في كل بيت حكاية نسجها الألم.. حجارة غزة المدمرة تخفي مصير آلاف المفقودين

بعد انسحاب جيش الاحتلال من منزل شقيقته في جباليا شمال غزة، توقع أحمد توفيق جاب الله أن يجد جثة شقيقته سوسن البالغة من العمر 55 عاماً، ولكنه لم يجد لها أثراً في أي مكان بعد أن عاد لتفتيش المنزل.

وسوسن واحدة من آلاف الفلسطينيين الذين اختفوا منذ بدء عدوان الاحتلال على قطاع غزة، تاركين عائلاتهم دون أي معلومة عن مصيرهم.

وقال جاب الله: ” بعد تدمير منزلي في هذه الحرب، جئت مع زوجتي وأطفالي لنسكن مع شقيقتي في منزلها الذي لم تغادره ولو لمرة واحدة على مدار حوالي 230 يوماً، لأنها لم تكن قادرة على المشي بشكل طبيعي، فآثرت الموت على إخلاء منزلها أو النزوح”.

ويوم الحادي عشر من أيار/مايو، ألقى جيش الاحتلال منشورات تأمر اللاجئين من سكان مخيم جباليا بإخلاء منازلهم قبل شن هجوم عنيف على المخيم وغزوه.

امتثل جاب الله وعائلته لأوامر الإخلاء، لكن سوسن رفضا مغادرة منزلها.

ويتابع جاد الله سرد قصة فراقه لشقيقته بالقول: “قبلت يديها وقدميها، وتوسلت إليها أن توافق على الذهاب معنا للاحتماء في مدرسة، واتصلت بأصدقائي وأحضرت كرسياً متحركاً علني بذلك أقنعها بالمغادرة”.

لكن سوسن لم ترد الرحيل قط وقالت لشقيقها: “لا يوجد سبيل للرحيل، أنت تعلم أنني أعاملك كابني، وليس أخي فقط، أحضر لي قناع وجه لأضعه بجانبي عندما يكون هناك غبار، ثم خذ زوجتك وأطفالك وارحل”.

ويكمل جاد الله القصة بالقول: “غادرت المكان، وفي اليوم التالي، اقترب جيش الاحتلال من منزل سوسن، وعندما سمعت هذا، خاطرت وعدت إليها عبر الشوارع الجانبية، محاولاً مرة أخرى إقناعها بالذهاب معي”. 

لكن شقيقة جاد الله لم تغير رأيها، وقالت له: “إذا كنت تحبني حقاً، اتركني في منزلي”، وعندها رأى الشاب الفلسطيني دبابة للاحتلال تقترب من المنزل، فغادر المكان على عجل عائداً إلى المدرسة التي آوى إليها.

بقي جاب الله على اتصال بشقيقته للتأكد من أنها بخير من خلال المكالمات والرسائل النصية، وبعد ساعات الصباح الأولى من 15 أيار/مايو، لم يعد بإمكانه الوصول إليها.

وعند حوالي الساعة الثانية فجراً، أرسلت سوسن لشقيقها رسالة نصية لإبلاغه بأنها لديها بعض المال مخبأً في ملابسها، وطلبت منه أن يأخذ هذا المال إذا حدث لها شيء وأن يرسل منه 100 دولار إلى فتاة يتيمة تبلغ من العمر 20 عاماً كانت ترعاها منذ ولادتها”.

ويضيف جاب الله: “بعد محاولات عديدة للاتصال بها دون رد، قررت الذهاب للبحث عنها، وعندما وصلت وجدت المنطقة بأكملها مدمرة، باستثناء منزلها ومنزل جارتها، فخشيت الأسوأ وأخذت بطانية من مكان قريب، استعداداً لتغطية جسدها للدفن”.

“كنت خائفاً للغاية مما قد أجده، فقد كنت أتوقع أن أرى جثة متحللة ودماء في كل مكان، دخلت المنزل، ولكن لم يكن هناك شيء، حتى أختي” – أحمد توفيق جاب الله، شقيق أحد المفقودين الفلسطينيين

الجيش كان هناك

وجد جاب الله منزل شقيقته خالياً، وقد تم رش جدرانه بشعارات عبرية وكانت بقايا الطعام والفواكه متناثرة في كل مكان، وهي أشياء غير متاحة لسكان شمال غزة بسبب حصار الاحتلال.

وتابع جاب الله يتحدث عن حال بيت شقيقته وأغراضها: “لقد اختفت جميع الأحذية الطبية والهاتف المحمول والنظارات وحتى عكازها، لقد كان الجيش هناك، وجدت فاكهة داخل المنزل، وكان من الواضح أنهم أمضوا بعض الوقت هناك”.

ومنذ أشهر عدة، تفرض دولة الاحتلال حصاراً صارماً على مدينة غزة وشمال القطاع، وتمنع دخول المساعدات والبضائع وجميع أنواع الأغذية إلى المنطقة، التي انقطعت تماماً عن الأجزاء الجنوبية من القطاع.

ونتيجة لذلك، يستطيع السكان في كثير من الأحيان تحديد المنازل التي أقام فيها جيش الاحتلال من خلال بقايا الطعام التي لا تتوفر عادة في المدينة.

وقال جاب الله: “بحثت في جميع المستشفيات والأماكن التي كنا نعتقد أنها قد تكون فيها، واتصلنا بالصليب الأحمر، وردوا من الخليل، فأخبروني أنهم قدموا طلباً إلى جيش الاحتلال بشأنها في 4 حزيران/يونيو لكنهم لم يتلقوا رداً”.

واليوم يشتبه جاب الله في أن شقيقته قد اختطفت من قبل جيش الاحتلال “لأغراض غير معروفة”، ويقول:” لم يكن بإمكانها الفرار بمفردها، لقد اختطفها الجيش”.

وزاد على ذلك: “لقد عانى الجميع في غزة من النزوح، وعندما نحتاج إلى الإخلاء بسرعة بسبب القصف. عادة لا يكون لدينا الوقت لجمع المتعلقات، فكيف يمكن أن يكون لديها الوقت الكافي لأخذ أشياء لا نفكر فيها عادة عند الإخلاء، لقد أخذوها، لكنني لا أعرف ماذا ينوون أن يفعلوا بها”.

الأطفال المفقودون

من بين المفقودين مدنيون بمن فيهم صحفيون وأطفال يُعتقد أنهم محتجزون ومختفون قسراً في مراكز الاحتجاز التابعة للاحتلال.

وبحلول نهاية شهر حزيران/يونيو، تلقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر تقارير من 7429 عائلة تضم 8617 فلسطينياً مفقوداً في مختلف أنحاء قطاع غزة، يطلبون المساعدة لتحديد مصير أحبائهم وأماكن وجودهم.

ونظراً للعدد الهائل من الضحايا وسط القصف المتواصل، فإن العديد من الناجين من الأطفال الذين تم إنقاذهم من بين الأنقاض وإدخالهم إلى المستشفيات ظلوا مجهولي الهوية لفترات طويلة، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى اختفائهم.

ففي منطقة الزوايدة بقطاع غزة، يتمسك عبد الله أبو القمصان بالأمل في أن يكون طفله فؤاد البالغ من العمر عامين، والذي فُقد منذ حوالي تسعة أشهر، لا يزال على قيد الحياة.

ويواصل أبو القمصان، النازح من مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة، تعليق صورة طفله في الشوارع، ويحث أي شخص يجده على الاتصال بالرقم المرفق بالصورة.

وقال أبو القمصان:  “آخر مرة كان فؤاد معي كانت عندما كنا تحت الأنقاض في 31 تشرين الأول/أكتوبر، لقد نزحنا إلى منزل لأحد أقاربنا في جباليا وقُصفت المنطقة السكنية بالكامل، كان طفلي معي، على يميني تماماً”.

وأوضح: “عندما أدركت طواقم الإنقاذ أننا ما زلنا على قيد الحياة تحت الأنقاض بعد حوالي 75 دقيقة، تمكنوا من إخراجنا، لقد أخرجوا طفلي وسلموه إلى مسعف، نقله على الفور إلى المستشفى، ولكن حتى الآن، لا نعرف إلى أي مستشفى تم نقله”.

تم نقل أبو القمصان (الأب) إلى المستشفى الإندونيسي في شمال غزة، وعلى مدى الأيام العشرة التالية، زار جميع المستشفيات التي لا تزال تعمل في المناطق الشمالية، بحثاً عن ابنه بين الجرحى وفي ثلاجات الموتى.

وقال أبو القمصان البالغ من العمر 29 عاماً: “في مستشفى الشفاء، أبلغوني أنهم في يوم القصف، استقبلوا طفلاً مجهول الهوية في عمر ابني تقريباً، وقالوا إنه تم فحصه ووجد أنه يتمتع بصحة جيدة، لكني لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك أو ما إذا كانت أسرة ما قد أخذته لأنه لم يكن برفقة أحد”،

ووفقاً لمنظمة إنقاذ الطفولة، فإن ما يصل إلى 21000 طفل باتوا في عداد المفقودين في غزة حتى حزيران/يونيو، بسبب عدوان الاحتلال المتواصل على غزة. 

ويعتقد أن حوالي 4000 من هؤلاء الأطفال استشهدوا تحت الأنقاض، و 17000 طفل فقدوا أو احتجزوا أو دفنوا في قبور غير معروف أصحابها.

عذاب الشك

من جهتها، تواصل شيرين أبو ركبة، 45 عاماً الإقامة وسط أنقاض منزلها في مدينة غزة مع بناتها الأربع ووالدة زوجها، عازمة على البقاء في المكان الذي عاشت فيه مع عائلتها لعقود من الزمن.

وبعد أن عانى حيها من قصف مدفعي مكثف في كانون الأول/ديسمبر، نزحت العائلة من منزلها ولجأت إلى مدرسة في الجزء الغربي من غزة.

وبعد قصف منزل شقيق زوجها، غادر زوجها، قاسم أمين أبو ركبة، 53 عاماً، المدرسة في 23 كانون الأول/ديسمبر للمساعدة في إزالة الأنقاض لكنه لم يعد أبداً.

“لكن يؤلمني أننا عالقون بين الأرض والسماء، ولم تتح لي حتى الفرصة لتوديعه”. – شيرين أبو ركبة

وتقول شيرين عن زوجها المفقود: “أخبرني أنه سيحضر المعدات ويذهب إلى شقيقه لمساعدته في إزالة الأنقاض، ثم يذهب للتحقق من المخزن حيث يحتفظ ببضاعة الأحذية، وانتظرته لأن الوضع كان خطيراً، ولكن لم أتمكن حتى من الاتصال به”.

وتابعت: “انقطعت خدمات الاتصالات بعد قصف الاحتلال لملعب فلسطين في منطقتنا، لم يكن الاتصال به أو إرسال رسالة نصية إليه خياراً، لذلك بقيت في ممر المدرسة طوال الليل، أنتظر وأراقب المدخل، وأقول لنفسي ربما سيأتي الآن لكنه لم يظهر أبداً”.

وتابعت: “عندما عدت إلى منزلنا، رأيته مدمراً، جلست على باب المدخل وبدأت أتحدث مع المنزل وقلت ها هو آخر شيء يذكرني بك قد ذهب، المنزل الذي بنيته واهتممت به قد ذهب”.

اعتقدت أبو ركبة في البداية أن زوجها مصاب، مما دفعها إلى البحث عنه في المستشفيات، والآن، بعد ما يقرب من تسعة أشهر، تخشى أن يكون قد استشهد أو اعتقل.

وتضيف: “ليس لدينا إنترنت هنا، لكن أقاربنا في الخارج يتابعون أسماء المعتقلين المفرج عنهم، على أمل أن يكون لا يزال على قيد الحياة، في غزة، ليس لدي أبناء هنا للبحث عنه، ولداي في الخارج، وعندما كان زوجي لا يزال هنا، لم أستطع الذهاب إلى أي مكان بدونه”.

وأردفت الزوجة المكلومة تقول: “بعد رؤية كل الرعب الذي ألحقوه بنا، أعتقد بنسبة 1% أنه معتقل وشهيد بنسبة 99%، ويؤلمني أنني لا أعرف أين هو، أتمنى فقط أن أعرف مصيره، حتى لو كان شهيداً”.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة