بقلم محمد كيال
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في تاريخ 26 من أبريل عام 2023، شارك الآلاف من فلسطيني مناطق 48 في مسيرة “العودة” السنوية، التي كانت في قرية اللجون المهجرة هذه المرة، فعلى مدار 26 عاماً، حرصت جمعية الدفاع عن حقوق النازحين داخل فلسطين على إحياء ذكرى النكبة في كل عام، في ذات اليوم الذي تحتفل فيه إسرائيل بما تسميه استقلالها تحت شعار “يوم استقلالهم يوم نكبتنا” و”لن نتخلى عن حق العودة”.
ولا تقتصر الزيارة على قرية واحدة، بل يزور العديد من الفلسطينيين قراهم وبلداتهم التي هجروا منها، بما في ذلك البروة والدامون وحطين والغابسية وصفورية، كنت أنا بين الزائرين إلى قريتي البروة، قرية الشاعر محمود درويش أيضاً، كما كنت أفعل كل عام مع والداي منذ عقود.
أحلام مسروقة
قرية البروة هي قريتي الأم التي طرد منها أمي وأبي مع جدي وجدتي واثنين من إخوتي، بالإضافة إلى 1700 فلسطيني آخر، وهي تقع على بعد 10 كم شرقي مدينة عكا على تل يرتفع 50 متراً عن سطح البحر.
قبل النكبة، كانت مساحة قريتنا تناهز 14 ألف دونم تقريباً، فقد كانت الزراعة الدعامة الأساسية التي يعتمد عليها سكان القرية في معيشتهم، من زراعة القمح والشعير والذرة والسمسم والبطيخ والشمام وأشجار الفاكهة والزيتون.
أما سكان البروة فكان عددهم حوالي 1460 نسمة معظمهم من المسلمين وبعض المسيحيين، الذين عاشوا بجو من المحبة، لكن ذلك لم يدم مع حلول النكبة وتقلص عدد سكانها إلى 1700 نسمة تقريباً بعد احتلالها.
في حزيران من العام 1948، وبعد أيام من احتلال القرية، تجمع قرابة 200 رجل وامرأة من أهل القرية والقرى المجاورة بأسلحة قليلة، وتمكنوا من دحر القوات الصهيونية وتحرير القرية، قبل أن يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي بعد أسبوع، رغم وقوعها في منطقة مخصصة للفلسطينيين وفقاً لقرار التقسيم 181 الصادر عن الأمم المتحدة.
بعد احتلال البروة، هدمت القوات الإسرائيلية منازل القرية والمسجد والكنيسة الأساسيين في القرية، بالإضافة إلى مصادرة أراضي المقيمين في المنفى باعتبارها “أملاك غائبين”، ولم يبق إلا المدرسة والمقبرة الإسلامية والمسيحية فقط.
انتظر أمي وأبي 60 عاماً للعودة التي لم تتحقق أبداً، فقد توفي والدي عام 2007
أما من نزح من البروة فيعيش اليوم في مناطق الجليل الغربي شمالي فلسطين التاريخية، وفي جنين ونابلس والبعض في مخيمات لبنان وسوريا.
في العام 1949، أنشأت السلطات الإسرائيلية بلدة زراعية على أراضي البروة، استغلها المستوطنون وأخذوا بطرد بقية من سكنها من الفلسطينيين.
أما عائلتي، فقد بقيت لأيام تحت أشجار الزيتون عندما داهمتهم القوات الإسرائيلية، ثم لجأوا إلى قرية ساجور الدرزية في الجليل ومكثوا بضعة أشهر في منزل عائلة من القرية، قبل الانتقال إلى قرية جديدة وعند عائلة جديدة في الجليل على بعد 2 كم من البروة فقط، وكان والدي يعمل في وظيفة باليومية في مصنع لمواد البناء ثم حارساً، فادخر المال واشترى أرضاً في القرية.
في البداية، بنى والدي كوخاً على أرضه الجديدة، وأنا ولدت في ذلك الكوخ الذي أصبح صغيراً مع الأيام على حجم عائلتنا الذي كبر، فأخذ والدي يعمل في المصنع ليلاً نهاراً لإعالة الأسرة، وكان حلمه العودة إلى قريتنا التي كانت على مرمى حجر من الكوخ، لكن الحلم لم يتحقق، فبدلاً من خروج القوات الإسرائيلية، احتلت المزيد من الأراضي في الضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء عام 1967!
منح قرار التقسيم الأمم عام 1947 اليهود 56% من أرض فلسطين التاريخية، على الرغم من أن اليهود لم يملكوا إلا 6% فقط من الأرض آنذاك
هكذا أصبح حلم العودة بعيد المنال، فقرر أبي بناء منزل حجري مكان الكوخ، لاستيعاب حجم عائلتنا، وانتظر أمي وأبي 60 عاماً للعودة التي لم تتحقق أبداً، فقد توفي والدي عام 2007 وكان في آخر أيامه يتساءل “هل أخذ اليهود كل أرضنا ولم يتركوا لنا شيئاً؟! أين العدل؟!”.
أرض مسروقة
بعد صدور وعد بلفور في الثاني من نوفمبر عام 1917، وبداية الانتداب البريطاني، كان اليهود في فلسطين يشكلون أقل من 10% من مجموع السكان، ويملكون 3% فقط من الأرض، ولكن وفقاً لوعد بلفور، فقد منحت الحكومة البريطانية الاقلية اليهودية حقوقاً سياسية كاملة، لم تمنح مثلها للفلسطينيين العرب.
من جانب آخر، كثفت الحركة الصهيونية من الهجرة والاستيطان من أجل إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وعززت حملات الاستحواذ على الأراضي وإفراغها من سكانها الأصليين، بالتعاون مع الحكومة البريطانية طوال سنوات الانتداب.
لقد أدى القمع البريطاني إلى تهجير 40 ألف فلسطيني خلال فترة الثورة الفلسطينية الكبرى بين 1936-1939، ناهيك عن التهجير الذي استمر قبل الثورة وبعدها، ثم منح قرار التقسيم الأمم عام 1947 اليهود 56% من أرض فلسطين التاريخية، على الرغم من أن اليهود لم يملكوا إلا 6% فقط من الأرض آنذاك، أما العرب، أصحاب الأرض الذين يمتلكون 90% منها، فقد قلل القرار من حصتهم إلى 46%!
وبالطبع، عارض الفلسطينيون قرار التقسيم، بينما أيدته الغالبية اليهودية وقيادتها الصهيونية مؤقتاً، فقد كانت تلك فرصة مرحلية أتاحت لهم التفكير والتخطيط لمشروع التهجير والتطهير العرقي لاحقاً.
كان ديفيد بن غوريون، الذي أصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي بعد ذلك، قد صرح أن “الدولة اليهودية يجب أن يكون فيها أغلبية من اليهود لا تقل عن 80% لتكون دولة مستقرة”، وفي رسالة سابقة كتبها لابنه عاموس قال “علينا أن نطرد العرب ونأخذ أماكنهم”، ومن هنا جاء التصديق على خطة التطهير العرقي!
تمحورت المرحلة الأولى من الخطة حول طرد الفلسطينيين من المدن العربية والمدن المختلطة، وبحلول نهاية مايو عام 1948، تمكنت القوات الصهيونية من تهجير 400 ألف فلسطيني، يعني ثلث سكان فلسطين، استمرت المجازر والعمليات الصهيونية حتى نيسان 1949، وفاق عدد المهجرين 700 ألف فلسطيني!
كانت إسرائيل قد احتلت 78% من فلسطين عند إعلان قيام الدولة، كانت قد احتلت 14 مدينة منها حيفا ويافا وعكا وطبريا وصفد وبيسان والقدس الغربية، ثم ألحقتها باللد والرملة والناصرة و المجدل وعسقلان وبئر السبع، ولم يبقى إلا 99 مدينة فقط خارج نطاق السيطرة الإسرائيلية.
لاجئون في إسرائيل
بعد انتهاء الحرب، بقي 150 ألف فلسطيني داخل إسرائيل، 25% من النازحين داخلياً، من قرى ومدن المناطق التي أصبحت إسرائيل، حيث منعتهم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من العودة إلى مناطقهم الأصلية، وليس من الصدفة بمحل أنه لا توجد إحصائيات رسمية حول عدد المهجرين داخل إسرائيل، نظراً للتهميش والظلم الذي طالما عانوا منه مثل غيرهم من الفلسطينيين في إسرائيل، ناهيك عن أن الكشف عنهم يحرج الدولة باعتبارهم من مواطنيها.
تشير التقديرات إلى أن عدد اللاجئين داخل إسرائيل حوالي 440 ألف إذا أخذنا بعين الاعتبار النازحين في مدن حيفا ويافا واللد والرملة وعكا، الذين عادوا إلى مدنهم ولكن حُرموا من استعادة أملاكهم فيها، بالإضافة إلى عرب النقب الذي نزحوا بعد 1948 وظلوا داخل إسرائيل.
يعيش غالبية المهجرين قريباً من مناطقهم الأصلية، بمسافة لا تتجاوز الكيلومتر الواحد احياناً وكأنهم ينتظرون العودة إليها، كما حصل مع والدي تماماً!
فرضت إسرائيل حكماً عسكرياً على 150 ألف فلسطيني في البلاد في الفترة بين 1948-1966، من أجل منع اللاجئين من العودة إلى قراهم، التي طُردوا منها، وإخلاء القرى الفلسطينية شبه المهجورة وترحيل سكانها من أجل توفير فرص للاستيطان اليهودي، وذلك عبر قانون الطوارئ الذي ورثته عن الانتداب البريطاني الذي استخدمها ضد العرب.
من جانب آخر، تعتبر إسرائيل ممتلكات الفلسطينيين وأراضيهم “أملاك غائبين” رغم أنهم من المفترض أن يكونوا مواطنين إسرائيليين، لذلك يُطلق على النازحين “الغائبون الحاضرون” بحسب قانون “أملاك الغائبين” الصادر عام 1950، حيث يحدد هذا القانون الفلسطينيين الذين طُردوا عام 1948 على أنهم “غائبون”!
ومن عجب هذا القانون، أن الفلسطينيين الذين عادوا من خلال إجراءات لم الشمل ما زالوا يعتبرون غائبين وفقاً للقانون، فعودته إلى البلاد لا تلغي أنه “غائب”!
قام الوصي على أملاك الغائبين عام 1953 بنقل الأملاك الفلسطينية المسروقة إلى سلطة التطوير، والتي بدورها نقلت مساحات واسعة من الأراضي إلى الصندوق القومي اليهودي.
ومنذ عام 1948، قامت إسرائيل بسن عشرات القوانين التي حولت الأراضي الفلسطينية إلى أملاك للدولة، بما في ذلك قوانين المصادرة والمصلحة العامة، التي تعني مصلحة اليهود فقط طبعاً والذي يتضمن المزيد من الأرض للتوسع الاستيطاني!
النكبة مستمرة!
غالبية النازحين في إسرائيل يعيشون في الجزء الشمالي من فلسطين، في حيفا وعكا وصفد وطبريا والناصرة، الغالبية مسلمين مع أقلية مسيحية، فيما يعيش قسم آخر منهم في مناطق المثلث العربي والنقب، ويعتقدون أن وضعهم أفضل من النازحين بعيداً لأن أملهم بالعودة إلى مناطقهم الأصلية يظل أكبر، فبعضهم قدم التماساً للمحكمة العليا الإسرائيلية في محاولة لكسب أرض الأجداد من خلال الاستفادة من القانون الإسرائيلي لكن دون جدوى.
لقد أدرك فلسطينيو إسرائيل أن جوهر المشكلة يكمن في طبيعة المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني، الذي أراد الأرض والمباني بدون سكانها، وهو السبب الذي من أجله ارتكب الصهاينة المجازر والتطهير العرقي.
في إحدى التجارب الباحثة عن فرصة عودة عام 1953، توجه مواطنون مهجرون من الغابسية وكفر برعم وإقرت إلى المحكمة يوماً، فجاء الرد الإسرائيلي بتفجير القرى وهدم المنازل فيها، ثم أصدر الحاكم العسكري أمراً بإغلاق المنطقة حتى اليوم!
بعد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، ثم اتفاقيات أوسلو عام 1993، شكل الفلسطينيون المهجرون داخل إسرائيل لجنة المبادرة للدفاع عن حقوق النازحين داخلياً عام 1995، بحضور ممثلين عن 30 قرية تم إخلاؤها، ومنذ عام 1998، تنظم اللجنة مسيرات إلى القرى المهجرة بشكل سنوي، خاصة بالتزامن مع يوم الاستقلال الإسرائيلي، في ذكرى النكبة.
أصبحت هذه المسيرات من أهم الأحداث لفلسطينيي مناطق 48، فقد تم تنظيم 26 مسيرة سنوية حتى اليوم، تطالب بتطبيق حق العودة والمواثيق الدولية وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، املاً في العودة يوماً!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)