عندما بدأ وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير توزيع بنادق على المستوطنين في الضفة قبل أسابيع، أبدت واشنطن غضباً شديداً وسريعاً، بل وهددوا بوقف شحنات الأسلحة التي تصدرها إلى إسرائيل أصلاً، بما في ذلك 24 ألف بندقية جديدة طلبتها وزارة بن غفير من الشركات الأميركية.
لم يظهر في الفيديوهات الموثقة ما يدل على أن البنادق كانت أمريكية الصنع، غير أن مسؤولي وزارة الخارجية ومشرعين أمريكيين أبدوا قلقهم من احتمال تسليم البنادق الجديدة للمستوطنين واستخدامها ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، والتي قفز فيها عنف المستوطنين منذ 7 أكتوبر تشرين الأول إلى مستويات قياسية.
رغم تأكيدات الإسرائيليين بأن الأسلحة ستذهب إلى الوحدات الخاضعة لسيطرة الشرطة الإسرائيلية داخل الخط الأخضر، إلا أن الولايات المتحدة قامت بتأخير تسليم 4500 بندقية من طراز M-16، وفق تقارير لوسائل إعلام إسرائيلية وأمريكية.
بموجب “قانون ليهي”، يحظر على وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكية تقديم المساعدة للحكومات الأجنبية التي تحوم حولها اتهامات حول انتهاكات حقوق الإنسان، لكن العجيب أن القانون لا يطبق على إسرائيل.
من جانبه، صرح جوش بول، المسؤول السابق في مكتب الشؤون السياسية في وزارة الخارجية الأمريكية، لموقع ميدل إيست آي بالقول أنه “من المؤكد أن الأسلحة الأمريكية تستخدم بالفعل من قبل المستوطنين في الضفة الغربية”.
وأوضح بول أن “بعض الأسلحة التي تصدرها الولايات المتحدة ستكون قد مرت بترخيص من قبل قوات الدفاع الإسرائيلية، وبطبيعة الحال، فإن معظم المستوطنين في سن الخدمة العسكرية هم من جنود الاحتياط، لذلك سيحصلون على أسلحتهم من الجيش الإسرائيلي بغض النظر عما إذا كان بن غفير قد سلمها لهم أم لا”.
وتظل كمية ونوعية الأسلحة الأمريكية التي وصلت إلى إسرائيل على مدى سنوات أسئلة حيرت حتى أعتى خبراء الحد من الأسلحة، حيث تظهر المعلومات المتاحة للجمهور حتى الأكثر تفصيلاً منها، أن صادرات الولايات المتحدة إلى إسرائيل من المسدسات وأنواع معينة من البنادق قد قفزت بشكل ملحوظ في الأشهر التسعة الأولى من هذا العام مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة.
مع غياب معلومات واضحة وكاملة، يبدو من المستحيل على دافعي الضرائب الأميركيين وحتى المشرعين قياس حجم صادرات الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل، والأهم من ذلك، مقدار ما تؤمنه الحكومة الأميركية من هذا المبلغ!
تقول ليليان مولدين من منظمة “نساء من أجل شفافية تجارة الأسلحة” أنه “إذا كانت كل هذه المبيعات شفافة تمامًا أمام الكونجرس والجمهور، فأنا أعتقد أنه سيكون هناك المزيد من الغضب، ولذلك تعتبر الشركات أن من مصلحتها تصعيب تعقب مبيعات الأسلحة، حتى بالنسبة لمن يعملون في مجال أبحاث الحد من الأسلحة منذ سنوات”.
“صنع في الولايات المتحدة؟”
هناك أسئلة كثيرة يتوقف عندها سكان الضفة الغربية فيما يتعلق بتلك الأسلحة، فشاب مثل محمد الحريني من قرية العطواني جنوب الخليل، والتي يبلغ عدد سكانها 500 شخص أو نحو ذلك، يواجه مع أهل قريته تهديدات بالطرد وأوامر هدم منذ أن أعلن الجيش الإسرائيلي أراضيهم “منطقة إطلاق نار” عام 1981.
عمر محمد اليوم 19 عامًا، ولم يعرف أبدًا وقتًا في حياته لم يتعرض فيه هو وعائلته لضغوط لمغادرة العطواني، حتى أن جدته، فاطمة، لا تستطيع الرؤية بإحدى عينيها بعد أن ضربها الجنود خلال مظاهرة عام 2006، وفي سبتمبر، كسر المستوطنون ذراعي والده حافظ.
ومع ذلك، فمنذ 7 أكتوبر تغير الوضع بشكل ملحوظ، كما يقول الحريني إن الوضع في القرية، حيث كثف المستوطنون هجماتهم على السكان وداهموا المنازل وهددوا بقتل أي شخص لا يغادر، يفعلون ذلك مرتدين الزي العسكري وجميعهم مسلحون.
يقول محمد أن “الناس الآن خائفون من مواجهة المستوطنين، لأنه ليس لديهم أي شيء في أيديهم أو أي شيء يدعمهم”، فقد أطلق المستوطنون النار مثلاً على ابن عمه من مسافة قريبة في 12 أكتوبر، ومزقت ذخيرة متفجرة بطنه.
أما منزل عائلته، فقد تمت مداهمته وتجريف حديقة الخضروات الخاصة بالأسرة، والآن يسكنون بخيمة، بل باتوا غير قادرين على التنقل أو السفر لشراء البقالة دون استهدافهم، يقول محمد “إذا اقتربت مسافة 20 متراً من منزلي، سيبدأون بإطلاق النارعلى الفور، لقد أصبح من السهل أن تُقتل بدم بارد الآن”.
يظهر تناقض واضح بين الحقائق المفصلة التي تقدمها الحكومة الأمريكية بشأن الأسلحة التي قدمتها لأوكرانيا، بما فيها حتى أدوات الإسعافات الأولية والضمادات، مقابل شح المعلومات حول ما يتم إرساله إلى إسرائيل!
يروي محمد كيف اكتشف وجود قنبلة كتب عليها “صنع في الولايات المتحدة” العام الماضي، وذلك بعد هجوم دام أسابيع من قبل الجيش الإسرائيلي والمستوطنين على قريته.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يرى فيها ذلك، لكنها كانت المرة الأولى التي يكتب عليها، فكتب “يتم سحقنا بقوة الأموال والأسلحة الأمريكية، يجب على المواطنين الأمريكيين أن يعرفوا أين تذهب ضرائبهم وما الذي يمولونه”، والآن يتساءل مجدداً عما إذا كانت أي من الأسلحة التي انتشرت في الأسابيع الأخيرة أمريكية أيضًا!
عيوب قانون “ليهي”
في الولايات المتحدة، أي أسلحة أمريكية يتم تمويلها أو تقديمها كمساعدات عسكرية أمريكية يجب أن تخضع لما يسمى “قانون ليهي”، على اسم السيناتور الديمقراطي السابق باتريك ليهي، والذي كان وراء تمرير التشريع عام 1997.
بموجب “قانون ليهي”، يحظر على وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكية تقديم المساعدة للحكومات الأجنبية التي تحوم حولها اتهامات حول انتهاكات حقوق الإنسان، لكن العجيب أن القانون لا يطبق على إسرائيل، كما أوضح بول، المشرف على عمليات نقل الأسلحة اليوم، وليهي نفسه!
في مقابلة له مع صحيفة “نيوز آند سيتيزن” وهي صحيفة أسبوعية تصدر في ولاية فيرمونت، الأسبوع الماضي، قال ليهي أنه “لسنوات، قدمت شكاوى إلى الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء من أجل تطبيق القانون على إسرائيل، على اعتبار أن إسرائيل لديها سلطة قضائية مستقلة، لذلك فهي لا تحتاج إلى ذلك حقًا”.
أما بول، فقد أشار إلى أنه في داخل وزارة الخارجية يتم التعامل مع إسرائيل بشكل مختلف عن “أي دولة أخرى في العالم تقريباً” عندما يتعلق الأمر بقانون ليهي، مضيفاً أنه “بدلاً من الفحص المسبق في انتهاكات وحدات الإسرائيليين، نرسل الأسلحة ثم نبحث عن انتهاكات حقوق الإنسان”.
تفاصيل مبهمة
من جانب آخر، فإن الجمهور الأمريكي لا يعلم سوى القليل عن أنواع وحجم الأسلحة التي يتم تصديرها إلى إسرائيل، سواء من خلال المساعدات العسكرية أو المبيعات التجارية، فالافتقار إلى الشفافية فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة الأمريكية والمساعدات العسكرية لإسرائيل أمر لم يعد يختلف عليه اثنين.
ويظهر تناقض واضح بين الحقائق المفصلة التي تقدمها الحكومة الأمريكية بشأن الأسلحة التي قدمتها لأوكرانيا، بما فيها حتى أدوات الإسعافات الأولية والضمادات، مقابل شح المعلومات حول ما يتم إرساله إلى إسرائيل!
“نحن نقدم 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكرية، وهذا مبلغ لا تحتاج الحكومة الإسرائيلية إلى استخدامه في المعدات العسكرية لأننا نقدمها” – سيث بيندر- مدير مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط
من أسباب الغموض أيضاً، أنه من الصعب الحصول على بيانات تصدير الأسلحة النارية الأمريكية، أيًا كانت الدولة المتلقية لها، كما هو معروف، وذلك بسبب وجود قيود قانونية مكتوبة من قبل الجهات التنظيمية الممولة حول المعلومات التي يمكن تقديمها حول مبيعات معينة.
مثلاً، لا يتم إخبار الكونغرس إلا عن المبيعات التي تزيد قيمتها عن الحدود النقدية التي تختلف اعتمادًا على نوع البيع، والتي تعد أعلى بطبيعة الحال مع دول حلف شمال الأطلسي و5 دول أخرى، منها إسرائيل، وهذه ثغرة تتيح تمرير مبيعات بمليارات الدولارات دون إبلاغ الكونغرس أو الرأي العام الأمريكي.
من ناحية أخرى، يتم حجب تفاصيل محددة بشكل منتظم من قبل الإدارات الحكومية الأمريكية التي تشرف على تراخيص تصدير الأسلحة، بحجة أنها يمكن أن تقوض الشركات الأمريكية، وتظهر أرقام حصل عليها موقع ميدل إيست آي من مكتب الإحصاء الأمريكي أن القيمة الإجمالية للأسلحة المصدرة من الولايات المتحدة إلى إسرائيل قفزت في 5 فئات رقمية مختلفة في الأشهر التسعة الأولى من هذا العام وحده، ويشمل ذلك المسدسات وأنواع معينة من البنادق وملحقات وقطع البنادق والبنادق والخراطيش.
“الناس يدعمون الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان من خلال إنفاق أموالهم، أنا لا أعرف أين ذهبت الأموال الأمريكية بالضبط، ولأي مساعدة، لكنها في النهاية تدعم نظام الفصل العنصري هذا الذي ارتكب كل شيء ضد الشعب الفلسطيني” – محمد الحريني- فلسطيني من الخليل
وقد أوضح مدير مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، سيث بيندر، أن الارتفاع الذي تشير إليه البيانات ليس مفاجأة عند النظر إلى كثافة هجمات المستوطنين في الضفة الغربية وتخفيف القوانين في إسرائيل في الآونة الأخيرة للسماح بمنح المزيد من تراخيص الأسلحة، وتساءل بيندر قائلاً “كم يأتي من هذا السلاح من التمويل العسكري الأجنبي؟ هذه المعلومات غير متاحة”.
بالفعل، فبيانات مكتب الإحصاء الأمريكي لا توضح لك ما إذا كان التمويل الأمريكي قد تم تقديمه لمساعدة الحكومة أو الشركات الإسرائيلية أو ما إذا تم تحويل أي منها دون مقابل، لذلك في الوقت الذي أظهرت فيه الأرقام زيادة حادة في المبيعات هذا العام، فإن مقدار ما تم تمويله غير واضح.
يقول بول “أولاً وقبل كل شيء، هناك مصلحة لدافعي الضرائب الأمريكيين في كيفية إنفاق أموالهم، وما إن كانت الطريقة تصب إيجاباً في صالح السياسة الخارجية الأمريكية، وفي إسرائيل، يمكن للأسلحة الصغيرة والخفيفة أن تسبب ضرراً أكبر مما يعتقده الناس.
قيود على الرقابة
هناك لغز آخر يدور حول تساؤل مهم، أين توجد الأسلحة والأجزاء الأمريكية الموجودة بالفعل في إسرائيل؟ فلا وزارة الخارجية التي تراقب المبيعات التجارية، ولا وزارة الدفاع التي تراقب المبيعات العسكرية، مهيئتان لتعقب الأسلحة الصغيرة.
لدى وزارة الخارجية ما يعرف ببرنامج Blue Lantern ، والذي يعمل على عمليات التحقق من حوالي 2% من تراخيص تصدير الأسلحة سنويًا، ويركز عادةً على الكيانات الجديدة التي تظهر في طلبات الترخيص أو مجالات فيها مخاوف محددة تعتمد على الاستخبارات.
يقول بول أنه “بالنسبة لصادرات الأسلحة النارية إلى إسرائيل، فمن غير المرجح القيام بأي نوع من فحوصات الاستخدام النهائي على افتراض أنها للحكومة الإسرائيلية وعبر كيانات لوجستية معروفة”.
وفي برنامج آخر تابع لوزارة الدفاع الأمريكية يدعى برنامج Golden Sentry ، يتم التركيز على الأسلحة الأكبر حجمًا بالتحقق من وجود الأسلحة في الترسانة التي يقول الجيش الأجنبي إنها موجودة فيها.
وفقاً لخبراء، فإن الطريقة الأسرع لتتبع الأسلحة الأمريكية إلى الضفة الغربية ستكون عبر تحليل الصور، ولكن حتى لو لم تتمكن من تتبع المكان الذي انتهت إليه الأسلحة النارية الأمريكية بالضبط أو أين يتم استخدامها من قبل المستوطنين في الضفة الغربية من خلال الصور، فإن الولايات المتحدة لا تزال متورطة بسبب التمويل.
يقول بيندر “نحن نقدم 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكرية، وهذا مبلغ لا تحتاج الحكومة الإسرائيلية إلى استخدامه في المعدات العسكرية لأننا نقدمها”، وأضاف أن “إسرائيل تقدم ضمانات بأنها لن تقدم أسلحة أمريكية للمستوطنين، ومع ذلك فهي في الواقع تسمح بذهابها إلى المستوطنين”.
ويرى محمد الحريني أن “الناس يدعمون الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان من خلال إنفاق أموالهم، أنا لا أعرف أين ذهبت الأموال الأمريكية بالضبط، ولأي مساعدة، لكنها في النهاية تدعم نظام الفصل العنصري هذا الذي ارتكب كل شيء ضد الشعب الفلسطيني”.
بقلم دانيا العقاد
ترجمة وتحرير مريم الحمد
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)