وجه قضاة سابقون في المحكمة الجنائية الدولية انتقادات لأسلوب تعامل هيئة الرقابة التابعة للمحكمة مع التحقيق الجاري بشأن شكوى تتعلق بادعاءات سوء سلوك جنسي موجهة ضد المدعي العام للمحكمة كريم خان.
فقد عبّر قاضيان سابقان في تصريحات لموقع ميدل إيست آي عن بالغ قلقهما إزاء الطريقة التي تم بها الإعلان عن وضع خان موضع الشكوى، وشككا في ضرورة اللجوء إلى تحقيق خارجي بشأن مزاعم السلوك غير اللائق.
وقال القاضي الإيطالي كونيو تارفوسر، الذي عمل في المحكمة بين عامي 2009 و2019، للموقع: “أشعر باضطراب عميق، بل وصُدمت، من الكيفية التي يبدو أن الإجراءات ضد كريم خان تسير بها”.
وذكر قاضٍ آخر طلب عدم الكشف عن هويته أن غياب الضمانات الإجرائية أودى بالتحقيق إلى “مساحات خارجة عن القانون” حيث “كل شيء ممكن الحدوث”.
يذكر أن رئيسة جمعية الدول الأعضاء في المحكمة، بايفي كاوكورانتا أوكلت التحقيق في ملف كريم خان إلى مكتب خدمات الرقابة الداخلية التابع للأمم المتحدة (OIOS) بعد تسريب تفاصيل الشكوى إلى وسائل الإعلام في أكتوبر/تشرين الأول.
وكانت آلية الرقابة الداخلية في المحكمة (IOM) قد أغلقت تحقيقين بشأن الشكوى نفسها دون تسمية خان علنًا بسبب رفض الموظفة المشتكية التعاون إلا أن كاوكورانتا أعلنت رغم ذلك لاحقًا بدء تحقيق خارجي عبر الأمم المتحدة، مبررةً ذلك بخصوصية الحالة والمخاوف من تعارض محتمل في المصالح.
وقالت كاوكورانتا إن الـ IOM كانت مختصة بالتحقيق في المزاعم، وإن التحقيقات السابقة أُجريت بناءً على طلب طرف ثالث وكذلك طلب من خان نفسه، لكنها رأت أن “الظروف الخاصة بالقضية، بما في ذلك المنهج المرتكز على الضحية والتصورات حول تضارب محتمل في المصالح” استوجبت تحقيقًا خارجيًا.
واعتبر القاضيان أن كريم خان حُرم من حقه في الإجراءات القانونية العادلة وفي الخصوصية، لا سيما بعد أن تم الكشف عن اسمه بشكل علني، ووصفت الإجراءات بأنها مُصممة خصيصًا ضد خان.
وقال القاضي الإيطالي كونيو تارفوسر: “من غير المسبوق بل ومن المخزي ضمن مؤسسة تقوم على سيادة القانون، أن يتم خلق إجراء مخصص لشخص بعينه، فهذا يهدد بتقويض مصداقية المحكمة بشكل دائم، وهذه الطريقة في إدارة الأمور مألوفة في الدول الاستبدادية، لا في مؤسسات قائمة على القانون”.
أما القاضي الآخر فأعرب عن مخاوفه من أن تضعف الطريقة التي أُديرت بها الشكوى الثقة في آلية التعامل مع الشكاوى، ما قد يثني ضحايا محتملين مستقبلاً عن التقدم بشكاوى مماثلة.
وتستند الشكوى ضد خان إلى مزاعم من موظفة في المحكمة تتهمه بسوء سلوك جنسي، وقد أُبلغ عنها في البداية من قِبل أحد أعضاء مكتب خان، وليس من قبل الضحية نفسها.
ويشغل خان منصب المدعي العام منذ عام 2021، وقد نفى بشدة كل الادعاءات الموجهة إليه، وأفادت مصادر بأنه خضع لاستجواب من قبل محققي الأمم المتحدة في مايو/أيار، وتعاون بشكل كامل مع التحقيق.
وفي وقت لاحق من الشهر ذاته، اضطر خان إلى أخذ إجازة بعد نشر مزاعم جديدة تفيد بوقوع اعتداءات جنسية متكررة ضد المشتكية على مدار نحو عام، ورغم ذلك، أكد محامو خان أن موكلهم لم يستقِل من منصبه ولا يعتزم ذلك، مشيرين إلى أن “الضجيج الإعلامي غير الدقيق والمضخم يعيق قدرته على أداء مهامه بشكل مناسب”.
وفي تطور جديد، كشف موقع ميدل إيست آي هذا الأسبوع عن تفاصيل حملة ضغط استهدفت خان في محاولة لعرقلة تحقيقه في جرائم حرب الاحتلال المحتملة في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وأفاد الموقع أن الشكوى الأولية قُدمت في مايو/أيار 2024، بينما كان خان يستعد لطلب أوامر اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه آنذاك يوآف غالانت.
وأُعيد تداول المزاعم علنًا في أكتوبر/تشرين الأول مع قرب إصدار أوامر التوقيف، حين تم تسريب معلومات إلى الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ما دفع جمعية الدول الأعضاء إلى إطلاق تحقيق الـ OIOS
وفي مايو/أيار 2025، كشفت تقارير جديدة نقلتها صحيفة وول ستريت جورنال عن اتهامات موجهة لــ خان بالاعتداء الجنسي، بالتزامن مع تقارير تفيد بأنه يسعى لاستصدار أوامر توقيف جديدة بحق مسؤولين من دولة الاحتلال.
لكن المشتكية أكدت لموقع ميدل إيست آي أنه لا علاقة لشكواها على الإطلاق بتحقيق المحكمة في فلسطين، ونفت أي ارتباط لها بأي دولة أو جهة خارجية، معتبرة أن “الادعاءات بأن دوافعها سياسية غير مناسبة ومسيئة وبلا أساس”، وأكدت أنها لا تزال تدعم جميع التحقيقات الواقعة ضمن اختصاص المحكمة.
وفي السياق ذاته، نشرت صحيفة لوموند الفرنسية الجمعة تفاصيل عن حملة تهديدات طالت خان وآخرين في المحكمة، ونقلت عن المحامي البريطاني أندرو كايلي، الذي أشرف سابقًا على تحقيق المحكمة في الملف الفلسطيني، قوله إن الاستخبارات الهولندية أبلغته بأنه في دائرة الخطر، وإنه تلقى تهديدًا مباشرًا في ديسمبر/كانون الأول مفاده: “قيل لي إنني عدو لإسرائيل وعليّ أن أراقب ظهري”.
وكان كايلي قد استقال من المحكمة في وقت سابق من هذا العام، بعد تحذيرات من وزارة الخارجية البريطانية من احتمال استهدافه بعقوبات أميركية.
ودعا القاضي الذي فضّل عدم الكشف عن هويته إلى ضرورة أن يشمل التحقيق النظر في شبهات تدخل خارجي في عمل مكتب الادعاء، مشيرًا إلى أن هناك أطرافًا عدة لها مصلحة في تقويض دور المدعي العام والمحكمة، حيث أوضح القاضيان أن هذه المخاوف يتقاسمها عدد من القضاة السابقين والحاليين في المحكمة.
وكانت المحكمة قد واجهت بالفعل إجراءات عقابية وعدائية على خلفية تحقيقاتها في جرائم حرب الاحتلال المحتملة، حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات على خان في فبراير/شباط، وعلى أربعة قضاة حاليين في يونيو/حزيران.
وخلال اجتماع لجمعية الدول الأعضاء الشهر الماضي، حذر المستشار القانوني في الخارجية الأميركية، ريد روبنشتاين، هيئة رقابة المحكمة من أن “جميع الخيارات مطروحة على الطاولة” إذا لم تُسحب أوامر التوقيف ضد نتنياهو وغالانت.
ولا تزال مآلات التحقيق غير واضحة حتى اللحظة، حيث أعلنت رئاسة جمعية الدول الأعضاء في يونيو/حزيران أن التقرير النهائي لـ OIOS سيُحال إلى لجنة خارجية من الخبراء القضائيين لتقييم الخطوات التالية.
وأكدت أن أعمال اللجنة ستُجرى بسرية تامة، وأنه سيجري التعامل مع نتائج التحقيق “بشفافية” فور اكتماله.