مع كل جولة فاشلة من المفاوضات، يتضح أكثر فأكثر أمام الجمهور العالمي أين تقبع العقبة التي تعيق التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة: إنها تقبع في دماغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
بل بات ذلك واضحاً حتى لدى يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، ولدى ديفيد بارنيا، مدير الموساد الذي يترأس الوفد الإسرائيلي إلى المفاوضات.
وذلك أن صفقة لوقف إطلاق وفقاً لما ورد في تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن وما ورد فيما صدر بعد ذلك من قرار عن مجلس الأمن الدولي، قريباً مما أقرت بالموافقة عليه حركة حماس، سوف تفضي إلى أمرين اثنين: إسقاط حكومة نتنياهو، وحرمانه من القدرة على شن حرب متقطعة دائمة.
حتى فما لو سمح له اتفاق وقف إطلاق النار، على الورق، باستئناف الحرب في نهاية المرحلة الأولى من إطلاق سراح الرهائن والمساجين، فيما لو قررت إسرائيل تخريب المفاوضات، في حقيقة الأمر، فإن مثل هذه الفرصة تتضاءل بعد مرور ستة أسابيع على استتباب الأمن والسلام.
لقد ثبت الآن أن السبيل الوحيد أمام نتنياهو للاستمرار في السلطة، ولكي يظل حراً، هو إبقاء إسرائيل في حالة حرب مستمرة، في صراع دائم ومنخفض الوتيرة، وعلى جميع حدود الدولة.
فحالة الحرب هي قبته الحديدية، والورقة التي تبقيه خارج السجن، باعتبار أنه لسوف يواجه اتهامات بالفشل يوم السابع من أكتوبر ناهيك عن أحد عشر شهراً من العمليات في غزة أخفقت إخفاقاً ذريعاً في تركيع حركة حماس.
إن الحرب هي التي تحميه من أن يفقد التاج لصالح منافسه الأصغر سناً، وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، ومن احتمال أن يصدر بحقه حكم بالسجن على تهمة متعددة ذات علاقة بالفساد.
بوجود الرئيس الحالي، كما بوجود أي رئيس أمريكي قادم ليس لديه القدرة والاستعداد لأن يستخدم وسائل ضغط حقيقية لكبح جماح إسرائيل، مثل وقف تصدير الأسلحة إليها – ومؤخراً أقرت الولايات المتحدة تزويد إسرائيل بما قيمته 20 مليار دولار من الأسلحة – فإن نتنياهو سيبقى على حاله.
والوجهة الوحيدة هي خط الجبهة القادم، فها هي عملية غزة يتم تقليصها الآن بينما تتم إعادة انتشار الوحدات العسكرية نحو الحرب القادمة مع حزب الله في لبنان. كل الطرق الأخرى تقود إلى الهلاك في سبيل نتنياهو.
إلا أن السماح لهذا الرجل بالاستمرار في الصراع على خمس جبهات لا مفر من أن تكون تكلفته باهظة.
إن أوضح وأسرع طريقة لحساب تكاليف السماح لنتنياهو بالاستمرار في السلطة يمكن رؤيتها في الأردن، تلك المنطقة المحايدة التي امتصت اللاجئين على مدى عقود من الحرب في المنطقة.
قد تسول للإنسان نفسه القول بأن المملكة تجني ريعاً جيداً من الأزمة، وهي التي لم تزل أياديها ممتدة لتلقي المساعدات الأجنبية.
ومن يرى ذلك يفترض بابتهاج أن المملكة الهاشمية سوف تستمر فيما تنشط فيه بغض النظر عن الهرج والمرج الذي يولده جيرانها. لقد باتت تلك اليوم فرضية خطيرة.
ينبغي على العالم الغربي أن يسأل بدلاً من ذلك: كيف سيكون شكل المنطقة فيما لو تحول الأردن تارة أخرى إلى ساحة معركة كما حصل أثناء الحرب الأهلية التي دارت رحاها عام 1970 مع منظمة التحرير الفلسطينية؟
تهديد وجودي
إن أكبر خطر يتهدد الأردن يوجد داخل الرؤوس الإسرائيلية.
إنها الفكرة التي ترى بأن “الأردن هو فلسطين”. تعددت الصور التي تم التعبير بها عن ذلك، بما في ذلك خطة آلون، والتي اكتسبت اسمها من السياسي الإسرائيلي إيغال آلون، التي تدعو إلى قيام إسرائيل بضم مساحات واسعة من الضفة الغربية، بينما يتم ضم ما يتبقى منها إلى الأردن. تجد هذه الخطة قبولاً لدى من يعتبرون أنفسهم معتدلين داخل الطيف السياسي الإسرائيلي.
أما حزب الليكود فقد طالب بأن تستولي إسرائيل على كل الضفة الغربية، وإعلان أن الأردن، بكل بساطة، هو الدولة الفلسطينية.
ومؤخراً أثار الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب فكرة الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية.
وأما النسخة الأكثر توحشاً من هذه الخطة فتتمثل بالتهديدات المباشرة التي يوجهها المستوطنون إلى القرى والبلدات الفلسطينية داخل الضفة الغربية المحتلة بأن على سكانها المغادرة أو التعرض للحرق.
لم يحصل قط أن اختفى “الخيار الأردني” من الخطاب الإسرائيلي. في عام 2010، وكانت تلك نسبياً سنة أمن وسلام بالنسبة لإسرائيل، تقدم ما يقرب من نصف أعضاء الكنيست المائة والعشرين بمقترح لمناقشة ما أطلقوا عليه “دولتين لشعبين على جانبي نهر الأردن” – بما يعني الطرد الجماعي للفلسطينيين نحو الأردن.
وهكذا كان واضحاً في ألفاظه ذلك القرار الذي أجازه الكنيست قبيل مغادرة نتنياهو في زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة، والذي حظر قيام دولة فلسطينية في المستقبل.
جاء في نص القرار ما يلي: “يعارض الكنيست الإسرائيلي إقامة دولة فلسطينية على أي قطعة أرض غربي نهر الأردن. سوف يشكل وجود دولة فلسطينية في قلب إسرائيل تهديداً وجودياً لدولة إسرائيل ولمواطنيها، ولسوف يفضي إلى توسيع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني العربي، ولسوف يكون مصدر تقويض للاستقرار في المنطقة بأسرها.”
أجيز القرار بأغلبية 68 صوتاً مقابل تسعة، وهي أغلبية تتشكل من جميع أعضاء الائتلاف الحاكم ومعظم أعضاء المعارضة.
ما من أردني إلا ويعي ما الذي تعنيه عبارة “على أي قطعة أرض غربي نهر الأردن.” إنها تعني أن المكان الوحيد الذي يمكن أن تسمح إسرائيل بقيام دولة فلسطينية فيه هو الأردن.
لم يكن مستغرباً إزاء ذلك أن يعلن عاهل الأردن، الملك عبد الله، هذا الأسبوع أن المنطقة “لن تقبل بأن يصبح مستقبل المنطقة رهينة لسياسات حكومة إسرائيلية متطرفة.”
ولكن مشاكله في الحفاظ على ولاء شعبه وعلى سلامة سيادة مملكته بدأت للتو.
مأزق الملك عبد الله
لقد شكلت حملة الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على أهل غزة مأزقاً كبيراً بالنسبة للملك عبد الله. لم يتجاوز رد فعله حتى الآن التأرجح بدون اتزان بين سياسات متناقضة. الغريب في الأمر أن مثل هذا المشي الخطير على حبل مشدود يعتبرونه في الأردن حفاظاً على الاستقرار.
الرد الأول والواضح هو اعتبار أن الذي يجري في الضفة الغربية المحتلة تحت قيادة بن غفير يشكل تهديداً وجودياً على المملكة.
تسليح المستوطنين، والهجمات المتكررة كل حين على القرى والبلدات الفلسطينية، والمداهمات داخل مجمع المسجد الأقصى، ومؤخراً تصريح بن غفير بأن الصلاة اليهودية مسموح بها داخل المسجد، كل ذلك لا يخدم سوى غاية واحدة، ألا وهي دفع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين إلى إخلاء بيوتهم والتوجه شرقاً.
يتعمد بن غفير النيل من ولاية المملكة الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس.
وذلك كان هو الواجب الوحيد المعترف به دولياً الذي أصر على الاحتفاظ به والد عبد الله، الملك حسين، حينما فك كل أشكال الارتباط القانوني مع الضفة الغربية في شهر يوليو (تموز) من عام 1988.
خلق ذلك تياراً قوياً من الرأي داخل الديوان الملكي، والذي عبر عنه وزير الخارجية، وهو المنصب الذي تصدر عنه تقليدياً الآراء التي يرغب الملك في التعبير عنها. لم يتردد أيمن الصفدي طوال الوقت ولم يتزحزح، بل ظل باستمرار يدق جرس الإنذار.
قال الصفدي إن دفع إسرائيل الفلسطينيين نحو الخروج من غزة يمكن أن يجر المنطقة نحو هاوية صراع إقليمي. بل ما كان منه إلا أن وصف إسرائيلي بالدولة المارقة بعد مقتل الزعيم السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران.
ثم بعد أن جدد نظيره الإسرائيلي، وزير الخارجية إسرائيل كاتز، دعوته إلى بناء جدار على امتداد الحدود مع الأردن لمنع “التهريب” عبر الحدود، قال الصفدي: “لا المزاعم المفبركة ولا الأكاذيب التي ينشرها المسؤولون الإسرائيليون المتطرفون، بما في ذلك تلك التي يستهدفون بها الأردن، بإمكانها أن تخفي حقيقة أن عدوان إسرائيل على غزة، وانتهاكاتها للقانون الدولي، وانتهاكها لحقوق الشعب الفلسطيني، هي التهديد الأكبر للأمن والاستقرار في المنطقة.”
تعتبر الملكة رانيا، وهي نفسها فلسطينية الأصل، أحد الأصوات البارزة في هذا التيار، فقد نددت في مقابلة مع السي إن إن بالتجويع الجماعي لأهل غزة واصفة إياه “بالعار”.
توجه اللوم لإيران
يتمثل التيار المقابل في الأردن برؤية أن كل ما يحدث إنما هو من عمل إيران. هذا هو رأي جهاز المخابرات المتنفذ في الأردن، وهو جهاز بل من التمدد ما حوله إلى حكومة موازية. وهو جهاز تعلم على أيدي جهاز المخابرات البريطاني إم آي 6، وله ارتباطات وثيقة بأجهزة المخابرات الإسرائيلية والغربية، وكذلك بجهاز المخابرات الإماراتي العضو الجديد في هذا النادي.
معروف أن المخابرات الأردنية مسكونة بالخوف من استيلاء الإخوان المسلمين على الحكم، وترى أن الشعبية المتنامية للجناح العسكري لحركة حماس في الشارع الأردني منذ السابع من أكتوبر بات يشكل تهديداً وطنياً.
وبالتالي فإنها تبذل كل ما في وسعها من أجل قمع الاحتجاجات الشعبية. ومؤخراً وسعت السلطات الأردنية نطاق تعريف الجرائم الإلكترونية ليتضمن “نشر الأخبار الكاذبة”، “التحريض على الفتنة”، تهديد السلام المجتمعي”، “ازدراء الأديان”، وهو سلاح يُشهر في وجه المتظاهرين المناصرين للفلسطينيين. وفعلاً، تم إلقاء القبض على العشرات بموجب هذا القانون، حسبما ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش.
ومثل هذه الصلاحيات ليس من شأنها سوى أن تحرض. فقد ثارت موجة من السخط عندما أقدمت القوات الأمنية الأردنية على الاعتداء على سراء الطاهر ووالدتها واعتقلتهما لمجرد رفعهما راية تشكك في الولاية الهاشمية على المسجد الأقصى بعد المداهمات التي تعرض لها المسجد بزعامة بن غفير.
تحتل إسرائيل موقعاً من التفوق الطبيعي على حلفائها في العالم العربي، وتقوم بدون ضرورة بإحراج من يساندونها سراً من خلال ما تنشره وسائل الإعلام الإسرائيلية من تقارير تكشف عن المستوى الحقيقي من التعاون الاقتصادي والعسكري الذي يجري على أرض الواقع.
يوجد حالياً نقص في الطماطم داخل إسرائيل، وذلك لأن تركيا توقفت عن تزويدها بها كجزء من المقاطعة التجارية بسبب الحرب على غزة. كما توقفت إسرائيل عن استيراد الطماطم من الأردن بسبب مخاوف من أن تكون الثمار مصابة بجرثومة الكوليرا.
جاء الإعلان الإسرائيلي المطالب بوقف استيراد الطماطم من الأردن ليشكل تذكيراً ناجعاً للأردنيين بأن التجارة مع إسرائيل مازالت مستمرة. تصادف ذلك مع إعلان وزير الزراعة خالد حنيفات عن أن التصدير سوف يقلص بالتدريج لضمان توفير المنتج للأسواق المحلية.
كما تستمر إسرائيل في ربط الأردن بها حينما تصر على أن سلاح الجو التابع لها لسوف يستخدم المجال الجوي الأردني فيما لو تعرضت لهجوم من إيران بالصواريخ والمسيرات.
ما أن نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن مسؤول قوله إن الأردن سوف يسمح للطائرات الحربية الإسرائيلية باستخدام مجاله الجوي لإحباط الهجوم المتوقع من قبل إيران رداً على اغتيال هنية في طهران حتى أصدرت السلطات الأردنية بيانات نفي ساخنة، ولكنها فارغة.
نقل تلفزيون المملكة الأردني المملوك للدولة عن مصدر مطلع قوله إن المملكة لن تسمح باستخدام مجالها الجوي “تحت أي ظرف ولأي طرف، ولن تسمح برد عسكري لأي طرف محارب حالياً.”
أي التصريحين سوف يصدقه الأردنيون؟ التصريح الإسرائيلي بالطبع، لأن الجميع يعلمون أن الأردن لا يملك القدرة على منع إسرائيل أو الولايات المتحدة من استخدام مجاله الجوي.
مثل هذه الحوادث تضعف الملك، وتصعب الحياة على أولئك الذين يرغبون داخل الأردن في الاستمرار في التعاون مع إسرائيل من تحت الطاولة.
كلما سنحت لها الفرصة فإن إسرائيل تفرك الملح في هذا الجرح رغم أنه من مصلحة تل أبيب إبقاءه هادئاً.
حدود مسامية
كل ذلك له عواقب مباشرة، ومنها أن حدود إسرائيل الأطول والأكثر أماناً تصبح أكثر مسامية كل أسبوع.
طبقاً لتقرير نشرته صحيفة معاريف، تمكن أكثر من أربعة آلاف شخص من التسلل عبر الحدود مع إسرائيل خلال الأسابيع الأخيرة – ولم تتمكن السلطات الإسرائيلية من القبض سوى على جزء بسيط منهم.
تتباين الدوافع. فقد تكون غايتهم البحث عن عمل أو تهريب المخدرات. ولكن بعضهم يهربون الأسلحة إلى داخل الضفة الغربية المحتلة.
ولذا دعا مؤخراً إسحق واسرلوف، الوزير الإسرائيلي المسؤول عن النقب والجليل، إلى عقد جلسة تشاورية للحكومة لمناقشة ما أسماه “التسلل الجماعي من الأردن.”
وأضاف حسبما ذكرت صحيفة معاريف: “لا يتعلق الأمر فقط بالمشكلة السكانية. بل بات يشكل تهديداً حقيقياً لسلامة دولة إسرائيل. فالحدود المفتوحة تستخدم كقناة لتهريب الأسلحة والمخدرات والمواد الخطيرة، وتسمح لأعدائنا بالتسلل إلى أراضينا.”
وعليه يتمثل رد إسرائيل في إنشاء جدار آخر وفي عسكرة الحدود.
ولقد ذكرت الإذاعة الإسرائيلية مؤخراً بأن رئيس أركان الجيش حيرزي حاليفي يفكر بتشكيل فيلق جديد لنشره على امتداد مئات الكيلومترات على طول الحدود مع الأردن.
عندما تعهد حزب الله وإيران بالانتقام لاغتيال هنية والقائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر، طار الصفدي إلى طهران لتجنب العودة إلى ما حدث في سماء الأردن في شهر إبريل (نيسان)، عندما قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية والأمريكية بإسقاط المسيرات قبل أن تتمكن من الوصول إلى إسرائيل.
كانت تلك أول زيارة رسمية يقوم بها وزير خارجية أردني إلى إيران منذ عقدين. ولكن زيارته أثبتت في واقع الأمر مدى صعوبة الحفاظ على التوازن الحالي.
ولا حتى أبرز مقدمي البرامج التابعين للمخابرات بات الناس يستمعون إليهم إذ يستخدمون لغة طائفية ضد الشعب الفلسطيني من خلال التذكير بما حدث في عام 1970. فسكان الضفة الشرقية الذين كانوا من قبل يتأثرون بتلك اللغة غدوا الآن أشد تطلعاً إلى حماس لكي تقودهم.
لا تملك إسرائيل القدرة على وقف ذلك. ولا تملك سوى القدرة على جلب الحرب والصراع إلى منطقة أكبر من قطاع غزة والضفة الغربية مجتمعتين.
مع السماح لنتنياهو بالاستمرار في مهمته الحالية، والمتمثلة بحسم المسألة الفلسطينية بالقوة، فإن مهمة الحفاظ على التوازن داخل الأردن تغدو مستحيلة.
وسوف تكون التداعيات ملموسة في أقاصي الأرض.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)