بقلم محمد النجار
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لم أتخيل أبدًا ولا حتى في أسوأ كوابيسي أني سوف أطارد كلبًا ضالًا لاستعادة ساق طفل صغير من فمه يوماً!
على مدى 3 أسابيع، قصفت القوات الإسرائيلية حي الرمال الذي أسكنه في شمال غزة بلا رحمة، مما أدى إلى دمار هائل في المباني السكنية على طول شارع الجلاء، حيث تم استهداف معظم منازل جيراني التي كانت مزدحمة بمن نزحوا من مناطق أخرى للاحتماء بأقاربهم.
كنت أنا ضمن مجموعة من الشباب الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الإنقاذ، فقد بذلنا قصارى جهدنا في الحفر لانتشال الناجين من تحت أكوام ضخمة من الأنقاض بالإضافة إلى جثث الشهداء لدفنها، وفي نفس الوقت، كنا محاصرين من قبل القناصة الإسرائيليين الذين كانوا يطلقون النار على أي شخص يقترب من الأنقاض، ولذلك توقفنا عن الإنقاذ!
في مرة، جاءت أصوات خافتة من تحت الركام لطفلين صغيرين وأمهما اليائسة، ورغم محاولاتنا لم نتمكن من الوصول إلى الأطفال المحاصرين فماتوا في النهاية تحت الأنقاض، وبعد فشلنا بانتشال والدتهم المصابة، أعطيناها الماء والتمر لتبقى على قيد الحياة.
خلال كل تلك المحن، كانت القوات الإسرائيلية وآلياتها المدرعة الثقيلة تحوم حولنا وتحاصرنا وتمنعنا من الوصول إلى الجرحى والمحاصرين، وفي المقابل تمنعنا من مغادرة المنطقة، فاضطررنا للبحث عن مأوى في أحد منازل الجيران.
“جثث متحللة”
عقب الغارات الجوية وتسوية الحي الذي نسكنه بالأرض، شنت القوات الإسرائيلية هجوماً برياً وحشيًا، فاقتحمت المنازل القليلة الباقية واعتقلت الشباب ونفذت عمليات إعدام علنية بحق النازحين الذين يبحثون عن ممر آمن هربًا من القصف.
لا تزال غزة تحت الحصار والقصف، ولا يزال شعبها هدفاً للإبادة الجماعية، فلا رائحة هنا إلا الموت والحطام، تتلقطه كلاب ضالة لتنهش أجساد شهدائنا الذين مُنعنا من دفنهم كما يجب!
لقد هربت المجموعة التي كنت أنا معها نحو منطقة الشاطئ ثم عدنا بعد بضعة أيام، فذهبت أولاً للاطمئنان على الأم التي كانت لا تزال مدفونة تحت الأنقاض، ناديتها باسمها وزحفت تحت الجدران الخرسانية، ولكن لم يكن هناك سوى الصمت، وبعد قليل وجدتها ميتة وذراعاها ملفوفتان حول جسدي طفليها.
بعد العودة إلى الحي، لاحظنا قدوم مجموعة من الكلاب الضالة التي لجأت إلى أحد المنازل المجاورة لنا، وطوال الليل، كنا نسمع نباحهم، وفي أحد الصباحات، رأيت مشهداً لم أتخيل رؤيته ولا في أسوأ كوابيسي، رأيت كلباً قد وضع قدم طفل صغير في فمه، فطاردته وأزلت قدم الصبي الصغير ودفنتها عميقًا في الأرض.
في اليوم التالي، وجدنا بقايا العمود الفقري لطفل وعظامه وصدره تأكلها الكلاب، لم أر قط شيئًا أكثر وحشية كما لو أنه لا قيمة للحياة البشرية، أو بالأحرى حياتنا نحن في غزة!
واصلنا محاولة إبعاد الكلاب عن المنطقة لاستئناف بحثنا عن الناجين الجرحى والشهداء المدفونين تحت أكوام الركام الهائلة. ولكن حتى أجزاء الجسم التي وجدناها مع الكلاب كانت قد عانت بالفعل من التحلل الشديد، حيث تحلل جلدها.
بين الكلاب الضالة والأيام التي مرت، لم نجد إلا جثثاً متحللة وبقايا من أجساد شهداء!
لقد تعمدت القوات الإسرائيلية قتل وتهديد حياة الناجين الذين كانوا يقومون بعمليات الإنقاذ والإنعاش، حتى جعلوا من المستحيل إنقاذ أحد من المدنيين، ولا أذكر كم من طفل ظل يصرخ تحت الأنقاض حتى يختفي صوته المرهق!
موت في كل مكان
ويعد منع وصولنا إلى الجرحى والشهداء أمراً ممنهجاً وخطوة استراتيجية من أجل تطبيق حرب الإبادة الجماعية ضد سكان القطاع، فبحسب شهادة الناجين وعائلاتهم والصحفيين في غزة، فالقوات الإسرائيلية تتعمد إطلاق النار أو القصف على فرق الإنقاذ والدفن،
ولذلك تتحلل أعداد كبيرة من الجثث بسرعة، مما يساهم في زيادة مشهد الموت قتامة في غزة.
في غزة، لا ترى الموت فقط، وإنما يمكنك شمه بل وتنفسه، تشعر به بكل حواسك وتشم رائحته، ولا ينقص من المشهد إلا أن ترى الكلاب الضالة وهي تتغذى على أشلاء من عرفتهم وأحببتهم!
لقد أكد عمي أبو يوسف، الذي يسكن في حي اليرموك، أن مجموعات كبيرة من الكلاب الضالة تجوب كل المناطق، بما في ذلك سوق اليرموك النابض بالحياة، وفي المناطق المحيطة، تعرضت عدة أبراج سكنية وتجارية للقصف والتدمير الشديد، مما أدى إلى دفن مئات الأشخاص تحت الأنقاض، حيث لم يتمكن أحد من الوصول لانتشال الجثث.
تشم الكلاب، التي تواجه المجاعة مثل جميع سكان غزة، رائحة الجثث المتحللة فتزحف إلى عمق الأنقاض وتخرج بأشلاء في أفواهها، فبعد مرور 100 يوم على المذبحة الأكثر وحشية، يظل منظر الكلاب المروع وهي تتغذى على جثث الشهداء الأقسى على الإطلاق.
لا تزال غزة تحت الحصار والقصف، ولا يزال شعبها هدفاً للإبادة الجماعية، فلا رائحة هنا إلا الموت والحطام، تتلقطه كلاب ضالة لتنهش أجساد شهدائنا الذين مُنعنا من دفنهم كما يجب!
للمقال الاصلي: هنا