كيف تحولت الجنينة إلى مقبرة! شاهد عيان يروي قصصاً مرعبة من السودان!

كيف تحولت الجنينة إلى مقبرة! شاهد عيان يروي قصصاً مرعبة من السودان

بقلم ندى عثمان وأوسكار ريكيت

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

في الخامس عشر من نيسان/ أبريل، اندلعت الحرب في السودان وفي غضون أيام عمّ القتال المنطقة الغربية من دارفور.

خلق الصراع، الممتد عبر ولايات دارفور الخمس، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية انقسامات عرقية، حيث استهدفت قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها قبيلة المساليت غير العربية.

كانت الجنينة، عاصمة غرب دارفور، مسرحًا لأهوال عديدة، حيث شهدت عمليات قتل جماعي وانتشار الجثث الملقاة في الشوارع.

 يُعتقد أن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها تسيطر على 80% من المدينة، التي فرّ مئات الآلاف من سكانها إلى تشاد المجاورة.

كان إدريس البالغ من العمر 29 عامًا والذي يعمل في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، من بين أولئك الأشخاص الذين فروا حيث استقر به المقام في بيروني.

يستذكر إدريس الذي فضّل عدم الكشف عن هويته الحقيقية لأسباب أمنية، ما حدث ويعيد سرد قصته مدعمة بالصور الحصرية والتي تتضمن محتوىً حساساً ينبغي مشاهدتها بحذر.

تأتي العاصفة غربًا

كنت جالسًا في مقهى مع بعض الأصدقاء عندما جاءتنا الأخبار.

عبر تاريخ السودان، لطالما اقترنت الحرب بدارفور، وأذكر حين كنت طفلاً في عام 2003 كيف انتقلنا إلى المنزل بينما كان القتال يحيطنا من كل مكان، كما أذكر أن مدرستي ظلت مغلقة لمدة عامين.

هذه المرة، بدأ القتال في العاصمة الخرطوم، لكننا كنا نعلم أنه سيصل إلينا لا محالة، تحدثنا حول ما سيكون عليه الوضع هنا في الجنينة، حيث ولدت وترعرعت، وتخيلنا كم سيكون الأمر صعباً.

في 22 نيسان/ أبريل، حاصرت ميليشيات عربية مسلحة متحالفة مع قوات الدعم السريع الجنينة من جميع الجهات، وبعد يومين، استيقظنا في السابعة صباحًا على أصوات إطلاق نار، وهرعنا إلى الشوارع لنجد الميليشيات في كل مكان، وزخات الرصاص تمطر في كل مكان حولنا، فأينما نظرت كان هناك إطلاق للنار.

وسرعان ما اقتحمت سيارات مصفحة الشوارع، وعدت أنا أدراجي إلى المنزل، بينما استمر القتال لساعات، وكان بمقدوري سماع صوت الرصاص الحي فيما دار الحديث عن اقتحام مستودع للأسلحة ونهبه.

في ذلك اليوم، كنا جميعًا محاصرين في منازلنا حتى المساء، وكنت أرى ضباط الشرطة والجيش في الشوارع يحملون بنادق إم 16 وبنادق كلاشينكوف وقذائف آر بي جي.

ومع مرور الأيام استمرت الهجمات وازدادت الأسلحة أكثر فأكثر، وأخذت قوات الدعم السريع والميليشيات التابعة لها تشن هجمات يومية في جميع أنحاء المدينة.

ورداً على ذلك نفذ الجيش قصفاً عشوائياً، بينما فضل بعض جنوده التمرد، في حين كانت الميليشيات تقصف دون أي خطة واضحة وكان مقاتلوها يطلقون الرصاص على الناس بطريقة خارجة عن السيطرة.

وبعد فترة وجيزة من أيام الحرب الأولى، شهدت نهب المنازل والسيارات والأسواق، ثم بدأت المياه تنفد من المدينة.

وكانت النساء والأطفال يُستهدفون ويقتلون بالرصاص حين يغادرون منازلهم للحصول على الماء ما جعل الناس يخشون فعل ذلك حقاً.

كما بدأ الطعام ينفد بسرعة، وفي حين كان بعض أصحاب المتاجر يسمحون لنا بأخذ ما نريد، كان آخرون يسجلون أسماءنا حتى نتمكن من الدفع لاحقًا.

لقد كان الوضع في غاية الصعوبة، ولم نكن نتناول الطعام لأيام، فالطعام الوحيد الذي كان بوسعنا الحصول عليه هو المعكرونة والدقيق، وكانت الوجبة التي تعتمد عليها معظم العائلات هي العصيدة التي تطبخ بالعجين، دون وجود خيارات أخرى.

مشاهدة القتل الجماعي

في 14 حزيران/ يونيو، قُتل والي غرب دارفور، خميس عبد الله أبكر، الذي بعد ساعات من انتقاده لقوات الدعم السريع، متهماً إياها بالوقوف وراء أعمال العنف المستمرة وواصفاً اعتداءاتها بـ “الإبادة الجماعية”.

وكما العديد من المراقبين الدوليين، يعتقد معظم الناس في الجنينة بشكل لا يساوره الشك أن القوات شبه العسكرية أسرت أكبر واغتالته، لكن قوات الدعم السريع تنفي ذلك.

في اليوم التالي وقع هجوم على الحي الذي أسكن فيه وغالبية سكانه من قبيلة المساليت بمن فيهم أمي، وفي الغالب فإن القبيلة باتت محط استهداف قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها.

كل يوم، كنت أسمع عن وفاة شخص أعرفه

وبعد أن انتشر مقطع الفيديو الذي يظهر مقتل المحافظ، سارع الناس إلى الفرار من الجنينة على أمل السفر من جنوب المدينة، حيث كنت أعيش، إلى منطقة أردمتا في الشمال التي تتواجد فيها قيادة الجيش.

ومن تلك النقطة تابع الفارون رحلتهم إلى تشاد ومدينة أدري الحدودية، في رحلة محفوفة بالمخاطر على الرغم من أنها لا تتجاوز الـ 30 كيلومترًا.

كنت في الشارع عندما وصلوا وكانوا رجالاً يرتدون زياً داكناً ويركبون سيارات مصفحة، من نوع Toyoto Land Cruisers، فكان لا بد وأن يكونوا من قوات الدعم السريع، بالفعل، كانوا هم بعينهم يدخلون منازل الناس ويقتلونهم.

كان هناك العديد من الأشخاص حولي، من الجيران، يخططون لمغادرة المدينة إلى تشاد، وكان المقاتلون يمسكون بأناس في الشارع ويفصلون الرجال عن النساء ويسألونهم “هل أنتم من المساليت؟ أين يسكن أهل المساليت؟”.

وبعدما فرزوا الرجال، أطلقت القوات النار مباشرة على بعضهم وقتلوا ثمانية بينهم اثنان من كبار السن، فيما تمكن البعض الآخر من الفرار وتم تقييد البقية واصطحابهم في سيارات المقاتلين.

رأيت كل هذا يحدث بأم عيني رغم أنني لم أكن في مقدمة الأشخاص الذين كانوا يشاهدون الأحداث، وعندما بدأ المقاتلون في إطلاق النار علينا، سارعنا إلى الفرار.

قُتل الكثير من الأشخاص في منتصف حزيران/ يونيو، ولم تكن هذه هي جريمة القتل الجماعي الوحيدة التي شاهدتها، فكل يوم، كنت أرى 6 أو 7 جثث ملقاة في الشوارع.

وفي 20 حزيران/ يونيو، أعلن سلطان المساليت أن أكثر من 5000 مدني قتلوا في الجنينة بين 24 نيسان/ أبريل و 12 حزيران/ يونيو.

كان الناس في الحي الذي أسكن فيه ينتظرون توقف القتال لمدة ساعة أو ساعتين، ليتمكنوا من الخروج لنقل الجثث بسرعة لدفنها.

لكن لم يكن بمقدور الجميع العثور على أحبائهم، ولم يكن لدى الجميع من يبحث عنهم، وهكذا تراكمت الجثث وبدأت تتعفن بعد أن تُركت في الطرقات.

لقد كان الوضع متوتراً جداً، وتملكني القلق، ففي كل مرة كانت تمر فيها فترة من الهدوء النسبي ليوم أو يومين، كنا نعتقد آملين أنه ربما، هذه المرة، سيتوقف القتال نهائياً، لكن سرعان ما كان يعود مكثفاً من جديد.

كنا نستهدف أيضاً بسبب لون بشرتنا، فهناك مناطق معينة لا يمكنك التجول فيها إذا كنت أسودًا (مثلي)، كما أن هناك بعض المناطق التي لا يستطيع الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة التحرك فيها. 

قتل أفراد الأسرة

كنت أسمع كل يوم عن وفاة شخص أعرفه، وكان الناس يتلقون مكالمات هاتفية يومية لإخبارهم بمقتل قريب أو صديق أو حتى أحد الوالدين.

لقد فقدت الكثير من أقاربي، قُتلت مجموعة من أفراد العائلة من أقارب والدتي في حي المدارس بالجنينة.

وكثيرا ما كان يحدث انقطاع في خدمات الكهرباء والاتصال بالإنترنت، لقد كنا معزولين تماما.

 لقد كان الأمر صادمًا، حيث ساد الذعر على نطاق واسع في المدينة، لدرجة أنني كنت ما أن أكتشف أن شخصًا ما قد قُتل، حتى أتلقى مكالمة بعد دقائق حول وفاة شخص آخر، بدأت أشعر بالخوف الشديد، حتى أن عرقي لم يجف.

 كان الشبان يتعرضون للاستهداف في كل مرة يغادرون فيها منازلهم ولم تكن هناك سيارات إسعاف أو خدمات طبية، فالهجمات كانت تقع في كل مكان وسط اعتداءات عنيفة على المدارس التي لم تعد تعمل وعلى الأسواق التي واصلت نشاطها.

وفي ظل انقطاع الكهرباء والانترنت، لم تكن هناك طريقة لمعرفة مكان أصدقائك أو عائلتك، كنا نستيقظ في الخامسة صباحًا لنذهب إلى منزل أحدهم ونطلب منه أي معلومات، أو لنرى ما إذا كان يعرف ما الذي يجري.

وبينما كنا نعيش في الظلام، كنت أسمع صوت اشتباك أو هجوم كبير، دون سبيل لمعرفة ما قد حدث للتو، وفي حال وجود ضحايا، لم تكن هناك طريقة لمعالجتهم. 

لقد مات الكثير من الناس من حولي بسبب عدم تمكنهم من الحصول على العلاج بعد إصابتهم.

كان الجميع مذعورين، حتى أن نجل أحد الرجال لم يتوقف عن البكاء لأيام والدموع تنهمر على وجهه، لقد كان من الصعب جدًا رؤية الجميع يبكون ويعانون بشدة.

في 18 حزيران/ يونيو، قررت مغادرة الجنينة، المدينة التي أنتمي إليها، المكان الذي نشأت فيه، فبعد وقوع مذبحة 15 حزيران / يونيو، عرفت أنني بحاجة إلى الخروج.

لم تكن رحلتي إلى تشاد سهلة، ففي ظل استهداف الشبان في الشوارع، توجهت مباشرة إلى مخبأ بعد أن غادرت المنزل، واستطاعت مجموعة منا وكلنا من فئة الشباب، العثور على جماعة عربية مسلحة كانت تنقل الناس إلى الحدود، حيث كان كل ما علينا فعله هو فقط أن ندفع لهم.

مررت بأكثر من 10 نقاط تفتيش، حيث تم تفتيشي وطرح الأسئلة علي من قبل ضباط مسلحين، لقد أرادوا معرفة القبيلة التي أنتمي إليها، وأين أعيش، وإذا كنت من المساليت أم لا.

رأيت هواتف الناس وأموالهم يتم مصادرتها، ورأيت أطفالاً مسلحين عند نقاط التفتيش، وبينما تستغرق الرحلة في أوقات السلم حوالي ساعة من الزمن، استغرقت رحلتي ساعات طويلة بسبب تعرضنا للفحص عند نقاط التفتيش.

كما تعرض الناس هناك أيضًا للهجوم ورأيت الجثث متراكمة على الأرض عند تلك النقاط.

عند الحدود، استقبلنا الجيش التشادي وقبل أن يسمحوا لي بالمرور أخذوا اسمي، وتم منحنا أرقاماً وسُجلت أسماءنا من قبل جمعيات خيرية مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قبل إعطائنا خيمة للبقاء فيها.

كان الأمر صعبًا حقًا، فقد كان في بعض الخيام تسعة أفراد من عائلة واحدة، لكن مهما كان الوضع، فهو أفضل من الوضع الذي هربنا منه في الجنينة.

لقد عبر مئات الآلاف من السودانيين الحدود إلى تشاد، وكان الضغط على الموارد مؤشراً على أن أولئك الذين جاءوا بعدي واجهوا المزيد من الصعوبات، حيث كانت العائلات تحصل على الخبز والزيت لكن سرعان ما كانت تلك المساعدات تنفد بسرعة.

نقل الحقيقة للعالم

علمت أنه لا أمل في إصلاح الوضع في الجنينة، لكن كان عليّ توثيق ما يجري.

لقد اتخذت قرارًا بنشر بعض مشاهداتي في مسقط رأسي على فيسبوك لاعتقادي بأهمية إلقاء الضوء على ما كان يجري هناك، وأحسست وما زلت أحس أن ما حدث كان يمر دون أن يلاحظه أحد، وأن الفظائع ترتكب في الظلام.

إحدى الصور التي نشرتها على الإنترنت للجثث سببت لي الكثير من المتاعب، فقد أرسل لي أشخاص ما زالوا في الجنينة رسائل على فيسبوك يقولون فيها إنهم تعرضوا للتهديد بسبب ذلك.

هناك أشخاص نافذون لا يريدون أن يعرف العالم ما يحدث في وطننا.

بعد فترة وجيزة، وبسبب ما كنت أنشره على الإنترنت، لم أعد أشعر أن تشاد هي مكان آمن، حيث كنت قد بدأت أسمع عن مقتل العديد من الأشخاص لأنهم كانوا على صلة بنشطاء أو أشخاص يعملون في مجال حقوق الإنسان، ونظرا لصغر المنطقة التي كنت فيها، لم أستطع البقاء هناك لفترة طويلة.

وبسبب عدم معرفة العالم بما يجري في الجنينة، كنت أرغب في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بي لإعلام الناس، رغم أنني كنت مترددًا في ذلك، لكن وسائل الإعلام أيضًا لم تكن تغطي الأمر بشكل صحيح بسبب انقطاع الاتصال بالإنترنت وشبكات الاتصال. 

أردت أن أضغط على قوات الدعم السريع وأظهر للعالم الفظائع التي كانت ترتكب، رغم أن ذلك يعرض حياتي لخطر مباشر.

ومنذ حوالي أسبوع، قررت أن أغادر تشاد وأن أشق طريقي إلى نيروبي، فالحياة صعبة هنا وأنا قلق على أسرتي التي ما زالت في الجنينة، فالحرب مستمرة هناك، ويمكن للقوات المسلحة، من أي طرف، اقتحام منزلنا ومداهمته بسهولة، أو قد يصيبه القصف العشوائي العنيف والمتواصل، الحياة أصبحت جحيماً هناك.

حتى في نيروبي، لا أشعر بالأمان التام، فمتطلبات الحياة باهظة الثمن وليس لدي أي خطط حقيقية، بخلاف محاولة العثور على نوع من المنح الدراسية أو بعض الفرص.

لم أكن أرغب في مغادرة الجنينة، لكنني رأيت الجثث والأنقاض، والآن أعتقد أنني ربما لن أعود أبدًا، فهذه الحرب ستستمر. 

لا تزال عائلتي في دارفور، وهم في الوقت الحالي بأمان، لكنني سأعود في يوم من الأيام.

لقراءة النص كاملاً من (هنا)

مقالات ذات صلة