بقلم جمال جمعة
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لا مثيل للفظائع في غزة اليوم، من قصف مستمر ومجاعة ومقابر جماعية وتدمير كامل للبنية التحتية، في تاريخ الفصل العنصري الإسرائيلي.
يمكن فهم أسباب هذه الإبادة الجماعية عند النظر إلى ما هو أبعد من قطاع غزة المدمر اليوم، فلا تزال سياسات إسرائيل في أنحاء فلسطين التاريخية تهدف إلى تحقيق هدف واحد، وهو إفراغ الأرض من سكانها الفلسطينيين الأصليين.
خلال الأسابيع الأخيرة، قامت ميليشيات المستوطنين والقوات الإسرائيلية بتنفيذ هجمات في 120 قرية وأحدثت دماراً واسع النطاق في معظم مخيمات اللاجئين في الضفة، مما أسفر عن مقتل وإصابة واعتقال الآلاف.
تجدر الإشارة إلى أنه منذ 7 أكتوبر، فقد تم هدم 806 مباني في الضفة الغربية، مما أدى إلى تهجير 1,758 شخصاً وتضرر ما يقرب من 519,000 فلسطيني، كما تم تطهير حوالي 25 مجتمعاً فلسطينياً وقتل 492 فلسطينياً واحتجاز 8088 آخرين.
رغم الدعاية الحربية، إلا أن المجتمع الإسرائيلي منقسم أكثر من أي وقت مضى والأغلبية تريد رحيل نتنياهو وحكومته، في مشهد باتت فيه إسرائيل غير قادرة على رؤية استراتيجية للخروج!
علاوة على ذلك، فقد استولت إسرائيل على مساحات غير مسبوقة من أراضي الضفة الغربية، حيث صادرت 37 كيلومتراً مربعاً من الأراضي، في ذلك أكبر عملية مصادرة للأراضي منذ 30 عاماً، وحتى الآن، لا يمكن للفلسطينيين الوصول إلى 42% من مناطق الضفة الغربية، كما تسارعت عمليات إخلاء الفلسطينيين في غور الأردن وجنوب الخليل بهدف طرد التجمعات السكانية بالكامل من المنطقة.
قامت إسرائيل أيضاً بتسريع وتيرة بناء المستوطنات بشكل كبير، فقد أعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريش في 6 مارس أنه تمت الموافقة على بناء 18,515 منزلاً في المستوطنات، وفي ميزانيتها لعام 2024، خصصت إسرائيل 193 مليون دولار للمستوطنات الجديدة و1.02 مليار دولار أخرى للبنية التحتية للطرق.
طريق مسدود
يعيش الفلسطينيون أحلك لحظات التاريخ الطويل والمؤلم للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، ومع ذلك فإن تأكيدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتحقيق “النصر الكامل” تبدو بعيدة كل البعد عن الحقيقة، فوسائل الإعلام الإسرائيلية تندد بـ”الهزيمة الكاملة” ميدانياً ودولياً.
أما على صعيد الاستيطان، فقد خلصت دراسة حديثة أجرتها جامعة رايخمان الألمانية أن سياسة الاستيطان الإسرائيلية بمثابة فشل ديموغرافي، فرغم ارتفاع عدد المستوطنين الإسرائيليين على مدى السنوات الـ 13 الماضية من 311,300 إلى 491,548، إلا أن نسبتهم فعلياً انخفضت من 81% إلى 58%، وذلك بسبب زيادة أكبر في عدد الفلسطينيين في “المنطقة ج”.
الحقيقة أن المشروع الإسرائيلي في أزمة، فقد انكمش الاقتصاد بنسبة 20% في الربع الأخير من عام 2023، حيث شبه مدير غرفة السياحة الداخلية الإسرائيلية، يوسي فتال، عزلة إسرائيل بعزلة كوريا الشمالية، بعد إغلاق حوالي 58% من مواقع البناء في القدس و41% في تل أبيب والمناطق الوسطى، فيما تستمر صناعة التكنولوجيا في الانهيار.
من ناحية أخرى، فقد بدأت الثقة في تدفق دعم الغربيين المالي لدعم الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي تراجع، حيث قامت أكبر وكالتي تصنيف في العالم، موديز وستاندرد آند بورز جلوبال، بتخفيض تصنيف إسرائيل، كما خفض صندوق النقد الدولي توقعات النمو إلى النصف لتصبح 1.6% فقط.
وعندما قصفت إسرائيل السفارة الإيرانية في دمشق، قوبل برد إيراني محسوب بعناية جعل الولايات المتحدة تستخدم حق النقض ضد المزيد من التصعيد، حيث كلفت الدفاعات الجوية الإسرائيلية خلال ليلة واحدة من الهجمات الإيرانية ما يصل إلى 1.4 مليار دولار، الأمر الذي من شأنه أن يجعل حرباً واسعة النطاق مدمرة للحياة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
هكذا تعيش الحكومة الإسرائيلية من أزمة داخلية إلى أخرى، فرغم الدعاية الحربية، إلا أن المجتمع الإسرائيلي منقسم أكثر من أي وقت مضى والأغلبية تريد رحيل نتنياهو وحكومته، في مشهد باتت فيه إسرائيل غير قادرة على رؤية استراتيجية للخروج!
الضوء في آخر النفق
لا شك أن ثمن فشل إسرائيل يدفعه الفلسطينيون الذين ما زالوا يتعرضون للقتل والتجويع والمطاردة والتشويه والتشريد، خاصة مع وجود قيادة رسمية لا تقدم طريقاً للمستقبل، فالسلطة الفلسطينية منشغلة بين ملاحقة المتظاهرين الفلسطينيين في الشوارع والمطالبة بالاعتراف بدولة غير موجودة، لكنها لا تفعل شيئاً لإنهاء الإبادة الجماعية في غزة والتطهير العرقي المستمر.
رغم ذلك، يمتلك الفلسطينيون مصدرين للقوة والأمل، أولهما الصمود الذي لم ينكسر حتى في هذه الأوقات المظلمة، فنحن كفلسطينيين نؤوي بعضنا البعض وننظم مجتمعنا وحركاتنا ولجاننا المحلية ومنظماتنا من أجل بقائنا.
نحن نعيش أسوأ لحظة في تاريخنا وواحدة من أسوأ إخفاقات البشرية، ومع ذلك، فإن اشتداد ظلمة الليل يعقبه الفجر
الأمر الثاني هو أن العدالة إلى جانبنا هذه المرة، فقد قضت محكمة العدل الدولية بأن إسرائيل ترتكب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، كما أن هيئات الأمم المتحدة وجميع منظمات ومؤسسات حقوق الإنسان المحترمة عالمياً باتت تعترف بأن إسرائيل قامت بشكل هيكلي ببناء نظام الفصل العنصري، ما يشكل جريمة ضد الإنسانية، ولذلك طالبت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن مراراً وتكراراً بوقف فوري لإطلاق النار، ووضع حد لجريمة الحرب المتمثلة في بناء المستوطنات، وحق العودة للاجئين، وغير ذلك.
يدرك الناس من جميع أنحاء العالم، وحتى الحكومات اليوم خاصة في الجنوب العالمي، أن ما هو على المحك ليس فقط حياة 2.3 مليون فلسطيني، بل بقاء المبادئ الأساسية للإنسانية، جنباً إلى جنب مع نظام القانون الدولي والأمم المتحدة.
قبل عشرين عاماً، أطلق الفلسطينيون حركتهم المناهضة للفصل العنصري بالدعوة إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، واليوم، تشهد المقاطعة انتصارات بشكل لم يسبق له مثيل، حيث تخسر الشركات المتواطئة أرباحها وتضطر المؤسسات إلى سحب استثماراتها من نظام الفصل العنصري في إسرائيل.
إضافة إلى ذلك، فقد بدأ الطلاب وأعضاء هيئة التدريس من الولايات المتحدة إلى أستراليا انتفاضة الحرم الجامعي العالمية، والتي أعادت للذاكرة احتجاجات الثمانينيات ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، واحتجاجات الستينيات ضد حرب فيتنام.
وعلى الصعيد القانوني، باتت هناك العديد من القضايا المرفوعة من قبل محامين ومنظمات قانونية ضد الحكومات التي تمكّن وتدعم الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
نحن نعيش أسوأ لحظة في تاريخنا وواحدة من أسوأ إخفاقات البشرية، ومع ذلك، فإن اشتداد ظلمة الليل يعقبه الفجر، ولم يعد لدينا وقت لنضيعه، فقد بات من الممكن، من خلال توحيد القوى على المستوى الدولي، إنهاء الإبادة الجماعية والتغلب على الفصل العنصري الإسرائيلي وبناء مستقبل من الحرية والعدالة والمساواة من النهر إلى البحر.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)