قتل إسرائيل لعمال الإغاثة لم يكن صدفة… بل هو جزء من خطة تدمير غزة

بقلم جوناثان كوك

ترجمة وتحرير مريم الحمد

بعد 6 أشهر وسقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى من النساء والأطفال الفلسطينيين، بدأ الإعلام الغربي يتساءل أخيراً عن تصرفات إسرائيل في غزة!

في نظرهم، يبدو أن إسرائيل قد تجاوزت الخط الأحمر هذه المرة بقتلها عدداً من عمال الإغاثة الأجانب، بما في ذلك 3 سماسرة أمنيين بريطانيين.

لقد أدى الهجوم على قافلة المطبخ المركزي العالمي إلى تغيير المعادلة بالنسبة لوسائل الإعلام الغربية ولو مؤقتاً، فقد كان مقتل 7 من عمال الإغاثة بمثابة دعوة للاستيقاظ وكأنه لم يكن هناك عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين القتلى والمشوهين والأيتام!

رغم التنسيق مع إسرائيل ووضع علامات واضحة على جميع المركبات، إلا أن 3 صواريخ أصابت المركبات التي كانت في قافلة مساعدات تابعة للمطبخ المركزي العالمي، حيث كانت متجهة إلى ساحل غزة على أحد الطرق القليلة التي لا تزال صالحة للمرور بعد أن حولت إسرائيل منازل وشوارع القطاع إلى أنقاض. 

كان من المستحيل إلقاء اللوم على حماس هذه المرة، فوجود ثقوب صاروخية دقيقة في أسطح المركبات اضطر إسرائيل إلى الاعتراف بالمسؤولية، حيث زعم متحدثون باسمها أن شخصية مسلحة شوهدت وهي تدخل منطقة التخزين التي انطلقت منها قافلة المساعدات.

كان الرد هذا أضعف من أن يفسر سبب قيام الجيش الإسرائيلي بضرب السيارات التي كان من المعروف أن هناك عمال إغاثة فيها، لذلك سارعت إسرائيل إلى وعد بإجراء تحقيق فيما وصفه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بـ”الحادث المأساوي”.

هو بالفعل “حادث مأساوي” يضاف إلى كل “الحوادث المأساوية” الأخرى التي يزيد عددها عن 15 ألفاً التي ترتكبها إسرائيل ضد الأطفال الفلسطينيين يوماً بعد يوم منذ 6 أشهر، لكن في تلك الحالات، نجح المعلقون الغربيون دائمًا في تقديم بعض التبرير لإسرائيل وهو ما لم يفعلوه هذه المرة.

“كفى”

بعد فوات الأوان بنصف عام، وتدمير إسرائيل للبنية التحتية الطبية في غزة بالكامل واقتراب القطاع من حافة المجاعة، تذكرت صحيفة الإندبندنت البريطانية فجأة أن تعلنها بشكل حاسم على صفحتها الأولى: “كفى”.

أخيراً، شعر مقدم برنامج صباح الخير يا بريطانيا، ريتشارد مادلي،  بأنه مضطر إلى القول بأن إسرائيل نفذت “إعداماً” بحق عمال الإغاثة الأجانب، وماذا عن 15 ألف طفل؟ ألم يكن إعداماً كذلك؟ أم كان موتاً ببساطة؟!

عندما تعلق الأمر بمقتل موظفي المطبخ المركزي العالمي، خلص مضيف البرنامج الحواري الشهير على قناة LBC، نيك فيراري، إلى أن تصرفات إسرائيل “لا يمكن الدفاع عنها”، وماذا عن تصرفاتها مع أطفال غزة، يمكن الدفاع عنها؟! 

لقد كشفت الأدلة التي قدمتها حركة التضامن الدولية آنذاك النقاب عن “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” على حقيقته، فهو مشروع إجرامي موجود لسرقة الأراضي والتطهير العرقي للفلسطينيين

لقد أدى الهجوم على قافلة المطبخ المركزي العالمي إلى تغيير المعادلة بالنسبة لوسائل الإعلام الغربية ولو مؤقتاً، فقد كان مقتل 7 من عمال الإغاثة بمثابة دعوة للاستيقاظ وكأنه لم يكن هناك عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين القتلى والمشوهين والأيتام!

ما لبث السياسيون البريطانيون بعد ذلك أن قاموا بطمأنة الجمهور بأن إسرائيل ستجري “تحقيقاً مستقلاً” في الحادث، مع الإشارة إلى أنها نفس إسرائيل التي لا تعاقب جنودها أبداً حتى عندما يتم بث فظائعهم على شاشات التلفزيون، وهي نفس إسرائيل التي تجد محاكمها العسكرية أن كل فلسطيني تقريباً مذنب بأي جريمة تختار إسرائيل أن تتهمه بها.

قواعد اللعبة الإسرائيلية

أبدى الإعلام الغربي ذهولاً من فكرة أن إسرائيل اختارت قتل الأجانب الذين يعملون في المطبخ المركزي العالمي، فيما تعاملت مع عشرات الآلاف من القتلى الفلسطينيين باعتبارهم “أضراراً جانبية” مؤسفة في “الحرب” الرامية إلى “القضاء على حماس”.

لو كانوا يولون اهتماماً أكبر لأدرك هؤلاء النقاد أن قتل الأجانب ليس بالأمر الاستثنائي، فقد كان هذا الأمر محورياً ضمن قواعد اللعب التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي لعقود من الزمن، ويساعد في تفسير ما تأمل إسرائيل في تحقيقه من خلال مذبحتها الحالية ضد الفلسطينيين في غزة.

لو عدنا إلى أوائل العقد الأول من القرن 21، فإننا نستطيع أن نرى كيف كانت إسرائيل في حالة هياج كذلك، حيث دمرت غزة والضفة الغربية “انتقاماً” من الفلسطينيين الذين تجرأوا على الانتفاض ضد عقود من الاحتلال العسكري.

في ذلك الوقت، غامر مجموعة من المتطوعين الأجانب، وعدد كبير منهم من اليهود، بالدخول إلى تلك المناطق لتوثيق جرائم الجيش الإسرائيلي والعمل كدروع بشرية لحماية الفلسطينيين من العنف، وذلم تحت عباءة حركة التضامن الدولية (ISM)، وهي مبادرة يقودها الفلسطينيون.

كانوا حريصين على استخدام ما كان آنذاك يعتبر تقنيات جديدة مثل الكاميرات الرقمية والبريد الإلكتروني والمدونات لتركيز الاهتمام على الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، وتحول العديد منهم إلى مدرسة جديدة من الصحفيين الناشطين المندمجين في المجتمعات الفلسطينية لنقل القصة التي لا يغطيها الصحفيون الغربيون المندمجون في إسرائيل مطلقاً.

اعتبرت إسرائيل حركة التضامن الدولية جماعة إرهابية ورفضت الوثائق المصورة الخاصة بها ووصفتها بأنها “باليوود”، على وزن هوليوود باعتبارها محاكاة لأنه خيال أشبه بهوليوود فلسطينية.

عزل غزة

لقد كشفت الأدلة التي قدمتها حركة التضامن الدولية آنذاك النقاب عن “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” على حقيقته، فهو مشروع إجرامي موجود لسرقة الأراضي والتطهير العرقي للفلسطينيين.

أشارت العديد من الأدلة إلى أن الجنود حصلوا على تصريح بإعدام الأجانب في الأراضي المحتلة، حيث شمل ذلك نشطاء شباب مثل راشيل كوري وتوم هيرندال وآخرين مثل جيمس ميلر، مخرج أفلام مستقل غامر بالدخول إلى غزة، وحتى مسؤول الأمم المتحدة، إيان هوك، المقيم في الضفة الغربية.

لقد كان لهذه الموجة السريعة من عمليات القتل وتشويه سمعة العديد من الناشطين الآخرين أثر في انسحاب حركة التضامن الدولية من الأراضي المحتلة لحماية متطوعيها، وفي الوقت نفسه، منعت إسرائيل رسمياً حركة التضامن الدولية من الوصول إلى الأراضي المحتلة، علاوة على ذلك، فقد رفضت إسرائيل منح أوراق اعتماد صحفية لأي صحفي لا ترعاه دولة أو وسيلة إعلام مملوكة لملياردير.

بهذا الطريقة، وجدت قناة الجزيرة أن صحفييها يُمنعون أو يُقتلون كما تعرضت مكاتبها للقصف على مدار السنوات الماضية.

بلغت المعركة لعزل الفلسطينيين وتحرر إسرائيل من توثيق وملاحقة  الفظائع التي ترتكبها ذروتها في الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزة منذ 17 عاماً.

أدى الحصار البري الكامل للقطاع إلى تركيز نشطاء حقوق الإنسان جهودهم على كسر الحصار عبر البحر،حيث حاولت سلسلة من “أساطيل الحرية” الوصول إلى ساحل غزة منذ عام 2008 فصاعداً، وسرعان ما تمكنت إسرائيل من إيقاف معظمها.

الأسوأ من ذلك، بالنسبة لإسرائيل، أن وجود الأونروا يعني الإبقاء على حق العودة ـالذي يكفله القانون الدولي ــ للاجئين الفلسطينيين المطرودين من أراضيهم الأصلية حتى يتسنى بناء دولة يهودية معلنة مكانهم

كانت أكبرها سفينة مافي مرمرة، وهي سفينة تركية كانت محملة بالمساعدات والأدوية، حيث اقتحمت قوات كوماندوز البحرية الإسرائيلية السفينة وهي في المياه الدولية عام 2010، مما أسفر عن مقتل 10 من عمال الإغاثة الأجانب ونشطاء حقوق الإنسان الذين كانوا على متنها وإصابة 30 آخرين.

ومع ذلك، فقد تواطأت وسائل الإعلام الغربية مع وصف إسرائيل للأسطول بأنه مشروع إرهابي حتى وتلاشت محاسبة إسرائيل تدريجياً.

تواطؤ غربي

هذا هو السياق المناسب لفهم الهجوم الأخير على قافلة المساعدات التابعة للمطبخ المركزي العالمي، فقد كان لإسرائيل دائماً 4 محاور فيما يتعلق باستراتيجيتها تجاه الفلسطينيين، حيث سمحت هذه العوامل مجتمعة لإسرائيل بتثبيت نظامها القائم على الفصل العنصري، والآن تسمح لها ذان الاستراتيجية بتنفيذ الإبادة الجماعية دون عائق.

المحور الأول هو عزل الفلسطينيين تدريجياً عن المجتمع الدولي، والثاني هو جعل الفلسطينيين يعتمدون بشكل كامل على حسن نية المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وخلق ظروف محفوفة بالمخاطر وغير قابلة للتنبؤ بها، لدفع الفلسطينيين إلى إخلاء وطنهم وتركه حراً ليتم “تهويده”.

ثالثاً، قامت إسرائيل بسحق أي محاولة من جانب جهات خارجية، وخاصة وسائل الإعلام ومراقبي حقوق الإنسان، للتدقيق والتحقيق في أنشطتها، أما المحور الرابع، فتمثل في عمل إسرائيل على تآكل تدابير الحماية الإنسانية التي كرّسها القانون الدولي، قطعة قطعة، لوقف تكرار الفظائع المعتادة ضد المدنيين خلال الحرب العالمية الثانية.

لقد أثبتت إسرائيل بما لا يدع مجالاً للشك أنها تعتبر كل فلسطيني في غزة عدواً، فحقيقة أن معظم منازل القطاع أصبحت الآن أنقاضاً يجب أن تكون دليلاً كافياً

جرى العمل على هذه المحاور الأربعة على مدى سنوات وعقود، ولكنها تسارعت بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر، حيث أصبح لدى إسرائيل ذريعة جاهزة لتحويل الفصل العنصري إلى إبادة جماعية!

على صعيد آخر، فقد كانت الأونروا، وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والمفوضة بتقديم المساعدات للفلسطينيين، في مرمى إسرائيل منذ فترة طويلة خاصة في غزة، وذلك لأنها كانت بمثابة شريان حياة لسكان القطاع  سمحت للمجتمع الدولي بوضع قدمه في غزة بشكل مستقل عن إسرائيل.

الأسوأ من ذلك، بالنسبة لإسرائيل، أن وجود الأونروا يعني الإبقاء على حق العودة ـالذي يكفله القانون الدولي ــ للاجئين الفلسطينيين المطرودين من أراضيهم الأصلية حتى يتسنى بناء دولة يهودية معلنة مكانهم.

ومن هنا، فقد اغتنمت إسرائيل الفرصة لاتهام الأونروا بالتورط في هجوم 7 أكتوبر، رغم أنها لم تقدم أي دليل على هذا الادعاء، وبنفس القدر من الحماس، قامت الدول الغربية بإغلاق صنبور التمويل لوكالة الأمم المتحدة.

يبدو أن إدارة بايدن حريصة أيضاً على إنهاء إشراف الأمم المتحدة على غزة من خلال تجميد دورها الرئيسي في تقديم المساعدات للشركات الخاصة، فقد كانت واشنطن أحد أهم الرعاة الرئيسيين للمطبخ المركزي العالمي، بقيادة طاهٍ إسباني مشهور له علاقات مع وزارة الخارجية الأمريكية.

كان من المتوقع أن يكون المطبخ المركزي العالمي، الذي يقوم أيضًا ببناء رصيف قبالة ساحل غزة، بمثابة مساعد لخطة واشنطن لشحن المساعدات في نهاية المطاف من قبرص، بهدف مساعدة الفلسطينيين الذين لن يموتوا جوعاً خلال الأسابيع القليلة المقبلة.

أكد مسؤول استخباراتي إسرائيلي أن من “جيش الدفاع الإسرائيلي قام بقصف منازلهم دون تردد، فمن الأسهل بكثير قصف منزل العائلة، حيث تم بناء النظام للبحث عنهم في هذه المواقف، كما فضلت إسرائيل استخدام ذخائر غير موجهة وغير دقيقة تسمى “قنابل غبية”، مما زاد بشكل كبير من احتمال مقتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين الآخرين أيضاً” – تحقيق موقع 972+ الإسرائيلي

كان هذا السيناريو المرسوم إلى أن ضربت إسرائيل قافلة المساعدات وقتلت موظفيها، وهنا انسحب المطبخ من غزة وتراجع مقاولو المساعدات من القطاع الخاص خوفًا على سلامة عمالهم.

لقد تم تحقيق الهدف الأول، فشعب غزة بات بمفرده، والغرب، بدلاً من إنقاذه، أصبح الآن متواطئاً بالكامل ليس فقط في الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة بل أيضاً في المجاعة التي تعيشها!

يانصيب الحظ بين الموت والحياة

لقد أثبتت إسرائيل بما لا يدع مجالاً للشك أنها تعتبر كل فلسطيني في غزة عدواً، فحقيقة أن معظم منازل القطاع أصبحت الآن أنقاضاً يجب أن تكون دليلاً كافياً.

لقد أدى قيام إسرائيل بتسوية المستشفيات فضلاً عن اختطاف وتعذيب الطواقم الطبية، إلى ترك الفلسطينيين في غزة مكشوفين تماماً، حيث أن القضاء على الرعاية الصحية يعني أن الولادات والإصابات الخطيرة والأمراض المزمنة والحادة سرعان ما تصبح حكماً بالإعدام.

لقد عمدت إسرائيل إلى تحويل الحياة في غزة إلى يانصيب حيث لا يوجد مكان آمن!

وفقاً لتحقيق جديد، فقد اعتمدت حملة القصف الإسرائيلية بشكل كبير على أنظمة الذكاء الاصطناعي التجريبية التي تعمل على أتمتة عملية قتل الفلسطينيين، وهذا يعني عدم وجود حاجة للرقابة البشرية.

وجد الموقع الإسرائيلي 972 أن عشرات الآلاف من الفلسطينيين تم إدراجهم على “قوائم القتل” التي أنشأها برنامج يسمى لافندر، باستخدام تعريفات فضفاضة لكلمة “إرهابي” وبمعدل خطأ يقدره الجيش الإسرائيلي بواحد من كل 10، ومن خلال برنامج آخر يسمى “أين أبي؟”، يتم تتبع العديد من هذه “الأهداف” حتى الوصول إلى منازل عائلاتهم.

في تصريحه للموقع، أكد مسؤول استخباراتي إسرائيلي أن من “جيش الدفاع الإسرائيلي قام بقصف منازلهم دون تردد، فمن الأسهل بكثير قصف منزل العائلة، حيث تم بناء النظام للبحث عنهم في هذه المواقف، كما فضلت إسرائيل استخدام ذخائر غير موجهة وغير دقيقة تسمى “قنابل غبية”، مما زاد بشكل كبير من احتمال مقتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين الآخرين أيضاً”.

وبعبارة أخرى، صاغها مسؤول استخباراتي إسرائيلي آخر بقوله: “أنت لا تريد أن تضيع القنابل الباهظة الثمن على أشخاص غير مهمين، فهي مكلفة للغاية بالنسبة للبلاد، وهناك نقص في القنابل الذكية”، الأمر الذي يفسر كيف يتم ذبح عائلات ممتدة بأكملها!

في موقف منفصل، ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في 31 مارس أن الجيش الإسرائيلي يدير “مناطق قتل” غير محددة يتعرض فيها أي شخص يتحرك، رجلاً أو امرأة أو طفلاً، لخطر القتل بالرصاص، حيث أكد ضابط احتياط كان يخدم في غزة للصحيفة أنه “في الممارسة العملية، الإرهابي هو أي شخص يقتله جيش الدفاع الإسرائيلي في المناطق التي تعمل فيها قواته”.

على مدار الأشهر الستة الماضية، أصبحت المستشفيات، التي كانت ذات يوم مقدسة، أهدافًا مشروعة هي والمرضى بداخلها!

أما الفلسطينيون، فكيف لهم أن يعرفوا أين مناطق القتل هذه، هم يقومون يائسين بالبحث على أمل العثور على الطعام، وإذا كانوا محظوظين بما فيه الكفاية لتجنب الموت من السماء أو الموت جوعاً، فإنهم يخاطرون بالقبض عليهم من قبل الجنود الإسرائيليين ونقلهم إلى أحد المواقع السوداء الإسرائيلية، حيث هناك، كما اعترف طبيب إسرائيلي مؤخراً، فظائع لا توصف على غرار ما حدث في أبو غريب!

هكذا تم تحقيق الهدف الثاني، وهو ترك الفلسطينيين مرعوبين من العنف العشوائي الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي ويائسين للعثور على مهرب!

عرقلة التقارير

منذ فترة طويلة، منعت إسرائيل مراقبي حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة من الوصول إلى الأراضي المحتلة، حيث أدى ذلك إلى ترك التدقيق في جرائمها في أيدي وسائل الإعلام، حيث تم منع المراسلين الأجانب المستقلين من دخول المنطقة منذ حوالي 15 عاماً، في مقابل ترك المجال للصحفيين الذين يخدمون وسائل الإعلام الحكومية والشركات.

لهذا السبب، تم نشر أهم القصص المتعلقة بأحداث 7 أكتوبر والإجراءات العسكرية الإسرائيلية في غزة ومعاملة السجناء الفلسطينيين في إسرائيل من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية بالإضافة إلى وسائل الإعلام الغربية الصغيرة المستقلة التي سلطت الضوء على تغطيتها.

منذ 7 أكتوبر، منعت إسرائيل جميع الصحفيين الأجانب من دخول غزة، وامتثل المراسلون الغربيون لذلك بكل تواضع، فلم يقم أي منهم بتنبيه جمهوره إلى هذا الهجوم الكبير على دورهم المفترض كمراقبين.

على الجانب الآخر، فقد سُمح للمتحدثين الإسرائيليين، الذين يتمتعون بخبرة جيدة في فنون الخداع والتضليل المظلمة، بملء الفراغ في استوديوهات لندن!

هكذا تم تحقيق الهدف الثالث، وهو إطفاء النور عن غزة، حيث تستطيع إسرائيل أن تنفذ في الظلام المرحلة الأكثر بشاعة من عملية الإبادة الجماعية التي ترتكبها وهي الجوع حتى الموت!

لو تُركت المعلومات الموجودة على أرض الواقع في غزة لتصل إلى الرأي العام الغربي دون قمعها، فقد كانت لتترك تأثيراً كبيراً، وهو ما أصبح يأتي عبر الصحفيين الفلسطينيين الذين أظهروا الإبادة الجماعية على حقيقتها.

هذا الدور الذي يقوم به الصحفيون الفلسطينيون هو ما يجعل إسرائيل تقوم بالقبض عليهم واحدا تلو الآخر، تماماً كما فعلت في السابق مع راشيل كوري وتوم هيرندال، فضلاً عن قتل عائلاتهم الممتدة كتحذير للآخرين.

تعد قناة الجزيرة القناة الدولية الوحيدة التي لديها العديد من الصحفيين على الأرض في غزة والتي هي في وضع يسمح لها بتقديم تقاريرها باللغة الإنجليزية عالية الجودة.

لقد تزايدت قائمة الصحفيين الذين قتلتهم إسرائيل منذ 7 أكتوبر، كما قام الجيش الإسرائيلي بإعدام معظم أفراد عائلة رئيس مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح فضلاً عن إصابته هو نفسه، كما قُتلت نظيرته في الضفة الغربية، شيرين أبو عاقلة، برصاص قناص في الجيش الإسرائيلي قبل عامين.

ليس من المستغرب إذن أن سارعت إسرائيل إلى تمرير قانون عبر برلمانها مؤخراً لمنع قناة الجزيرة من البث من المنطقة، حيث وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنها “قناة إرهابية”، مدعياً أنها شاركت في هجوم حماس في 7 أكتوبر.

من جانبها، كانت قناة الجزيرة قد بثت مؤخراً فيلماً وثائقياً يعيد النظر في أحداث 7 أكتوبر، فقد أظهر الفيلم أن حماس لم ترتكب الجرائم الأكثر وحشية التي تتهمها إسرائيل بارتكابها، وأن إسرائيل هي المسؤولة في بعض الحالات عن أبشع الفظائع التي ارتكبتها ضد مواطنيها والتي نسبتها إلى حماس.

يعد مقتل موظفي المطبخ المركزي العالمي بمثابة نكسة،  إلا أن تدمير غزة، وهي الخطة الإسرائيلية التي دامت ما يقرب من عقدين من الزمن، لم تنته بعد!

تشعر قناة الجزيرة وجماعات حقوق الإنسان بالقلق من احتمال اتخاذ إسرائيل المزيد من الإجراءات ضد صحفيي القناة لمنع تقاريرها، وفي الوقت نفسه، يخشى الفلسطينيون في غزة من أنهم على وشك فقدان القناة الوحيدة التي تربطهم بالعالم الخارجي، سواء من ناحية سرد قصصهم أو إبقائهم على اطلاع بما يعرفه العالم المراقب عن محنتهم.

هكذا تم تحقيق الهدف الثالث، وهو إطفاء النور عن غزة، حيث تستطيع إسرائيل أن تنفذ في الظلام المرحلة الأكثر بشاعة من عملية الإبادة الجماعية التي ترتكبها وهي الجوع حتى الموت!

تمزيق قواعد القانون الدولي

أخيراً، قامت إسرائيل بتمزيق قواعد القانون الإنساني الدولي التي تهدف إلى حماية المدنيين من الفظائع، فضلاً عن البنية التحتية التي يعتمدون عليها، فقد دمرت إسرائيل الجامعات والمباني الحكومية والمساجد والكنائس والمخابز والمرافق الطبية.

على مدار الأشهر الستة الماضية، أصبحت المستشفيات، التي كانت ذات يوم مقدسة، أهدافًا مشروعة هي والمرضى بداخلها!

لقد أصبح العقاب الجماعي، المحظور تماما كجريمة حرب، هو القاعدة في غزة منذ عام 2007، عندما وقف الغرب صامتاً بينما تحاصر إسرائيل القطاع لمدة 17 عاماً.

واليوم، بينما يتضور الفلسطينيون جوعاً حتى الموت ويتحول الأطفال إلى جلود وعظام، وفي الوقت الذي يتم فيه قصف قوافل المساعدات وإطلاق النار على طالبي المساعدات، يبدو أنه لا يزال هناك مجال للنقاش بين الطبقة الإعلامية والسياسية الغربية حول ما إذا كان كل هذا يشكل انتهاكاً للقانون الدولي أصلاً أم لا!

حتى بعد 6 أشهر من قصف إسرائيل لغزة، ومعاملة سكانها وكأنهم “حيوانات بشرية” وحرمانهم من الغذاء والماء والطاقة، يبدو أن نائب رئيس الوزراء البريطاني، أوليفر دودن، ما زال يرى أن إسرائيل مقيدة بطريقة غير عادلة بـ”معايير عالية بشكل لا يصدق”، ولا يزال وزير خارجية الظل لحزب العمال المعارض، ديفيد لامي، يقف عند مرحلة “المخاوف الجدية” من احتمال انتهاك القانون الدولي!

لم يقترح أي من الطرفين حتى الآن حظر بيع الأسلحة البريطانية لإسرائيل مثلاً، رغم أنها الأسلحة التي تُستخدم لارتكاب هذه الانتهاكات للقانون الدولي، ولم يشر أي منهما إلى حكم محكمة العدل الدولية بأن إسرائيل ترتكب “الإبادة الجماعية”.

من ناحية أخرى، لا تزال النقاش السياسي الرئيسي في الغرب غارقاً في إحياء الحل الوهمي المتعلق بـ “حل الدولتين” غير الواقعي بدلاً من كيفية وقف الإبادة الجماعية!

الحقيقة هي أن إسرائيل قامت بتمزيق أبسط مبادئ القانون الدولي، من “التمييز” بين المقاتلين والمدنيين، و”التناسب” باستخدام الحد الأدنى من القوة اللازمة لتحقيق أهداف عسكرية مشروعة، وبذلك تم نسف قواعد الحرب ولم يعد نظام القانون الدولي الإنساني تحت التهديد فحسب، بل انهار.

يواجه كل فلسطيني في غزة اليوم حكم الإعدام، أما إسرائيل فهي مطمئنة بأنه لن يتم المساس بها، فرغم الضجيج الخلفي المتمثل في “المخاوف” التي يعبر عنها البيت الأبيض بلا توقف والشائعات حول “التوترات” المتنامية بين الحلفاء، إلا أن الولايات المتحدة وأوروبا يؤكدان أن الإبادة الجماعية من الممكن أن تستمر، ولكن لابد أن يتم تنفيذها بشكل أكثر تكتماً وبشكل أكثر سرية.

في ظل ذلك، يعد مقتل موظفي المطبخ المركزي العالمي بمثابة نكسة،  إلا أن تدمير غزة، وهي الخطة الإسرائيلية التي دامت ما يقرب من عقدين من الزمن، لم تنته بعد!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة