بقلم أحمد عزيز
ترجمة وتحرير مريم الحمد
كل صباح جديد يأتي على قطاع غزة لا يجلب سوى المزيد من الجوع والانهيار والشعور العميق باليأس، فلأكثر من 3 أشهر الآن، يعاني أكثر من مليوني شخص من مجاعة حقيقية وسط حرب لا رحمة فيها وحصار لا هوادة فيه وصمت دولي لا يغتفر.
لقد أصبحت المجاعة في غزة حقيقة يومية فلم يعد الأمر مجرد إحساس بالحرمان، ويتجلى ذلك في رؤية الناس ينهارون في الشوارع من الإرهاق الشديد الذي لم يسلم منه أحد من الأطفال والنساء وكبار السن، فقد شهدنا بأم أعيننا جثثاً تتساقط على الرصيف وأرواحاً تزهق خارج أنقاض المخابز أو عند نقاط توزيع المساعدات التي لا تصلها أبداً.
لقد قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلية أكثر من 1000 فلسطيني منذ أواخر مايو الماضي أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات الغذائية
الأمم المتحدة
لقد تجاوز سعر كيلو الدقيق 30 دولاراً، بينما سعر كيلو السكر الآن أكثر من 130 دولاراً، ومعظم الأطعمة إما غير متوفرة على الإطلاق أو نادرة جداً، ولكن المأساة ليست في الأسعار فحسب، بل في غياب السلع الأساسية، فالناس لا يرفضون الشراء ولكن لم يتبقَ شيء للشراء!
لا يوجد زيت ولا أرز ولا خبز ولا حتى علبة تونة، وما يظهر في بعض الأحيان قد يكون حفنة من الفلفل الأحمر أو زجاجة من منظف الأطباق، وهي مفارقة قاتمة في مواجهة المجاعة.
أما المناطق التي تعتبر “آمنة”، مثل شمال رفح أو منطقة قطنة، فقد تحولت إلى مناطق موت، حيث يتم استهداف المدنيين الجائعين الذين يتوجهون إلى هذه المواقع بحثاً عن المساعدة.
وفقاً للأمم المتحدة، فقد قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلية أكثر من 1000 فلسطيني منذ أواخر مايو الماضي أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات الغذائية، ولا يزال العشرات يُقتلون كل يوم، فعلى حد وصف مسؤول المساعدات السابق في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث، فهذه المجاعة المتعمدة تمثل “أسوأ جريمة في القرن 21”.
لقد كانت من أكثر الصور المؤلمة مؤخراً صورة الرضيع يحيى النجار، الذي لم يتجاوز عمره بضعة أشهر، والذي توفي بسبب سوء التغذية الحاد، حيث تحول جسده الصغير إلى عظام مغطاة بجلد شفاف في مشهد مدمر على مرأى ومسمع من العالم!
جوع لا يحتمل
لقد أصبح الأطفال يصرخون يومياً: “نريد الخبز!”، “نريد أن نأكل!” لكن لا أحد يطعمهم، فالأطفال يستيقظون صباحاً ويتوسلون إلى والدهم أن يحضر لهم رغيف خبز، لكنه لا يستطيع شراء رغيف خبز، فقد أصبح الرغيف الواحد من الرفاهية.
في أحد المشاهد، رأيت أماً تصلي من أجل موت أطفالها، لأنها ببساطة لم تعد قادرة على إطعامهم، كما أن بعض الأمهات يجلسن على مداخل خيمهن تتساقط دموعهن ويهمسن بدعاء متقطع: “اللهم خذهم وخفف عنهم هذه المعاناة”.
وفي الشوارع لم يعد الناس قادرين على المشي فهم يسحبون أجسادهم، فالضعف أصبح شديداً لدرجة أن أرجلهم لم تعد قادرة على حمل أجسادهم المنهكة، فيما أصبحت الوجوه جوفاء مجردة من الحياة، اما الأطفال فأصبحوا هياكل عظمية والرجال شاحبون وهزيلون.
نحن نكتب لننقل الحقيقة كما هي، فغزة تختنق من الجوع وتغرق في الظلام وتُفنى على مرأى ومسمع من العالم!
لقد رأيت بأم عيني رجلاً مسناً يزيد عمره عن 70 عاماً، يطلب من شاب كان يأكل كسرة خبز أن يشاركه إياها، فهل أوصلنا الجوع إلى درجة أن كبارنا يجب أن يستجدوا الطعام؟
لم يعد المتزوجون منا قادرين على توفير الطعام لزوجاتنا، فمنذ عدة أشهر، توقفت عن التفكير في إنجاب طفل لأن هذه الإبادة الجماعية جعلت من المستحيل تصور مستقبل لأي طفل، وتسألني زوجتي كل صباح: “ماذا علينا أن نأكل؟” وأجيب وأنا أتجرع خجل عدم قدرتي على حماية من أحب: “أنا صائم اليوم”.
نحن نصوم من اليأس، وليس من التقوى، ونشرب الماء عندما يكون موجوداً لنخدع أنفسنا بالأمل!
وجبات مخترعة
يتم اختراع وجباتنا اليومية من لا شيء، مثل العدس الممزوج بالمعكرونة والأرز المطبوخ على نار الحطب أو الحساء المصنوع من الماء المغلي فقط، فنحن نأكل ثم نشعر بالجوع مرة أخرى بعد ساعة، فننام هرباً من الجوع لكنه يستيقظ معنا!
خلال النهار نشعر بالدوار فنعزي بعضنا البعض بالكلمات ونغفو على أمل أن يخف الألم، فأنا فقدت 14 كجم وما زلت أقاتل ولكن ماذا عن أولئك الذين ليس لديهم عمل ولا مال ولا يوجد لديهم أحد للاتكاء عليه؟!
لا توجد كهرباء ولا مروحة ولا ظل، فقط عطش وحرارة شديدة، ففي الشارع، تحت شمس شهر يوليو الحارقة، يحدق طفل بشوق في بائع يبيع الماء المثلج، حيث يبلغ سعر الكوب نصف دولار لكن لا أحد يستطيع تحمله.
قد يمشي شخص ما وهو يتناول شطيرة فيتجمع حوله 5-10 أطفال يطلبون لقمة، ليس جشعاً ولكنه الجوع الذي أخذ كل شيء من الأسواق التي أصبحت فارغة.
لقد أصبح مستشفى ناصر، وهو شريان الحياة الأخير المتبقي في جنوب غزة، نقطة تجمع لأولئك الذين يكافحون من أجل البقاء، فلا يوجد دواء ولا غذاء، لا شيء سوى صراخ الأمهات ودموع المرضى ومن هم على حافة المجاعة أو الموت.
مجزرة صامتة
لم يعد الموت يخيف أحداً في غزة، فبالنسبة للكثيرين، لقد أصبح حلماً، فالتعرض للقتل بشظية أو غارة جوية أسهل من الموت وأنت تشاهد أطفالك يتضورون من الجوع أو زوجتك غير قادرة حتى على الوقوف، فالموت لم يعد النهاية بل الانعتاق.
ما يحدث في غزة اليوم ليس كارثة طبيعية، بل مجاعة متعمدة ومجزرة ترتكب في صمت، حيث يتم تجويع السكان ببطء وقسوة عن قصد، وفي الوقت نفسه، يتم تدمير البنية التحتية بما في ذلك المستشفيات وقتل المدنيين حول شاحنات مساعدات مملوءة بالدقيق، والعالم يراقب من خلف شاشاته دون أي حس إنساني.
هذه هي غزة اليوم، مدينة يسكنها أناس ينتظرون النهاية، فهم لا يطلبون المعجزات، بل يطلبون بعض الخبز وبعض الأدوية وبعض الكرامة، والعالم يرى ويسمع لكنه لا يفعل شيئاً وكأن حياتنا بلا قيمة.
نحن نكتب لننقل الحقيقة كما هي، فغزة تختنق من الجوع وتغرق في الظلام وتُفنى على مرأى ومسمع من العالم!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)