خلال فترة حياته القصيرة التي لم تتجاوز ست سنوات بعد، خضع الطفل حسن عبد ربه لأكثر من 25 عملية جراحية داخل قطاع غزة، لمعالجة آلام مستمرة في البطن بسبب تضخم المثانة المزمن الذي جعله عاجزاً عن قضاء حاجته دون ألم.
وحصلت ميدل إيست آي على مقاطع فيديو متعددة لحسن وهو في المستشفى حيث بدا يعاني من الألم بشكل واضح ومسموع، وكان يصرخ على والديه ويكافح لالتقاط أنفاسه المختلطة بالدموع.
هذه الصور ليست غريبة عن غزة، حيث أدى عدوان الاحتلال الذي دام 15 شهرًا ونصف الشهر إلى إصابة عشرات الآلاف من الأطفال الذين خضعوا للعلاج دون تخدير.
وقد قالت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أن 10 أطفال فلسطينيين كانوا يخضعون في كل يوم من أيام الحرب لعمليات بتر في الأعضاء.
كانت حالة حسن مختلفة عن أولئك سريرياً، ولكنها لم تكن بأقل إلحاحاً منهم، وقد طلبت عائلته أن تظل حالته التي اكتشفت عند الولادة قيد الكتمان.
واطلع موقع ميدل إيست آي على سجلات حسن الطبية وتحدث إلى العديد من المطلعين على حالته ومن بينهم والده وسام، الذي تكفل بنقل فلة كبده بين مرافق العلاج في دير البلح وسط غزة طوال أيام العدوان.
وقال وسام عبد ربه أن طفله الصغير “ينام صارخاً ويستيقظ باكياً، فهو يجلس للتبول لمدة ربع ساعة أو أكثر، وبينما يتبول، يستمر في الصراخ والبكاء في ألم يثقل كاهل الطفل الغض أكثر من القدر الذي يستطيع احتماله الرجال”.
كان وسام وزوجته أماني، وكلاهما محاميان، يديران مكتبين قانونيين في غزة قبل الحرب، وكانا يقيمان فيما وصفه بأنه منزل متواضع لكنه بالنسبة لهما بقيمة القصر في شمال القطاع، غير أن كل ممتلكات وسام تحولت إلى أنقاض، ولم يبق له سوى حسن، الذي يخاطب ذوي الشأن بشأنه قائلاً: “أتوسل إليكم لإنقاذ ابني”.
وتطالب عائلة عبد ربه بنقل حسن طبياً حتى يتمكن من تلقي العلاج في الخارج، ضمن المشروع الذي يحاول العديد من مسؤولي الحالات في منظمة “أنقذوا أطفال غزة” غير الربحية تنفيذه منذ يوليو/تموز على الأقل، وخاصة مع انهيار نظام الرعاية الصحية في غزة تحت وطأة عدوان الاحتلال.
وتعمل المنظمة، التي تتألف من متطوعين من جميع أنحاء العالم، على تسهيل عمليات الإجلاء الطبي للأطفال المرضى والجرحى من غزة عبر شبكة واسعة من الاتصالات الحكومية الدولية وبالتشاور مع المختصين الصحيين وبعد الحصول على موافقة منسق أنشطة حكومة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية (كوجات(.
من قوي إلى متهالك
وقبل تدميره بالكامل، كان قطاع غزة يضم 38 مستشفى وعيادة تحت إشراف وزارة الصحة الفلسطينية لتخدم سكانه البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة.
وعلى الرغم من حصار الاحتلال العسكري الذي فرض على القطاع لمدة 17 عاما، فضلا عن العقوبات الغربية التي شلت الحياة فيه، إلا أن النظام الطبي في غزة كان “قويا وعملياً” كما وصفته منظمة أطباء بلا حدود.
وبالنسبة لأولئك الذين يعانون من أمراض نادرة أو مضاعفات شديدة مثل حسن، فعادة ما كان يتم الشروع في عملية صعبة ومطولة لطلب نقلهم إلى منشأة طبية إسرائيلية للحصول على أحدث أشكال الاختبار أو العلاج.
ووفقاً لمنظمة جيشا، فقد كان نحو 3000 فلسطيني يعبرون شهريا خلال العام 2023 من غزة إلى دولة الاحتلال لأسباب طبية قبل هجمات 7 أكتوبر، وهو العدد الأكبر الذي تفتح دولة الاحتلال أمامه المجال للتنقل منذ أوائل عام 2020 قبل أن يفرض كوفيد-19 عمليات الإغلاق.
وأوضحت المنظمة الإسرائيلية غير الربحية التي تتعقب حرية التنقل للفلسطينيين أن هذا العدد الشهري يشمل المرضى بالإضافة إلى مرافق واحد يُسمح له بالسفر معهم.
أما الآن، فقد ظل معبر إيريز بين غزة ودولة الاحتلال مغلقاً أمام الفلسطينيين لمدة 16 شهراً تقريباً، باستثناء حالات نادرة حيث نظمت منظمة الصحة العالمية والحكومات الأجنبية رحلات جوية لإجلاء بعض من جرحى الحرب بمن فيهم الأطفال الذين يعانون من بعض الإصابات الأكثر تعقيداً جراء غارات الاحتلال.
وقال متحدث باسم مكتب تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق أنه “خلال الأشهر الأخيرة، تم تنسيق 25 عملية إجلاء طبي من غزة عبر إسرائيل إلى دول مختلفة حول العالم”.
وأضاف المتحدث: “هذه الجهود مكنت 1122 من سكان غزة من السفر إلى الخارج لتلقي العلاج الطبي في دول تشمل الأردن والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة ورومانيا وغيرها”.
ومكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق هو وحدة داخل جيش الاحتلال تشرف على لوجستيات الحركة بين غزة وإسرائيل، أي أنها الهيئة التي تمنح أو ترفض التحويلات للفلسطينيين.
أما معايير التدقيق في هويات المغادرين والممنوعين من المغادرة فهي غير واضحة في أحسن الأحوال، وفي أسوأها ترتبط بأسباب غير منطقية، كما قال العديد من وسطاء الإجلاء الطبي.
ففي عام 2019، حصلت والدة حسن، وتدعى أماني حمودة، من جباليا، على تصريح خروج من غزة إلى دولة الاحتلال لفحص ابنها الذي كان يبلغ من العمر أربعة أشهر آنذاك وللتحقق من حالته الخلقية النادرة والموهنة في مستشفى المقاصد الخيرية الإسلامية في القدس.
عند ذلك الوقت، تم تبرئة حمودة وتمكنت بناء على ذلك من السفر، أما اليوم فتقول منسقة أعمال الحكومة في المناطق لموقع ميدل إيست آي أن حمودة ممنوعة من دخول إسرائيل بسبب “ارتباطها الأخير بعناصر إرهابية” دون تحديد ما يعنيه ذلك.
وقال وسام والد الطفل حسن عن مزاعم منسقة أعمال الحكومة في المناطق: “هذا ظلم وادعاء، إذا كانوا صادقين، فعليهم أن يخبرونا من هم هؤلاء العناصر”.
وأضاف: “هذا عمل من أعمال المضايقة والانتقام ضدنا دون أي سبب، وأنا مستعد لتحديه ومواجهة أي طرف، الاحتلال يعاملنا جميعًا كإرهابيين”.
هذا ولم يُسمح لوالد حسن ولا جدته بدخول إسرائيل أيضًا، مما ترك الطفل ينتظر مستقبلاً غامضاً حيث يمضي أيامه متألماً في محاربة مرضه.
معايير غير معروفة
وكسياسة عامة، ولأسباب تتعلق بالسلامة، لا تسهل منظمة إنقاذ أطفال غزة السفر للقاصرين غير المصحوبين بمرافقين بالغين، وخاصة أولئك الذين لا تتجاوز أعمارهم ست سنوات.
وبالنسبة إلى حسن، فإن والده وسام يؤكد أن مصر لم تكن خياراً قابلاً للتطبيق للعائلة، ذلك أن والديه يحملان طفرة جينية نادرة للغاية، وقد أكد الأطباء أنه لا علاج لها في الشرق الأوسط برمته”.
وتابع وسام: “هذه الطفرة الجينية هي التي تسببت في معاناة حسن من كل ما حدث له، ويتطلب علاج هذه الطفرة مراكز طبية وراثية متقدمة حتى يتمكنوا من معرفة السبب الذي جعل حسن يعاني بهذه الطريقة على طريق علاجه”.
ويبدو الملف الطبي أكثر تعقيدًا بكثير من مجرد العثور على رفيق سفر لحسن إذا تمكن من الوصول إلى رحلة إجلاء طبي تابعة لمنظمة الصحة العالمية من مصر.
وقالت أنري، مديرة الحالات في منظمة “أنقذوا أطفال غزة” ومقرها جنوب أفريقيا أن أنري “يا إلهي، بمجرد إجلاء شخص ما من غزة، لا يمكنه العودة، وعندما تبدأ في التفكير في تداعيات ذلك على طفل مثل حسن، فهذا يعني أن الشخص الذي سيرافقه يجب أن يكون على استعداد للعناية الطويلة به”.
ويوم الخميس، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إنه يجب “إجلاء 2500 طفل طبيًا” من غزة على الفور، مع ضمان قدرتهم على العودة.
ثم أعلن الاتحاد الأوروبي يوم الجمعة أنه استأنف مهمته المدنية لمراقبة معبر رفح في الوقت الحالي، لا يُسمح فيه إلا بحركة المرور في اتجاه واحد.
وبموجب اتفاق وقف إطلاق النار، فإن من المقرر الآن أن تعبر أول قافلة إجلاء طبي إلى مصر عبر رفح يوم السبت، وفقًا لإعلان من وزارة الصحة الفلسطينية.
وكما هي الحال عادةً مع عمليات الإجلاء هذه من غزة، يمكن إخبار العائلات التي وقع عليها الاختيار بالمغادرة قبل ساعات فقط من ذلك، لذلك يعمل المدافعون مثل المتطوعين في منظمة “أنقذوا أطفال غزة” بجد، ويبذلون قصارى جهدهم لدفع المرضى الأكثر حرجاً.
ونما إلى علم موقع ميدل إيست آي أن 50 مريضاً مدنياً، إلى جانب مرافقيهم المسجلين، سيعبرون يوم السبت معبر رفح، وأن معظمهم من المصابين بإصابات حرب.
ومن المفترض أن تساعد السلطة الفلسطينية بعثة الاتحاد الأوروبي في رفح، لكن صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية قالت أن جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) سيتحقق من هوية الفلسطينيين المارين من المعبر قبل السماح لهم بالعبور.
ومنذ عام 2007، مارست دولة الاحتلال سيطرة فعالة على الأرض والبحر والجو في غزة، بما في ذلك معبر رفح المؤدي إلى مصر.
وجراء هذه السيطرة، فإنه لا يتم إجلاء طفل دون معاناة وصعوبة إلا في حالات نادرة للغاية خاصة خلال هذا الوقت الذي لايزال يعتبر جزءاً من الحرب.
وقد شملت هذه الحالات المحدودة حتى الآن أطفالاً أصبحت أمراضهم المزمنة تشكل تهديداً لحياتهم بسبب نقص الأدوية والتغذية وضعف الإشراف الطبي، حيث تشعر عائلة حسن بأن معاناة ابنها قد طواها النسيان.
من جهتها، ذكرت روز، التي تنسق إدارة حالة حسن في الإمارات العربية المتحدة مع منظمة أنقذوا أطفال غزة أنها بنت علاقة قوية جدًا مع حسن، وأضافت “بصراحة شعرت بالأسف الشديد لحالته لأنه لا يعرف حتى أنه ولد بمشكلة، ولو عاش هذا الصبي في أي مكان آخر في العالم، لكانت مشاكله الصحية قد تم حلها بسهولة”.
وأصر كل من تحدثنا إليهم على أن رفض مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الموافقة على سفر أحد أفراد الأسرة المقربين مع حسن يبدو وكأنه شكل من أشكال العقاب الجماعي للفلسطينيين في غزة، مع العلم أن الصبي لن يُرسل بمفرده.
ولا يقدم مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق أسبابًا محددة لرفض دخول إسرائيل، سواء كان ذلك لعبور الضفة الغربية المحتلة، أو التوجه إلى مطار بن غوريون، أو طلب خدمات داخل الدولة العبرية، لكنه أخبر موقع ميدل إيست آي أن الرفض يكون دائمًا على أساس مخاوف تتعلق بالأمن القومي.
وعلقت أنري على تلك المزاعم بالقول “لقد رأينا عدة مرات كيف يتحول الرفض المتكرر فجأة إلى موافقات، وكيف تتحول الموافقات أيضاً رفضًا، حيث يتم رفض شخص رغم أنه اجتاز نقطة أمنية”.
ولهذا السبب، فإن أنري لا تزال تأمل في أن تساعد الضغوط الدولية حسن في الحصول على العلاج.
الرحلة الأخيرة
ويتطلب تسهيل الإخلاء الطبي لعائلة تخطيطًا لوجستيًا وميزانية نفقات متواصلة بالإضافة إلى تأمين الأوراق الحكومية الدقيقة، وتشمل الإجراءات كذلك تحديد من سيستقبل المرضى ويعالجهم بالضبط.
وفي كثير من الأحيان، يجد منسقو الحالات أنفسهم يتصلون بمئات المستشفيات للضغط من أجل طفل، وغالبًا ما تكون رسالة الدعوة التي يتلقونها للمريض وثيقة لطمأنة سلطات الاحتلال أو مصر، وكذلك منظمة الصحة العالمية، بأن الوجهة النهائية للطفل الذي يتم إجلاؤه مؤمنة وأن شخصًا ما، في مكان ما، وافق على تحمل المسؤولية عن المريض.
وتمكن موقع ميدل إيست آي من مراجعة خطاب القبول الخاص بحسن من مستشفى روبرت ديبري الجامعي في العاصمة الفرنسية باريس، كما تواصلت بشكل مباشر مع أخصائي طب الأطفال المعني بعلاج حالته.
وقد أكد الطبيب للموقع قبول علاج الطفل الذي “تحتاج حالته إلى إدارة متخصصة في مؤسسة متخصصة للغاية”.
لكن خطاب القبول الطبي أصر على أن “رعاية حسن ستحتاج إلى وجود والديه معه طوال فترة إدارة العلاج”، تمامًا كما أوضح وسام، والد حسن.
وقال ميسر إجلاء حسن المقيم في باريس من منظمة “أنقذوا أطفال غزة” أن شرط اصطحاب الوالدين أصبح وسيلة يمكن من خلالها تحفيز الحكومة الفرنسية للعمل على إجلاء حسن الذي تم اعتماد حاجته للسفر للعلاج من وزارة الصحة الفلسطينية وتمت الموافقة عليه من قبل مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق.
وسابقاً كان يتم ترتيب عمليات الإجلاء الطبي من قبل الإمارات العربية المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي مثل إيطاليا والنرويج ورومانيا.
ولم تقدم الكثير من دول العالم الأخرى برامج علاج للأطفال الفلسطينيين، فلم تقبل المملكة المتحدة على سبيل المثال أي مريض من غزة على الإطلاق، حيث أكدت منظمة الصحة العالمية الشهر الماضي أن لندن رفضت دخول صبي يبلغ من العمر أربع سنوات فقد ساقيه في غارة جوية للاحتلال.
أما المتوجهين للعلاج في الولايات المتحدة فإنهم يسافرون على متن طائرات تجارية ويعتمدون على جمع التبرعات من القطاع الخاص من قبل منظمات مثل Heal Palestine. ولم تستأجر وزارة الخارجية الأميركية قط طائرات إجلاء طبي خاصة بها.
“قد فشلت كأب، لقد فشلت في توفير أبسط حقوقه التي منحها الله له قبل أي قوانين وأعراف دولية، أنا أعني الحق في الحياة والحق في الصحة، ربما يسمع هذا العالم صوته الآن ويمنحه أبسط حقوقه” – وسام عبد ربه، والد طفل مريض في غزة
وقد أعرب العديد من الميسرين عن الصعوبة الإضافية المتمثلة في تأمين مستشفى أمريكي لطفل فلسطيني جريح، فالغالبية العظمى من هذه المستشفيات غير راغبة في تحمل ما تشعر أنه مسؤولية سياسية، نظرًا لأن معظم المستشفيات هي مؤسسات ربحية.
وقال ميسر الإجلاء المقيم في باريس: “أنا أتحدث هنا باسم فرنسا فقط، نعم، إنها مهمة حكومية، فبمجرد أن يقرروا إحضار طفل واحد، يقررون إحضاره للإقامة طويلة الأمد في فرنسا مع عائلته، وسيدفعون ثمن العلاج، وسيدفعون ثمن الإيجار، وسيدفعون ثمن كل شيء”.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإحضار 50 طفلاً من غزة للعلاج في فرنسا، لكن 17 طفلاً فقط أحضروا فعلاً حتى الآن.
ويعلم وسام، والد حسن، أنه لا يملك خياراً يذكر بشأن المكان الذي قد ينتهي به المطاف إليه، لكنه قال إن “غزة أصبحت بالنسبة لعائلته منطقة غير صالحة للاستخدام البشري وغير صالحة للحياة”.
ويقول وسام أن ابنه لا يزن أكثر من 20 كيلوغراماً رغم أنه يبلغ من العمر ست سنوات وأنه قد خضع لـ 25 عملية جراحية كبرى وصغرى، وما زال يعاني من الألم.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)