ستيفاني غارسيا
مريم العذراء، أم عيسى عليه السلام، واحدة من أعظم النساء في التاريخ، لها مكانة مرموقة في كلتا الديانتين الإسلام والمسيحية، حتى أنها تشكل قاسماً مشتركاً مهماً تم التغاضي عنه في مراحل كثيرة في التاريخ بدلاً من البناء عليه.
ليس من الغريب إذن، أن نجد أنه كانت هناك ملامح تقاليد وطقوس تعبدية مشتركة من حيث الطابع الروحاني بين الديانتين في أرض التعايش، أرض الأندلس، إبان حكم الممالك الإسلامية لأجزاء من شبه الجزيرة الأيبيرية بين الأعوام (711-1492م).
ومع امتداد السيطرة المسيحية على إسبانيا عقب إسقاط الممالك الإسلامية، أُقيمت محاكم التفتيش الشرسة والقاسية بين الأعوام (1478-1834)، قرابة أربعة قرون سعى خلالها المسؤولون عن تلك المحاكم إلى القضاء على كل ما ليس إسبانياً أو مسيحياً في البلاد، فكان ضحايا التعذيب في تلك المحاكم من المسلمين سواء من أصول أيبيرية أصيلة أو غير ذلك بالإضافة إلى اليهود.
كان يُنظر إلى اضطهاد المسلمين واليهود على أنه عنصر أساسي من أجل خلق الهوية الإسبانية التي اعتبرت متجذرة بقوة في المسيحية، فمكان ولادتك ليس مهماً، ولا يعني أنك مواطن، إن لم تكن كاثوليكياً فأنت لست إسبانياً، الأمر الذي دفع العديد من المسلمين واليهود إلى إخفاء عقيدتهم والتظاهر بأنهم كاثوليكيون.
كل من يعرف كاثوليكية الإسبان، يدرك حكم ارتباطهم بذلك الجزء الذي تنتمي إليه مريم العذراء عند البحر الأبيض المتوسط
ويجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من العادات والتقاليد وأساليب الفن المرتبطة بإسبانيا تشكلت في تلك الحقبة، مثل العمارة المدجنة، وهي الزخرفة التي تميز بها البناء خلال الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية، وكلمة مدجن من “مدجان” أو “مُدجن” من دجن بالمكان أي أقام فيه، وتشير هنا إلى المسلمين الذين مكثوا في شبه الجزيرة الأيبيرية خلال فترة محاكم التفتيش.
أما موسيقى “الفلامنكو” التي تشتهر بها إسبانيا اليوم، فيرجح العديد من علماء الأنثروبولوجيا إلى أن الكلمة الإسبانية مشتقة من المصطلح العربي “فلاح منغو” الذي يعني الفلاح المتجول، فقد نشأت هذه الموسيقى في فترة محاكم التفتيش في مدن باجا الأندلسية، و تشكلت من دمج موسيقى العرب المضطهدين واليهود السفارديم الغجر الذي كانوا يسمون الجيتانوس.
ولم تساهم بصمة الإسلام والعرب خلال حقبة محاكم التفتيش بالتأثير في أسماء الأماكن والمباني في إسبانيا فقط، بل في تكوين الشخصية الدينية التي حافظ المسلمون على غرسها والحفاظ عليها رغم تهديد محاكم التفتيش، تأثير امتد إلى طريقة ممارسة الإسبان لطقوسهم التعبدية حتى اليوم، فكل من يعرف كاثوليكية الإسبان، يدرك حكم ارتباطهم بذلك الجزء الذي تنتمي إليه مريم العذراء عند البحر الأبيض المتوسط.
التأثير الصوفي
تعتبر الصوفية إحدى مظاهر الشخصية الدينية الفريدة في الإسلام، وهو تقليد سائد حتى اليوم في دول شمال إفريقيا، حيث تتميز الصوفية بالطقوس والتركيز على ما يبطنه الإنسان أو الروحانيات، وتعرف المناطق المقدسة لدى الصوفيين بالزوايا التي تتشكل في الغالب حول قبور الأولياء أو الصوفيين المعلمين، حيث تقوم مجموعات المتصوفة بزيارة تلك القبور، مثل ضريح سيدي بومدين في مدينة تلمسان في الجزائر، أحد مؤسسي الصوفية في المغرب العربي، والذي ولد في مدينة إشبيلية في إسبانيا.
الأندلس لم تكن شيئاً يخص المسلمين أو العرب فقط، بل هي عنصر ما زال مؤثراً في الطابع الديني الإسباني المعاصر
في مناطق الأندلس التاريخية، يمكنك أن تجد الزوايا الصوفية في كل مكان، ويوازيها ما يدل على تفاني العديد من الأندلسيين في حب مريم العذراء موقع “la Romeria de la Virgen de Fuente Clara” الذي يحج إليه الكاثوليك اليوم، ويزعم بعض علماء الأندلس أن الموقع يعود لقبر أحد الأولياء الصوفيين قبل الاستيلاء عليه من قبل الكاثوليك، وعلى غرار زيارة المقابر عند الصوفيين، يحج المسيحيون إلى الموقع المذكور.
من الأمثلة الجلية أيضاً على تأثير الصوفية الأندلسية على إسبانيا الكاثوليكية، قصة القديس يوحنا الصليب، الكاهن الإسباني الشهير، والذي يشير أكاديميون إسبان إلى أنه قد تأثر كثيراً بالصوفيين المسلمين مثل العالم الأندلسي ابن عربي رغم أنه جاء بعده بقرون ، ففي قصيدته “تسلق جبل الكرمل”، تأثر القديس بكتاب “الفتوح المكية” لابن عربي، في فكرة التخلص من الارتباط بحياتنا الأرضية وإدراك أن الله وحده هو الحقيقة المطلقة.
تقارب الثقافات
آخر أمثلة ذلك التقارب الإسلامي الكاثوليكي في مقالتي هي قصة موقع “La Ermita de Nuestra Senora de las Angustias”، وهو متحف لتصوير قصة سيدة الأحزان، تم إنشاؤه عام 1790م في مدينة نيرخا الساحلية، بتكليف من برناردا ماريا ألفريز فيلاسكو، التي كانت مسلمة متخفية آنذاك، ولكنها كُشفت لاحقاً وتم الاستيلاء على أرضها وتعذيبها في محاكم التفتيش، غير أنها نجت في النهاية من الإعدام بسبب مكانتها النبيلة.
ويبقى السؤال لماذا اهتمت سيدة مسلمة مثل برناردا ببناء صرح مسيحي، لا أجد إجابة لذلك إلا أنها وجدت في مريم العذراء قاسماً مشتركاً بين المسيحية وبين عقيدتها الإسلامية التي كانت تخفيها آنذاك، أو أن الموريكسيون المسلمون كانوا يجدون في التعبير عن حبهم لمريم العذراء طريقة لا تتعارض مع عقيدتهم وتسهم بنفس الوقت بمساعدتهم على إخفاء إيمانهم عن أعين محاكم التفتيش.
نخلص إلى نقطتين مهمتين من بين هذه النظريات والحكايات، أولهما أن تبجيل مريم العذراء هو أمر مشترك بين المسيحيين والمسلمين، وثانيهما أن الأندلس لم تكن شيئاً يخص المسلمين أو العرب فقط، بل هي عنصر ما زال مؤثراً في الطابع الديني الإسباني المعاصر.