش الاحتلال يقتادون أسيرًا فلسطينيًا معصوب العينين، وسط حراسة مشددة. ثم يطوقونه بدروع واقية ليُخفوا جريمتهم: اغتصاب جماعي وحشي نفّذوه داخل السجن.
أُصيب الأسير، الذي تشير تقارير إلى أنه أُعيد لاحقًا إلى غزة، بتمزق في الأمعاء وكسور في الأضلاع وتلف في الرئتين. لكن الفضيحة الكبرى لم تكن في الجريمة ذاتها، بل في التسريب الذي فضحها.
من الجريمة إلى شيطنة الكاشف
المُتهمة بالتسريب هي يفعات تومر-يروشالمي، المستشارة القانونية السابقة لجيش الاحتلال، التي كرّست حياتها المهنية للدفاع عن المؤسسة العسكرية، قبل أن تجد نفسها اليوم هدفًا لحملة تحريض غير مسبوقة من أقصى اليمين.
فقد شنّ وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش هجومًا عنيفًا عليها، واتهمها بأنها “تعاونت مع أعداء الدولة عبر نشر أكاذيب دموية ضد جنودها”، بينما عقد الجنود المتورطون مؤتمرًا صحفيًا طالبوا فيه بـ”تعويض مادي عن الضرر الذي لحق بسمعتهم”!
في مفارقة أخلاقية صادمة، وقف أربعة من الجنود المغتصِبين أمام المحكمة العليا، يرتدون الأقنعة خوفًا من الملاحقة الدولية، وأعلنوا بثقة: “لقد حاولتم كسرنا، لكنكم نسيتم أننا وحدة القوة 100… سننتصر.”
لم يُبدِ أيٌّ منهم ندمًا أو خجلًا، بل تحدثوا بفخر يعيد تعريف “البطولة” في قاموس الاحتلال، حيث يمكن تحويل الاغتصاب إلى إنجاز وطني طالما أن الضحية فلسطيني.
أما رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، فلم يُدن الجريمة، بل وصف التسريب بأنه “أخطر هجوم دعائي تتعرض له إسرائيل منذ تأسيسها”، مؤكدًا أن “الضرر الذي لحق بصورة الدولة أخطر من الفعل ذاته”.
منظومة بلا ضمير
تقرير جديد صادر عن منظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية، بعنوان “مرحبًا بكم في الجحيم”، وثّق شهادات 55 أسيرًا فلسطينيًا عن التعذيب والانتهاكات في سجون الاحتلال أثناء الحرب على غزة، شملت الضرب، الحرمان من النوم، والإهانات الجنسية المتكررة.
يروي الشاب فادي بكر (25 عامًا) كيف “أحرقه الجنود بالسجائر ووضعوا مشابك على أعضائه التناسلية ربطوها بأوزان ثقيلة”، قبل أن يُترك عاريًا في زنزانة باردة على وقع موسيقى صاخبة ليومين كاملين.
كما سجّل مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عشرات حالات الوفاة في سجون الاحتلال منذ بدء العدوان على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ورغم الأدلة المصوّرة والتقارير الحقوقية، لم يتحرك القضاء العسكري إلا ببطء شديد. وفي المقابل، اقتحم نواب من اليمين المتطرف القواعد العسكرية وهاجموا المدعين العامين، متهمين القضاء بـ”خيانة الوطن”.
وعلى مواقع التواصل، تصاعدت دعوات صريحة إلى “حرق” و”رجم” المسؤولين الذين يحققون في القضية، في مشهد يُظهر أن منظومة الاحتلال لا تحمي المجرمين فحسب، بل تكافئهم أيضًا.
ثقافة الإفلات من العقاب
ما جرى في “سديه تيمان” ليس حادثًا شاذًا، بل جزء من بنية أيديولوجية كاملة تقوم على إذلال الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم. ففي هذه المنظومة، يتحول العنف الجنسي والتعذيب إلى أدوات سياسية لإخضاع الأسرى وكسر إرادتهم، بينما يُقدَّم الجلاد في الإعلام المحلي كـ”بطل قومي” يدافع عن أمن الدولة.
لقد فضحت التسريبات موت الضمير الجمعي الإسرائيلي، إذ لم تهزّ المجتمع بقدر ما كشفت عمق تآكله الأخلاقي. فالمجتمع الذي يرى في الاغتصاب أداة حرب مشروعة، ويعتبر كشفه خيانة وطنية، فقد قدرته على الشعور بالعار.
أما الشعار القديم الذي يصف جيش الاحتلال بأنه “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”، فلم يعد سوى دعاية جوفاء لتغطية الجرائم الممنهجة ضد الفلسطينيين في غزة والضفة وسجون الاحتلال.
لقد هزّت التسريبات دولة الاحتلال فعلًا، لكنها لم توقظها من غيبوبة الضمير.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)







