بعد جولة محاضرات في المملكة المتحدة، يشارك كاتب فلسطيني روايته عن نشأته المنعزلة في غزة، حيث باتت الجرأة على السفر صراعا يحدوه الأمل.
بقلم عصام عدوان
مغادرة قطاع غزة للمرة الثانية في حياتي جعلني أشعر مرة أخرى بأنني غريب عن العالم الخارجي، بالنسبة لمعظم الناس، فإن الحروب والموت هي الأشياء الوحيدة التي يعرفونها عن حياتي.
لم يترك لنا الحصار سوى بصيص أمل في النجاة من الحروب أو عيش حياة تكون فيها حرية السفر حقًا.
على الرغم من ذلك، فإن تجربتي في غزة – نشأت منعزلة عن بقية العالم – وعملي كاتبا جعلني اتجاهل معاناتي وأعطي الأولوية لسرد قصص الآخرين بدلا من قصة حياتي.
على مدار ثلاث سنوات، بصفتي مديرًا مشاركا لمشروع “لسنا أرقاما”، قمت بجمع قصص الأشخاص الذين تمثلهم الأرقام الموجودة في الأخبار.
يؤكد المشروع، الذي أطلقه المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان في عام 2015، أن الفلسطينيين هم أناس وليسوا مجرد أرقام.
كان من الصعب نقل الفكرة إلى الجماهير الغربية، لكنا جلبنا أصوات حقيقية من غزة للقيام بجولة في المملكة المتحدة مع شريكنا Amos Trust، وهي منظمة حقوقية في بريطانيا.
بدا الحلم مستحيلًا بسبب الحصار المفروض على غزة منذ 16 عامًا – وهو حصار استمر لأكثر من نصف حياة جيلي، مع بادرة أمل ضعيف للنجاة من الحروب أو التمتع بحياة تكون فيها حرية السفر حقًا.
بدأ تحدي الجولة حين تم اعتبار جميع الكتاب والموظفين المقترحين للمشروع “غير مؤهلين” ” للحصول على تأشيرة زيارة المملكة المتحدة، ولم يكن هذا مفاجئًا لنا لكنه زاد ترسيخ مشاعرنا بالعزلة والقمع.
انبعث الأمل في الجولة أوائل أكتوبر 2022 بخطة Amos Trust لجمع الأموال خلال عيد الميلاد لبرنامج فحص سرطان الثدي الحيوي في المستشفى الأهلي في مدينة غزة.
شارك صديقي أحمد النوق، أحد مؤسسي We Are Not Numbers والذي يدير المشروع حاليًا من لندن، خطة الجولة معي وحثني على المشاركة فيها، وكان يأمل أن تذكر الجولة البريطانيين بأن نساء غزة أكثر عرضة للوفاة بسرطان الثدي بثلاث مرات من نظيراتهن البريطانيات.
كانت والدة أحمد، بسمة، واحدة من الوفيات، ولم أعرف أنا ولا “أموس ترست” بذلك إلا حين كنا على خشبة المسرح خلال الجولة.
كانت باسمة قد انتظرت طويلا للحصول على إذن من إسرائيل بالسفر إلى القدس لتلقي العلاج الإشعاعي غير المتاح في غزة، وفي أيام احتضارها، أجبرتها إسرائيل على السير مسافة طويلة عبر معبر إيريز، دون أي مراعاة لحالتها الصحية السيئة.
قال الأطباء لأسرة أحمد: “بحلول الوقت الذي تمكنت فيه من الوصول إلى المستشفى، كان الوقت قد فات”.
عندما أثيرت فكرة القيام بجولة في المملكة المتحدة مرة أخرى، لم يكن لدي أي قوة للقتال، لكن رفض تأشيرة الفلسطينية لكونها عازبة والموافقة على تأشيرتي لكوني أبًا، حتى بالنسبة للرجل، هو نفاق لا يمكن تحمله.
وقبل أسابيع قليلة من الرحلة، أدرجتني إسرائيل على قائمة “المنع الأمني” وهو إجراء يواجهه جميع الفلسطينيين في محاولاتهم الأولى للسفر من غزة إلى أجزاء أخرى من فلسطين.
“لماذا يتقدم الفلسطيني للحصول على تصريح لزيارة فلسطين؟” ما زلت أتساءل.
ومع ذلك، تقدمت بطلب مع اثنتين من زميلاتي، بما في ذلك إيناس غنام، مديرة المشروع الحالية، لتمثيل We Are Not Numbers في جولة المملكة المتحدة.
وبعد ثلاثة أسابيع من الانتظار رفضت الحكومة البريطانية تأشيرات الزميلات كما هو معتاد، لكننا شعرنا بالصدمة عندما اكتشفنا أن سبب رفضهن هو كونهن “عازبات”، ولا يمكنهن تقديم “ضمانات” بالعودة إلى غزة، وبالتالي فإن الجولة، التي تهدف إلى مساعدة النساء في غزة في محاربة سرطان الثدي لن يكون فيها نساء.
شعرت بالدهشة عندما علمت بعد أسبوع أن تأشيرتي للسفر إلى المملكة المتحدة تمت الموافقة عليها، لكني شعرت بعدها بصفعة على الوجه عندما علمت أن موافقتي جاءت فقط لأنني كنت أبًا للطفلة الصغيرة، سارة، البالغة من العمر ستة أشهر.
بالنسبة للسلطات البريطانية، فإن طفلتي هو الضمان غير المرئي لعودتي إلى غزة المحاصرة.
التناقض بين تعهدات الحكومة البريطانية لدعم حقوق المرأة وواقع المرأة الفلسطينية التي يتم رفضها بسبب وضعها الاجتماعي هو تذكير آخر بمدى ظلم العالم للأشخاص الذين يحتاجون إلى العدالة والمساواة.
قالت إيناس في ندوة عبر الإنترنت خلال الجولة: “لقد شعرت بالإهانة الشديدة، وأشعر بالاكتئاب عندما أفكر في ذلك”.
تهدف الرحلة إلى لقاء مجتمعات مختلفة من خلفيات وديانات وأعراق واهتمامات متعددة في الكنائس والمساجد والجامعات في مدن بريطانية عدة منها مانشستر وليفربول وليستر ودورهام وبرمنغهام، وليدز، ولندن، وبريستول.
وحتى مع احتكاكنا بالمجتمعات الغربية وخبرتنا في العمل مع الكتاب والناشطين الدوليين، كانت الرحلة مليئة بالمناقشات المفتوحة.
كان أحد النقاشات يدور حول الاختلافات بين ما يمكن اعتباره حياة “طبيعية” للناس في المملكة المتحدة ولأولئك في فلسطين – مع تفاصيل صادمة عن غزة-.
فوجئ بعض الناس حقًا بمعرفة المزيد عن أن لدينا حياة مشابهة لحياتهم، بما في ذلك بعض الاهتمامات البشرية النموذجية مثل الموسيقى وركوب الدراجات.
وأعرب آخرون عن غضبهم من حقيقة أن فلسطينيًا من غزة من المرجح أن يرى فلسطينيًا من الضفة الغربية في أماكن أخرى من العالم وليس في بلده، أو أنه من المستحيل على فلسطيني من غزة الذهاب إلى الضفة الغربية أو العكس دون الحصول على تصريح من إسرائيل.
وفي محاولة لتقريب الصورة إلى أذهان البريطانيين قلت لهم: “تخيلوا أن يضطر أحدهم إلى تقديم طلب للحصول على تصريح لزيارة مدينة أخرى في المملكة المتحدة”.
خلال أعمالنا في سرد القصص، كنا نأمل أن يبدأ الكثير من الناس في رؤيتنا وفهمنا أكثر قليلاً كأشخاص، وليس فقط كأعداد الضحايا أو المنازل التي قصفتها إسرائيل.
لقد شعرت بالإحباط لرؤية أن سنوات عديدة من حياتنا بدت وكأنها ضاعت في معركة تم خوضها حتى يُسمع صوتنا كأشخاص، في مواجهة التعتيم الإعلامي والرقابة والتشويهات الأخرى.
لذلك أقول دائمًا “لفهم معاناة الشعب الفلسطيني، يجب أن تراهم كأشخاص أولاً”.