بقلم جوزيف مسعد
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في خطاب متلفز مؤخراً، هدد زعيم حزب الله حسن نصر الله قبرص بعمل عسكري إذا ما واصلت تعاونها العسكري مع إسرائيل التي يتدرب جيشها في الدولة الجزيرة استعداداً للهجوم على لبنان، قائلاً: “فتح المطارات والقواعد القبرصية أمام العدو الإسرائيلي لاستهداف لبنان يعني أن الحكومة القبرصية جزء من الحرب، والمقاومة ستتعامل معها كجزء من الحرب”.
في الحقيقة، لم تصبح قبرص صديقة مقربة لإسرائيل فحسب، بل أصبحت أيضاً حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة، فقد زار وزير الخارجية القبرصي، كونستانتينوس كومبوس، الولايات المتحدة مؤخراً في 17 يونيو، وقام بالتنسيق مع وزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، حول الدور الذي قد يخصصه الأمريكيون لقبرص في ظل الوضع المستمر في الشرق الأوسط.
” قبرص كانت ذات يوم مقراً لمستعمرة يهودية مزدهرة، فلماذا لا يكون الأمر كذلك مرة أخرى؟” مقال في صحيفة جويش كرونيكل اللندنية عام 1878
وفي إطار رده على نصر الله، نفى الرئيس القبرصي أي تورط لبلاده في حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة ضد الفلسطينيين وحربها ضد لبنان، مؤكداً أن قبرص لا تملك أي سيطرة على القاعدتين العسكريتين البريطانيتين في البلاد، واللتين تدعمان إسرائيل عسكرياً.
أما السفير القبرصي في إسرائيل، رد كورنيليوس كورنيليو، فقد كان رده أكثر عدائية نحو نصر الله، مؤكداً من جديد على العلاقة الوثيقة بين إسرائيل وقبرص معتبراً أنها “لا بد أن تكون مزعجة لزعيم حزب الله”.
“علاقة غرامية”
إن العلاقة الغرامية بين قبرص وإسرائيل ليست بالجديدة فهي نتاج تطور منذ 3 عقود من الزمن، ولكنها لم تكن واضحة حتى مارس عام 2011، عندما ذهب الرئيس القبرصي السابق، ديميتريس كريستوفياس، المنتمي للحزب التقدمي الشيوعي، في زيارة رسمية إلى إسرائيل، وفي عام 2012، أصبح نتنياهو أول رئيس وزراء إسرائيلي يقوم بزيارة رسمية لقبرص.
رغم المصالح المشتركة الرئيسية التي بدت في البداية وكأنها تتعلق باحتياطيات الغاز في البحر الأبيض المتوسط الواقعة بين قبرص وشواطئ شرق البحر الأبيض المتوسط، إلا أن التعاون ظل يتصاعد، بما في ذلك مساعدة إسرائيل في تعميق العلاقة بين الولايات المتحدة وقبرص.
لم يكن الزعيم اليساري القبرصي والعضو اليساري الوحيد في الاتحاد الأوروبي، من عزز علاقات وثيقة مع إسرائيل، حيث أصبح الدفء مع إسرائيل هو الوضع السائد منذ وصول حزب سيريزا اليساري إلى السلطة في اليونان في عام 2015 أيضاً، وفي عام 2021، شاركت قبرص واليونان في مناورات بحرية مع إسرائيل.
رغم عدم وضوح التقارب السياسي بين قبرص وإسرائيل إلا مؤخراً، إلا أن الصهاينة المسيحيين واليهود كان لهم دور أقدم زمناً بكثير في الشؤون القبرصية، فعند استيلاء البريطانيين على قبرص عام 1878، كتبت صحيفة جويش كرونيكل اللندنية أن ” قبرص كانت ذات يوم مقراً لمستعمرة يهودية مزدهرة، فلماذا لا يكون الأمر كذلك مرة أخرى؟”.
دعا المقال يهود فلسطين وسوريا الكبرى إلى الهجرة إلى الجزيرة، حيث “تقدم لهم قبرص نفس عوامل الجذب المغرية التي قدمتها لليهود القدامى بل وأعظم، فهي تقع على مسافة قريبة من البر الرئيسي، ولأول مرة في تاريخ العالم، تتاح ليهود فلسطين فرصة العيش في ظل المؤسسات الخيرية للقواعد الأكثر استنارة والأكثر ليبرالية في بريطانيا، دون الخضوع لآلام الهجرة، والتخلي عن نمط حياتهم الشرقي”.
قام البريطانيون بضم قبرص عام 1914، وذلك عندما انضم العثمانيون إلى القوى المركزية، وأصبحت قبرص مستعمرة للتاج البريطاني في عام 1925.
هل كانت مستعمرة صهيونية؟
لطالما أشار الصهاينة إلى المستعمرات العبرية القديمة في قبرص، بما في ذلك “بافوس وسلاميس”، كسابقة للاستعمار المستقبلي، ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن البريطانيين الإسرائيليين هم المجموعة البروتستانتية البريطانية التي كانت الأكثر حماساً في دعم الاستعمار اليهودي.
تأسست المجموعة المجموعة البروتستانتية عام 1874 على يد صهاينة متحمسين يريدون إرسال اليهود إلى “الأرض المقدسة”، كما قاموا بتأسيس صندوق الاستعمار السوري، والمعروف أيضاً باسم جمعية إغاثة اليهود المضطهدين، والذي تلقى تبرعات في إنجلترا وتمكن من شراء الأراضي القريبة من فلسطين.
بدأت المجموعة في إرسال المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية من إنجلترا إلى مستعمراتهم الجديدة، وتم إنشاء أول مستعمرة يهودية في مدينة اللاذقية الساحلية في شمال غرب سوريا عام 1882 ولكنها استمرت لمدة عام واحد فقط.
في عام 1883، تم نقل المستعمرين اليهود من اللاذقية، مضافاً إليهم أعداداً جديدة من يهود روسيا، إلى قبرص لإنشاء مستعمرة يهودية هناك، وأقاموا المستعمرة في الجنوب الغربي من الجزيرة بالقرب من قرية كوكليا، ولكن بحلول عام 1884، كان المستعمرون غير راضين عن العمل الزراعي هناك وقرروا المغادرة.
كان هرتزل، مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية، وبعد وقت قصير من تعريفه لبريطانيا على أنها الراعي المثالي للاستعمار اليهودي، قد أجرى محادثات خاصة مع المسؤولين البريطانيين لتحديد المكان الذي يجب أن يبدأ فيه الاستعمار اليهودي، فعندما التقى هرتزل بوزير الاستعمار البريطاني، جوزيف تشامبرلين، اقترح عليه الأخير قبرص والعريش وشبه جزيرة سيناء
كانت قبرص موضع اهتمام الناشط اليهودي الألماني، ديفيس تريتش،حيث أعرب عام 1893 عن توجهه حول ما يجب فعله مع قبرص قائلاً: “كانت هنا أرض لم يعرف الإنجليز ماذا يفعلون بها، وفي نفس الوقت، كان اليهود في كل مكان يبحثون عن مكان يستقرون فيه، فكانت قبرص هي المنطقة المجاورة مباشرة لفلسطين، فقد كانت هناك رغبة في استعمار فلسطين، لكن هذا لم يكن من الممكن تحقيقه بسبب موقف الحكومة التركية، وبدا لي حينها أن الفكرة الطبيعية والجميلة المتمثلة في العودة إلى الأرض القديمة يمكن دمجها مع الاستعمار في قبرص، سواء بقيت إنجلترا هناك أم لا”.
بعد العثور على كتيب مؤسس الصهيونية تيودور هرتزل “دولة اليهود”، الذي نُشر عام 1896، تشجع تريتش وسافر لحضور المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، وبعد أسابيع قليلة من المؤتمر، كتب إلى هرتزل يخبره بفكرته وبقيا الاثنان على تواصل مستمر بخصوص هذا الأمر، حتى أن هرتزل دعمه في إلقاء خطاب أمام المؤتمر الصهيوني الثالث في عام 1899 حول هذه المسألة، لكن قليلين اتفقوا معه.
لاحقاً في المؤتمر الصهيوني الخامس عام 1901، تم نقاش فكرة “فلسطين الكبرى” التي ستكون قبرص جزءاً منها، وفي تلك الحالة، فإن استعمار الجزيرة سوف يكون جزءاً من المشروع الصهيوني وليس بديلاً له، ومن هنا أصبحت قبرص موقعاً محتملاً ومحط اهتمام للاستعمار اليهودي.
“فلسطين الكبرى”
في عام 1897، أنشأت جمعية الاستعمار اليهودي (JCA) مستعمرة يهودية في قبرص لليهود الروس وانضم إليهم المستوطنون اليهود الروس من فلسطين، وكان عدد سكان المستعمرة في منطقة مارجو تشيفليك التي تبعد 14 كم عن نيقوسيا، أقل من 200 نسمة وتم تفكيكها في عام 1927 عندما تم استعمار فلسطين.
كان هرتزل، مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية، وبعد وقت قصير من تعريفه لبريطانيا على أنها الراعي المثالي للاستعمار اليهودي، قد أجرى محادثات خاصة مع المسؤولين البريطانيين لتحديد المكان الذي يجب أن يبدأ فيه الاستعمار اليهودي، فعندما التقى هرتزل بوزير الاستعمار البريطاني، جوزيف تشامبرلين، اقترح عليه الأخير قبرص والعريش وشبه جزيرة سيناء.
كان تشامبرلين، وهو مسيحي صهيوني، معارضاً للهجرة اليهودية من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا، ورغم تعاطفه مع هرتزل إلا أنه أكد أن بريطانيا لن تطرد اليونانيين و”المسلمين” من قبرص من أجل المستعمرين اليهود.
شرح هرتزل خطته بتأسيس “شركة يهودية شرقية” برأس مال قدره 5 ملايين جنيه استرليني أي 24.5 مليون دولار، لاستعمار سيناء والعريش، وهو المال الذي من شأنه أن يجذب القبارصة، حيث قال: “سوف يبتعد المسلمون وسيبيع اليونانيون أراضيهم بكل سرور بسعر 100 دولار وهو سعر جيد للهجرة إلى أثينا أو كريت”، ولكن نظراً لتحفظات تشامبرلين حول طرد القبارصة، أصبح البديل المصري هو الأكثر ترجيحاً.
سافر هرتزل وصهاينة آخرون إلى مصر عام 1903، حيث التقوا بحاكمها الاستعماري البريطاني، اللورد كرومر، للتفاوض حول استعمار اليهود للمنطقة الواقعة بين نهر النيل وقناة السويس، لكن المشروع لم يتحقق لكون المنطقة قاحلة.
لو كان القبارصة يجدون بالاستعمار اليهودي وحروب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين أمراً عادياً ولا يمكن الاعتراض عليه إلى درجة مواصلة العلاقات الدافئة والتعاون العسكري مع إسرائيل، فلماذا لا يعرضون بلادهم للاستعمار اليهودي وإحياء الأحلام الصهيونية، خاصة وأن سفارة قبرص في تل أبيب تحتفل بالمستعمرات العبرية القديمة في بلادها؟!
في المؤتمر الصهيوني السادس عام 1903، اختلف هرتزل وتريتش وذلك بسبب التخلي عن مشاريع فلسطين الكبرى في قبرص وسيناء والعريش، وذلك في ضوء العرض البريطاني الجديد بأن تكون أوغندا خياراً مناسباً للاستعمار اليهودي، وهي منطقة لم تكن جزءاً من “فلسطين الكبرى” التي تصورتها الصهيونية، كما أن الخطط المتعلقة بقبرص لم تتحقق أبداً.
بعد الحرب العالمية الأولى، حصل الصهاينة على الرعاية البريطانية لمشروعهم الاستعماري في فلسطين، وفي نفس الوقت، عملوا على استغلال الأساليب الاستعمارية البريطانية المستخدمة في قبرص لتقسيم القبارصة المسلمين والمسيحيين.
في يناير عام 1922، ابتكر المندوب السامي الصهيوني البريطاني في فلسطين، هربرت صموئيل، مكتباً طائفياً جديداً للمسلمين الفلسطينيين أطلق عليه اسم المجلس الإسلامي الأعلى بهدف تقويض التضامن بين الطوائف بين المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين، على غرار السياسة الاستعمارية البريطانية السابقة تجاه المسلمين الأصليين في قبرص.
دولة منبوذة
تاريخياً، دافعت قبرص، وقبل أن تتبنى سياسة الاتحاد الأوروبي المؤيدة للصهيونية كما فعلت اليونان، عن الفلسطينيين وحقوقهم واعترفت بدولة فلسطين، حتى بلغ موقفها المؤيد للفلسطينيين حداً دفع إسرائيل في عام 1993 إلى إعلان السيدة الأولى زوجة الرئيس القبرصي جورج فاسيليو، أندرولا فاسيليو، شخصاً غير مرغوب فيه في إسرائيل، وذلك عندما حاول وفد، كانت على رأسه، مقابلة ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية آنذاك.
اليوم، وعلى عكس قيام المزيد والمزيد من الدول بقطع العلاقات وفرض العقوبات على إسرائيل، فإن االعلاقات القبرصية الإسرائيلية آخذة بالتطور، في مشهد يبدو فيه أن عزلة البلاد وتحولها إلى دولة منبوذة على المستوى الدولي أمر لا يشكل أي أهمية في نظر القبارصة.
ويطرح تساؤل هنا، لو كان القبارصة يجدون بالاستعمار اليهودي وحروب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين أمراً عادياً ولا يمكن الاعتراض عليه إلى درجة مواصلة العلاقات الدافئة والتعاون العسكري مع إسرائيل، فلماذا لا يعرضون بلادهم للاستعمار اليهودي وإحياء الأحلام الصهيونية، خاصة وأن سفارة قبرص في تل أبيب تحتفل بالمستعمرات العبرية القديمة في بلادها؟!
وفي ضوء هذا الترحيب القبرصي، لمَ لا يفكر الصهاينة في دعوة جديدة لـ “عودة” اليهود المعاصرين إلى المستعمرات العبرية القديمة أو الصهيونية الأحدث في قبرص؟!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)