بقلم سمية الغنوشي
ترجمة وتحرير موقع بالعربية
بقصفها عاصمة قطر للمرة الأولى وقتلها ستة أشخاص، بعثت إسرائيل برسالة مدوية إلى المنطقة بأسرها: السيادة العربية لم تعد تساوي شيئًا، فيما تغض الولايات المتحدة الطرف بصمت فاضح عن هذا التصعيد الصارخ.
لم يكن هجوم إسرائيل على الدوحة مجرد عملية عسكرية إضافية؛ بل كان صاعقة سياسية وأمنية هزّت كل قصر، وكل وزارة، وكل شارع في العالم العربي.
لم يكن استهدافًا لحركة حركة حماس ولا لقطاع غزة فحسب، بل ضربة مباشرة للفكرة ذاتها بأن ثمة عاصمة عربية يمكن أن تُعتبر آمنة.
ففي غضون أسابيع قليلة، قصفت إسرائيل غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان واليمن وإيران، وكانت قد استهدفت العراق العام الماضي، وضربت قبل يومين فقط سفينتين تابعتين أسطول صمود في تونس.
ثم خلال ساعات معدودة، أرسلت طائراتها الحربية إلى الدوحة، وتواصل احتلال ممر فيلادلفيا متحدّية مصر، فيما تجوب طائراتها المسيّرة وصواريخها سماء العرب كأنها «أسياد على الهواء المحتل».
إسرائيل لا تخوض حربًا مع حركة واحدة ولا مع شريط أرض محدد، بل مع المنطقة كلها؛ فلا سيادة محترَمة ولا حدود معترَف بها.
ورغم ذلك، مضى رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو يأمر بقصف فريق تفاوض حماس في قلب الدوحة، رغم جهود قطر ومصر للتوسط في محادثات وقف إطلاق النار.
أسفر الهجوم عن مقتل ستة أشخاص، بينهم ضابط أمني قطري، في سابقة هي الأولى من نوعها على الأرض القطرية.
والدوحة ليست عاصمة عابرة؛ فهي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، وتحمل صفة «حليف رئيسي غير عضو في حلف الناتو» لدى واشنطن، وضخت مليارات الدولارات في الخزائن الأمريكية، لكن كل ذلك لم يشفع لها ولم يحمِها.
في يوم واحد فقط، قصفت إسرائيل دولة خليجية في قلب الجزيرة العربية ودولة شمال أفريقية على ضفة البحر الأبيض المتوسط؛ قارتان، ودولتان عربيتان، وآلاف الأميال بينهما، لكن الرسالة وصلت واضحة: لا أحد بمأمن.
هكذا تؤسس إسرائيل نظامًا جديدًا: كل أرض عربية ومياهها وسمائها أهداف مشروعة إذا أرادت، فالقانون الدولي صار رمادًا، والقوة الغاشمة هي القانون الوحيد.
إذلال مقصود ورسالة معلنة
أكد رئيس الكنيست أمير أوهانا بعد القصف قائلًا: «هذه رسالة إلى كل الشرق الأوسط»، ونشرها بالعربية ليضمن أن يصل الإذلال مباشرًا. أما نتنياهو، فأعاد التأكيد على التزامه بمشروع «إسرائيل الكبرى» التي تشمل أجزاء من فلسطين ودولًا عربية أخرى.
في المقابل، اكتفت واشنطن بموافقة صامتة. فقبل أشهر، وقف دونالد ترامب في الدوحة متفاخرًا باتفاقات قيمتها 1.2 تريليون دولار، متلقيًا الهدايا والامتيازات، حتى طائرة خاصة بـ400 مليون دولار وصفها بـ«قصر في السماء».
وكانت الدوحة قد توسطت للتو في اتفاق بين الكونغو ورواندا برعايته في البيت الأبيض. ومع ذلك، حين أمر نتنياهو بالهجوم، منح ترامب الضوء الأخضر، ثم تبع ذلك بمكالمة اعتذار شكلية.
إدانات عالمية.. وصمت عربي
انهالت الإدانات الدولية؛ وصفت روسيا الهجوم بأنه «انتهاك صارخ» للقانون الدولي، واتهمت تركيا إسرائيل بتبني الإرهاب كسياسة دولة، وأدانت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية القصف باعتباره تهديدًا للاستقرار الإقليمي.
وتجسّد هذا المشهد مقولة حسني مبارك الشهيرة: «من تحميهم أمريكا يُتركون مكشوفين وعراة».
فعاد ترامب إلى واشنطن غارقًا في ثروات الحكام الخليجيين، لكن الغنائم لم تشترِ أي ضبط للنفس؛ إذ تتعمق الإبادة في غزة، وينتشر الجوع، بينما يحرق المستوطنون القرى في الضفة تحت حماية الجيش ويقتحم الجنود جنين ونابلس والخليل دون محاسبة.
هكذا تجمع إسرائيل أموال العرب بيد وتحرق أرضهم باليد الأخرى؛ تنهب ثرواتهم وتطلق الطائرات الحربية عليهم — هذا هو النظام الجديد.
مفاوضون تحت القصف الأمريكي
الأكثر سخرية أن من قُصفوا في الدوحة لم يكونوا مقاتلين، بل مفاوضين حضروا بناء على طلب واشنطن.
تمامًا كما استضافت قطر قادة حركة طالبان سابقًا بطلب أمريكي، استضافت قادة حماس لضمان استمرار الحوار. ومع ذلك، قصفت إسرائيل العاصمة تحت غطاء أمريكي. وإذا لم تكن قطر، بقاعدتها العسكرية وهداياها وثرواتها، بمأمن، فمن سيكون؟
وحين فشلت محاولة الاغتيال، تراجعت أمريكا سريعًا وغسلت يديها، تاركة إسرائيل تتحمل العبء وحدها.
صرّح السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة: «أحيانًا نُبلغ الإدارة الأمريكية وأحيانًا لا، لكننا في النهاية نتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه العملية».
هكذا تجني واشنطن المكاسب حين تنجح إسرائيل، وتتنكر لها حين تفشل؛ فالذئب ومديره يعرفان أدوارهما جيدًا.
كما قال المبعوث الأمريكي السابق توم باراك: بالنسبة لإسرائيل، «حدود اتفاقية سايكس بيكو بلا معنى؛ سيذهبون حيث يشاؤون ويفعلون ما يريدون».
من «خطة ينون» إلى الحرمين
هذه العقيدة القائمة على الإفلات من العقاب ليست جديدة؛ بل تعود إلى ما عُرف بـ«خطة ينون» التي نشرها أوديد ينون عام 1982 وترجمها إسرائيل شاحاك، ودعت إلى تفتيت الدول العربية إلى دويلات طائفية: العراق إلى سنية وشيعية وكردية، سوريا إلى علوية ودرزية وسنية، ومصر تُضعف لإعادة احتلال سيناء، والفلسطينيون يُنقلون شرق نهر الأردن.
واليوم، تعود هذه الرؤية في خطاب بعض الساسة الصهاينة؛ إذ توقّع آفي ليبكين، مؤسس حزب الكتلة اليهودية للكتاب المقدس، أن تمتد حدود إسرائيل «من لبنان إلى السعودية، ومن البحر المتوسط إلى نهر الفرات»، قائلًا: «ثم سنأخذ مكة والمدينة المنورة وجبل سيناء ونطهّر تلك الأماكن». بل إن كتبًا مثل العودة إلى مكة تُطرح علنًا بمخططات توراتية لغزو الحرمين.
الهدف النهائي واضح: تفتيت القوة العربية إلى شظايا لتتمكن إسرائيل من الهيمنة. انظر حولك: سوريا ممزقة، العراق مجزأ، اليمن محطم، غزة محاصرة، لبنان ينزف؛ إن خريطة ينون أصبحت واقعًا.
تواطؤ عربي وشلل مخزٍ
تتحمل الأنظمة العربية قسطًا كبيرًا من المسؤولية؛ فعقود من الاسترضاء — من اتفاقيات كامب ديفيد واتفاقيات أوسلو ومعاهدة وادي عربة إلى اتفاقيات أبراهام — لم تجلب لهم سوى الخضوع، بينما تجني إسرائيل المكاسب وتعود للمطالبة بالمزيد.
مصر هي المثال الأوضح: فبينما تصدر إدانات شكلية للإبادة في غزة، تضاعفت صادراتها إلى إسرائيل عام 2024 وارتفعت 50% إضافية في النصف الأول من 2025، وتتفاوض على صفقة غاز بـ35 مليار دولار — الأكبر في تاريخها — في وقت انسحب فيه صندوق الثروة السيادي النرويجي من الشركات الإسرائيلية بسبب جرائم الحرب. والأسوأ أن نتنياهو يستخدم هذه الصفقات كورقة ضغط على القاهرة.
أما في السماء، فبينما أغلقت أوروبا والولايات المتحدة أجواءهما أمام روسيا خلال حرب أوكرانيا، تظل الطائرات الإسرائيلية تحلق بحرية فوق السعودية وعُمان والأردن وتركيا.
الرسالة واضحة: تواطؤ، والنتيجة شلل وخيانة.
لا أحد يطالب بإعلان الحرب، لكن بإمكانهم فرض عقوبات أو إغلاق الأجواء أو تجميد التجارة — بدلًا من قمع الاحتجاجات واعتقال المتضامنين وترك إسرائيل تجوب بحرية.
لكن هذا الصمت لن يدوم؛ فالشعوب تراقب، ترى الفلسطينيين يتحملون القصف والجوع، وتشاهد تضامنًا عالميًا من لندن إلى كيب تاون ومن جاكرتا إلى نيويورك، وتتساءل: لماذا لا يفعل حكامنا شيئًا؟
الاستيقاظ أو الزوال
هذا الغضب الشعبي سيتفجر في الشوارع والبحار والسماء، ولا يزال أمام الأنظمة وقت للاختيار: التخلي عن وهم أن التطبيع مع إسرائيل الفاشية التوسعية سينقذهم، وبناء دفاع جماعي مع الحلفاء بدلًا من ذلك.
فإذا لم تعترف الدول العربية بإسرائيل — وليس إيران — كتهديد أساسي لبقائها، فستظل مكشوفة ومذلولة.
لقد سقط وعد الحماية الأمريكية، فلعقود ظن حكام الخليج أن النفط والقواعد والاستثمارات تشتري الأمن، لكن ترامب ونتنياهو مزّقا هذا الوهم، لتغدو الولايات المتحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط كيانًا واحدًا: الراعي والمنفذ.
ومعًا، بعثا بالرسالة الوحيدة التي تهم: لا أحد بأمان؛ لا غزة، لا الدوحة، ولا تونس. وإذا لم تستيقظ المنطقة، فلن تُستثنى حتى مكة والمدينة.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)