بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
منذ أن أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اسم “حرب الـ12 يوماً” على الضربات العسكرية التي شنّها إلى جانب دولة الاحتلال ضد إيران في يونيو/حزيران الماضي، شاع استخدام هذا التعبير للإشارة إلى ما وصفه كثيرون بأنه “عمل إرهاب دولي” ارتكبته قوتان نوويتان بحق دولة ذات سيادة.
غير أن هذا الوصف مضلل، فحرب دولة الاحتلال ضد إيران لم تبدأ في يونيو/حزيران، بل سبقت ذلك بسنوات طويلة، وشملت اغتيالات بحق علماء نوويين ومسؤولين كبار، وتفجيرات وعمليات تجسس وتخريب لمنشآت صناعية، كما ارتكبت عمليات اغتيال بحق شخصيات سياسية ودبلوماسية منذ عقود.
وإلى جانب ذلك، لعبت منصات إعلامية غربية كصحيفة نيويورك تايمز وهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وكذلك جماعات ضغط مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك)، دوراً أساسياً في تهيئة البيئة السياسية لفرض عقوبات اقتصادية خانقة على إيران على مدى عقود.
هذه ليست حرباً استمرت 12 يوماً فقط، إنها حرب مفتوحة وممتدة، وجزء من مشروع استيطاني توسعي يرفع لواء ما يسميه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بـ”إسرائيل الكبرى”.
معركة الروايات والدعاية
وقد شكلت تفاصيل ميزان القوى العسكرية في تصعيد يونيو/حزيران الماضي مادة خصبة للبروباغندا المتبادلة بين طهران وتل أبيب، لكن الأهم هو أن كل جولة من هذه المواجهة المفتوحة تكشف عن جوهر المشروع الصهيوني الاستيطاني القائم على العدوان المستمر في فلسطين، وتمدده نحو دول الجوار.
ومن أبرز النتائج التي حققها عدوان يونيو/حزيران أنه قضى نهائياً على أي شرعية كانت قد تبقت للمعارضة الإيرانية في الخارج، على العكس مما كانت تأمله تل أبيب وواشنطن.
فقد تخيّلت دولة الاحتلال وحلفاؤها أن هذه الضربات ستؤدي إلى انتفاضة واسعة داخل إيران، تفضي إلى إضعاف النظام أو تفكيك البلاد على أسس عرقية، لكن النتيجة جاءت معاكسة تماماً، فالعدوان وحّد الإيرانيين بمختلف أطيافهم حول الدفاع عن الوطن.
سقوط المعارضة المنفية
والنتيجة الأبرز تمثلت في انهيار المعارضة الإيرانية في المنفى، خاصةً التيار الملكي الموالي لأسرة بهلوي، الذي اختار الاصطفاف العلني إلى جانب الولايات المتحدة ودولة الاحتلال ضد بلاده والذين ظهروا كجبناء فاسدين فقدوا إلى الأبد أي ذرة من الشرعية، وهم يتوارون اليوم في غياهب النسيان.
وإذا كان هدف تل أبيب وواشنطن من العدوان هو تحقيق “تغيير النظام”، فإن الفشل كان ذريعاً، إذ عزّزت الهجمات النزعة الوطنية المناهضة للاستعمار، وأظهرت جهل الأجهزة الاستخبارية الأمريكية والإسرائيلية بعمق الروح الوطنية الإيرانية.
ولطالما واجهت الجمهورية الإسلامية معارضة داخلية متفاوتة، من إصلاحيين يدعون إلى تحديث النظام، إلى تيارات أكثر راديكالية تطالب ببديل ديمقراطي كامل يتجاوز ولاية الفقيه المتمثلة في السلطة المطلقة للمرشد الأعلى علي خامنئي.
تاريخياً، تعود جذور هذه المعارضة إلى ثورة 1979 التي أسقطت حكم الشاه، حين توحدت قوى يسارية وليبرالية وإسلامية ضد النظام الملكي، غير أن الإسلاميين تمكنوا لاحقاً من حسم المنافسة لصالحهم وترسيخ سلطتهم، لتبقى المعارضة الداخلية قائمة ولكن غير قادرة على زعزعة النظام.
أما المعارضة في الخارج فقد تشكّلت سريعاً بعد الثورة، وضمت بقايا الملكيين، وتنظيم “مجاهدي خلق” الذي تحالف مع صدام حسين في حرب الثمانينيات، إلى جانب شخصيات ومنظمات ممولة أمريكياً وإسرائيلياً وسعودياً، وهذه القوى عاشت على الهامش لعقود، بلا تأثير حقيقي، وظلت تدور في حلقة مفرغة.
لكن أحداث يونيو/حزيران الماضي غيّرت المعادلة، فقد صمت معظم المعارضين في الخارج، باستثناء بعض الأصوات الأكثر صخباً التي اصطفت مع دولة الاحتلال، وبذلك بدأ هذا الطيف المعارض ينكمش على نفسه، متورطاً في خدمة بروباغندا صهيونية أو متخفياً وراء أعلام الغرب، في لحظة انكشاف تاريخية.
صعود القومية المناهضة للاستعمار
وتعد طبيعة القومية الإيرانية المناهضة للاستعمار عاملاً أساسياً في هذا التحول، فبينما تمثل التيارات الملكية آخر أنفاس القومية الاستعمارية الفاشلة، ويقدم تنظيم مجاهدي خلق نفسه كنسخة قديمة من الإسلاموية المسلحة، أخذ النظام الحاكم في إيران اليوم موقع المدافع عن الهوية الوطنية ضد الأطماع الأجنبية، مستفيداً من الغضب الشعبي في مواجهة العدوان الأمريكي–الصهيوني.
ويضم الداخل الإيراني دائماً معارضة مشروعة، تتراوح بين دعوات الإصلاح المعتدل إلى الأكثر راديكالية، ولعل الأكثر تأثيراً هي تلك الأصوات النسائية التي خرجت عام 2022، من داخل البلاد، لتقود انتفاضة من أجل حقوق المرأة، صادمة بذلك العديد من العملاء الزائفين لصالح الغرب والصهيونية، مثل ماشه ألينجاد، التي كشفت عن نفسها كأداة دعائية بدلاً من أن تكون صوتاً وطنياً مستقلاً.
فشل محاولات تل أبيب وواشنطن
وفي إحدى رسائل نتنياهو الموجهة للإيرانيين، وضع على مكتبه كتب عدد من المعارضين الإيرانيين في الخارج، مشيراً إليها كدليل على تزايد المعارضة للنظام الحاكم، حيث جاءت هذه الإشارة بمثابة “قبلة الموت” لكل مؤلف من هؤلاء، إذ أجبرت المعارضة المنفية على الاختيار بين إما التسامي على خلافاتها مع النظام والانخراط في الدفاع عن الوطن، أو الاختباء وراء أعلام دولة الاحتلال، وقد اختار غالبية المعارضين الخيار الثاني، مما أدخلهم في دائرة العار والاندثار النهائي.
وحتى المعارض البارز أكرم جانجي، الذي تحول إلى مدافع نشط عن حقوق الفلسطينيين، سرعان ما أعلن افتراقه عن دعاية مرتكب القتل الجماعي (نتنياهو)، بينما بقي معظم المعارضين في صمت مخزٍ، غير قادرين على مواجهة تداعيات اختياراتهم الأخلاقية والسياسية.
وفي الوقت الحالي، لكل الإيرانيين، داخل وخارج البلاد، قضية واحدة عاجلة ومقدسة ألا وهي الدفاع عن وطنهم ضد عدوان صهيوني–أمريكي وحشي، ولا شرعية لأي نقد للنظام الحاكم إذا لم ينبع من حماية مصالح الوطن، ولا شرعية لأي مستقبل يمكن بناؤه على العدوان على غزة.
ولعل إنجاز الجمهورية الإسلامية، على الرغم من كل عيوبها، هو أنها الوحيدة في المنطقة التي وقفت بصلابة ضد العدوان الأمريكي–الصهيوني، فمقارنةً ببعض الأنظمة العربية، التي اختارت الصمت أو ساعدت دولة الاحتلال على قتل المزيد من الفلسطينيين، يظهر الدور الإيراني في الدفاع عن سيادة الأمة كرمز للثبات الوطني.
الدور الرئيسي للشعب الإيراني
في النهاية، يعود الفضل الأكبر للشعب الإيراني، ففي تلك اللحظة التاريخية، حين أصبح الدفاع عن الوطن ضد العدوان الأمريكي–الصهيوني المسؤولية الأولى للقيادة، ارتفعت قيمة الولاء الوطني فوق أي مصالح شخصية أو أيدولوجية.
لقد أصبح واضحاً أن أي محاولة للنيل من النظام الإيراني من الخارج، أو عبر الأصوات المنافقة في المنفى، هي محاولة فاشلة لأن الوطنية الإيرانية اليوم تتجاوز كل الأجندات الخارجية، وتضع حماية الوطن في صدارة الأولويات.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)