كيف تعادي إسرائيل السامية ولماذا تهاجم اليهود وتتهمهم بكراهية أنفسهم؟

بقلم جوزيف مسعد

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

في مناسبات كثيرة، قمت بسرد حكاية التأسيس الصهيوني لمبدأ معاداة السامية، وهي قصة تطرقت لها عدة مرات في كتاباتي، حيث تشمل هذه القصة القرابة الأيديولوجية بين الأفكار الصهيونية التأسيسية وقواعد معاداة السامية.

ففي كلا الحالتين ينظر إلى اليهود الأوروبيين باعتبارهم ليسوا أوروبيين، بل شعب شرقي منفصل عن أوروبا لا ينبغي له أن يعيش بين المسيحيين الأوروبيين، وفي الحالتين أيضاً يُنظر إلى اليهود كعرق منفصل وأمة منفصلة، أو كما وصفهم الأصولي البروتستانتي المعادي للسامية ووزير الخارجية البريطاني الصهيوني آرثر بلفور، “شعب منفصل”.

من هذا المنطلق، أصبحت التحالفات التي توسطت فيها الحركة الصهيونية منذ نشأتها مع السياسيين والأنظمة الأوروبية المعادية للسامية لتعزيز مطالبها جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الحركة، ومع ذلك، فإن إرث الحركة الصهيونية هذا لم ينته بتأسيس إسرائيل في عام 1948.

بل على العكس من ذلك، قامت المستعمرة الاستيطانية الصهيونية الجديدة بتشييد أساس الحركة الصهيونية المعادي للسامية وأصرت على أن أولئك الذين يعارضون الصهيونية ويعادون السامية الإسرائيلية، سواء كانوا يهودًا أو غير يهوديين، هم معادون للسامية بالفعل، وهو الأمر الذي كان من الصعب ادعاؤه قبل عام 1948، حيث كانت غالبية اليهود في ذلك الوقت معادين للصهيونية أو غير صهاينة.

دولة يهودية

أولاً، قرر الصهاينة تسمية مستعمرتهم الاستيطانية الجديدة “إسرائيل”، ونظرًا لأن “إسرائيل” تشير في التقليد التوراتي واليهودي إلى أحفاد يعقوب، أو الشعب اليهودي، فإن تسمية الدولة “إسرائيل” سعى إلى دمج جميع اليهود مع دولة إسرائيل.

إن رفض إسرائيل لـ “إعلان الاستقلال” كان له علاقة بالهدف الرئيسي للصهيونية، وهو أن تمثل الدولة “الشعب اليهودي” وليس فقط المستعمرين اليهود في فلسطين، وبهذا فإن كل من ينتقد إسرائيل سوف يُتهم بمهاجمة وانتقاد كل اليهود، في مجملهم، وليس الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها العنصرية

ثانياً، جاء رفض إسرائيل إصدار “إعلان الاستقلال” رسمياً في عام 1948، على الرغم من أن دعاة إسرائيل كانوا يشيرون إلى “إعلان تأسيس دولة إسرائيل” الرسمي على أنه “إعلان الاستقلال”، مؤشر آخر على معاداة الصهيونية للسامية.

فقد أطلق على “إعلان تأسيس الدولة اليهودية” هذا الاسم بعد رفض القيادة الصهيونية لمقترحات لتسميته “إعلان الاستقلال”، بل واقترح مندوب الحزب الشيوعي الفلسطيني الصهيوني مائير ويلنر إعلان الدولة “ذات سيادة ومستقلة”، لكن التعديل الذي قدمه رُفِض.

لقد تم رفض هذه المقترحات بشكل قاطع لصالح إعلان الدولة “يهودية” فقط وليس أكثر، وكان لهذا الرفض العنيف علاقة بالهدف الرئيسي للصهيونية، ألا وهو أن الدولة التي تسعى إلى إقامتها سوف تمثل “الشعب اليهودي” في جميع أنحاء العالم وليس فقط المستعمرين اليهود في فلسطين، وبالتالي فإن إعلان الدولة “مستقلة” كان ليعني ضمناً أنها مستقلة عن يهود العالم، وبالتالي فهي دولة “إسرائيلية” وليست “يهودية”.

ونظراً لأن زعماء إسرائيل أصروا على أن الحركة الصهيونية لابد وأن تستمر في أنشطتها الاستعمارية الاستيطانية حتى بعد تأسيس إسرائيل، حيث استمرت أغلبية اليهود في العيش خارج إسرائيل كما يفعلون حتى اليوم، فإن إعلان “استقلال” البلاد ربما كان ليمنعها من القيام بذلك، وقد تم توضيح مثل هذه الأسباب بشكل صريح في المناقشات اللاحقة حول رفض تسمية الدولة رسمياً “مستقلة”.

ثالثاً، أصرت إسرائيل في الإعلان وبعده على أن تأسيسها للدولة لم يكن بالنيابة عن أهداف الحركة الصهيونية، التي عارضها عدد كبير من اليهود على الدوام، بل إن إنشاء دولة يهودية كان “حقاً طبيعياً للشعب اليهودي في أن يكون سيداً لمصيره، مثل جميع الأمم الأخرى، في دولته ذات السيادة”.

وهنا مرة أخرى تضع إسرائيل كل اليهود الذين لا تمثلهم تحت الاتهام بإقامة مستعمرتها الاستيطانية على أرض الفلسطينيين، وعلى هذا فإذا عارض أحد هذا “الحق الطبيعي للشعب اليهودي” المزعوم، فلن يكون مثل هذا الشخص أقل من معادٍ شرس للسامية.

وبهذا الأسلوب، انتحلت إسرائيل لنفسها الحق في تمثيل يهود العالم، الذين لم يمنحوها مثل هذا التفويض قط، وقد اعترفت جميع القوى الأوروبية والولايات المتحدة، التي رفضت السماح لليهود الفارين من النازيين بالعودة إلى بلدانهم، بمطالبة الدولة الإسرائيلية الجديدة بتمثيل كل اليهود، وقد أعفتها هذه الخطوة من مسؤولية استقبال مئات الآلاف من اللاجئين اليهود بعد الحرب العالمية الثانية.

يهود الشتات

لقد أثارت المطالبة الإسرائيلية بالتحدث باسم كل اليهود وتمثيلهم غضب اليهود غير الصهاينة والمناهضين للصهيونية، وحتى بعض اليهود المؤيدين للصهيونية في أوروبا والولايات المتحدة، الذين أصروا على أن الحركة الصهيونية وإسرائيل كانتا تقدمان الذخيرة لمعادي السامية الذين اتهموا اليهود بالولاء المزدوج نتيجة لهذا الادعاء الإسرائيلي.

وقد أبدى زعماء اليهود الأميركيين قلقهم الشديد بشأن هذا الادعاء الخطير المعادي للسامية من جانب إسرائيل، ففي عام 1950، وقع جاكوب بلاوشتاين، رئيس اللجنة اليهودية الأميركية، اتفاقاً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون لتوضيح طبيعة العلاقة بين إسرائيل واليهود الأميركيين، أعلن بلاوشتاين فيه أن الولايات المتحدة ليست “منفى” بل “شتات” وأصر على أن دولة إسرائيل لا تمثل رسميا يهود الشتات أمام بقية العالم.

واعتبر بلاوشتاين أنه لا يمكن لإسرائيل أن تكون ملجأ لليهود الأميركيين، وأكد أنه، حتى لو توقفت الولايات المتحدة عن كونها ديمقراطية وعاش اليهود الأميركيون “في عالم حيث من الممكن أن يضطروا إلى الخضوع للاضطهاد من جانب أميركا”، فإن مثل هذا العالم، على عكس مزاعم إسرائيل، “لن يكون عالماً آمناً لإسرائيل أيضاً”.

وتحت ضغط من زعماء اليهود الأميركيين، أعلن بن غوريون من جانبه أن اليهود الأميركيين مواطنون كاملون للولايات المتحدة ولا ينبغي لهم إلا أن يكونوا مخلصين لها: “إنهم لا يدينون بالولاء السياسي لإسرائيل”.

وقد نص الاتفاق بين إسرائيل واللجنة اليهودية الأميركية على أن “إسرائيل، من جانبها، تعترف بولاء اليهود الأميركيين للولايات المتحدة، ولن تتدخل في الشؤون الداخلية لليهود في الشتات، وأن الأفراد الذين يختارون الهجرة إلى إسرائيل مطلوبون وسوف يرحب بهم بحرارة، ولكن أولئك الذين بقوا في أميركا لن يتم الاستخفاف بهم باعتبارهم منفيين، ولن يتحدث اليهود الأميركيون ولا الإسرائيليون نيابة عن بعضهم البعض”.

اتهامات “كراهية الذات”

لكن الإسرائيليين لم يلتزموا بموقف بن غوريون لفترة طويلة، ففي أعقاب حرب يونيو/حزيران 1967 وغزو إسرائيل واحتلالها لأراضٍ من ثلاث دول عربية مجاورة، بدأت إسرائيل تطالب كل يهود العالم بدعم سياساتها دون تمحيص.

بل إن أبا إيبان، وزير خارجية إسرائيل الشهير المولود في جنوب أفريقيا عبر بوضوح عن أن الذين فشلوا في اتباع تعليماته فشلوا لأنهم لم يكونوا يهوداً حقيقيين، حيث عرض الاستراتيجية الجديدة في مؤتمر سنوي عقد في إسرائيل عام 1972 برعاية المؤتمر اليهودي الأميركي وقال: “لا ينبغي أن نخطئ، اليسار الجديد هو مؤلف ومنشئ معاداة السامية الجديدة، والتمييز بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية ليس تمييزاً على الإطلاق، فمعاداة الصهيونية ليست سوى معاداة السامية الجديدة”.

لقد استغرق الأمر بضعة عقود قبل أن تصبح صيغة معاداة السامية التي صاغها أبا إيبان سياسة رسمية لا في إسرائيل فحسب، بل وفي مختلف أنحاء العالم الغربي، وإذا كان المنتقدون غير اليهود قد تعرضوا للانتقاد باعتبارهم معادين للسامية، فقد وصف إيبان في مؤتمر عام 1972 اثنين من المنتقدين اليهود الأميركيين لإسرائيل، وهما نعوم تشومسكي وإي. إف. ستون، بأنهما يعانيان من عقدة “الذنب إزاء بقاء اليهود”

كان إيبان يرى أن قيم تشومسكي وستون وأيديولوجيتهما، التي كان يقصد بها معاداتهما للاستعمار والعنصرية، “تتعارض وتصطدم مع عالمنا الخاص من القيم اليهودية”، حيث كان تحديد إيبان للسياسات الاستعمارية والعنصرية الإسرائيلية بالتقاليد والقيم اليهودية جزءاً لا يتجزأ من إشراك الصهيونية لجميع اليهود في ممارسات إسرائيل ومثلها العليا.

ولكن حتى طرد إيبان المروع لتشومسكي وستون من التقاليد اليهودية يبدو اليوم معتدلاً مقارنة بمدى العدوانية التي أصبحت عليها السلطات الإسرائيلية وأنصارها في الغرب منذ ذلك الحين في إعلان المنتقدين اليهود لإسرائيل، ناهيك عن اليهود المناهضين للصهيونية أو غير الصهاينة، باعتبارهم “يهوداً يكرهون أنفسهم” أو معادين للسامية.

ومن الأمثلة البارزة على ذلك استهداف الطلاب والمعلمين اليهود على مدى العقدين الماضيين بالسخرية والاستبعاد في الحرم الجامعي من قبل أنصار إسرائيل، سواء من اليهود أو غير اليهود، باعتبارهم “يهوداً يكرهون أنفسهم” أو يهود “يساعدون معاداة السامية” لأنهم انتقدوا إسرائيل أو دعموا حقوق الفلسطينيين.

ادعاءات مؤيدي إسرائيل

لقد هاجم أنصار إسرائيل بلا هوادة الأساتذة اليهود الذين ينتقدون إسرائيل باعتبارهم “يكرهون أنفسهم”، بل إن البعض يشعرون بالفزع من وجود “عدد أكبر من اليهود الذين يكرهون أنفسهم” بين أولئك الذين يتهمونهم بمعاداة السامية لأنهم يدعمون حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.

ولم يكن الحاخامات الصهاينة الذين ينتقدون سياسات الاحتلال بمنأى عن هذه التهمة أيضاً، حيث تم وصفهم بأنهم “يكرهون أنفسهم”، كما كان الحال مع كبار مساعدي البيت الأبيض الذين هم من المؤيدين الأقوياء لإسرائيل، ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه وصفهم بأنهم “يكرهون أنفسهم” عندما دعوا إسرائيل إلى “تجميد” بناء المستوطنات الاستعمارية في الأراضي المحتلة.

ومع ذلك، يزعم أنصار إسرائيل، مثل الأكاديمي الأميركي دانيال جيه إليعازار، أن إسرائيل “تأسست لتستند إلى القيم اليهودية”، وهو ادعاء يساوي بين المبادئ الاستعمارية للدولة الإسرائيلية واليهودية والهوية اليهودية، وهي معادلة معادية للسامية تماماً.

إن تحديد قيم إسرائيل وسياساتها باعتبارها “يهودية”، أو الاعتقاد بأن سياساتها يتم تنفيذها دفاعاً عن الشعب اليهودي، يمتد إلى ما هو أبعد من مؤيديها اليهود الأميركيين، حيث يدعم العديد من الأصوليين المسيحيين الأميركيين إسرائيل على وجه التحديد لأنها “يهودية”.

لقد تبنت المؤسسة السياسية الأميركية الآن هذه الادعاءات الإسرائيلية والمؤيدة لإسرائيل على أنها حقائق صريحة، وهو ما سمح للرئيس الأميركي دونالد ترامب في ديسمبر/كانون الأول 2018 بإخبار اليهود الأميركيين في حفل “حانوكا” في البيت الأبيض أن نائبه لديه عاطفة كبيرة تجاه “بلدكم”.

ولم تعترض إسرائيل، ولم تعترض حكومتها على أن يخبر ترامب مجموعة أخرى من اليهود الأميركيين في أبريل/نيسان 2019 أن نتنياهو هو “رئيس وزرائكم”.

ويبدو أن ترامب لم يكن منفرداً في حمل هذه الرؤية، إذ تضمنت استراتيجية الرئيس جو بايدن لمكافحة معاداة السامية “الالتزام الأميركي الثابت بحق دولة إسرائيل في الوجود وشرعيتها وأمنها، بالإضافة إلى ذلك، ندرك ونحتفل بالروابط التاريخية والدينية والثقافية وغيرها من الروابط العميقة التي تجمع العديد من اليهود الأميركيين وغيرهم من الأميركيين بإسرائيل”.

إن مثل هذه التصريحات تعمم على كل اليهود الأميركيين من خلال تجاهل أولئك الذين لا تربطهم علاقات “عميقة” أو حتى سطحية بإسرائيل، أو أولئك الذين تجبرهم علاقاتهم على عدم دعم مزاعم إسرائيل بشأن اليهود أو سياساتها تجاه الفلسطينيين.

وبدلاً من مكافحة معاداة السامية، فإن مثل هذا الربط بين اليهود الأميركيين وإسرائيل يؤكد على وجهات النظر الصهيونية والإسرائيلية والمسيحية والإنجيلية الأميركية تجاه اليهود، والتي يعترض عليها العديد من اليهود الأميركيين.

إن الادعاءات بأن كل اليهود الأميركيين يدعمون إسرائيل دون تمحيص وأن مثل هذا الدعم متأصل في الهوية اليهودية ليست أقل من تعميمات معادية للسامية، فالهوية اليهودية، مثل كل الهويات، متعددة وتتنوع دينياً وعرقياً، ناهيك عن تنوعها جغرافياً وثقافياً واقتصادياً.

صيغة معادية للسامية

اليوم، يفصل عدد متزايد من اليهود الأميركيين أنفسهم عن إسرائيل ونظامها العنصري اليهودي وجرائمها الاستعمارية، لذلك تستهدفهم لوبيات مؤيدة لإسرائيل بسبب مواقفهم السياسية، وتشوه سمعتهم باعتبارهم “كارهين لأنفسهم”.

لقد أصبح نظام نتنياهو المعادي للسامية اليوم مصراً بالمطلق على أن “معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية”، ولكن ليس المنتقدون اليهود أو غير اليهود لإسرائيل هم الذين يفشلون في التمييز بين اليهودية والصهيونية، بل على العكس من ذلك، يصرون على هذا الفصل بقوة

والواقع أن الذين يقودون الحملة اليمينية المؤيدة لإسرائيل في الجامعات الأميركية والأوروبية حددوا هدفاً رئيسياً واحداً يتقاسمونه مع الحكومة الإسرائيلية، وهو الملاحقة المستمرة حتى القضاء على أي تمييز بين اليهودية والشعب اليهودي والصهيونية والحكومة الإسرائيلية، وهو ذات الهدف الذي أصر عليه مؤسسو إسرائيل وخططوا له عندما أطلقوا على مستعمرتهم الاستيطانية اسم “إسرائيل”.

إن الحركة التاريخية التي بدأت باعتراف بن غوريون القسري في عام 1950 بأن اليهود الأميركيين لا يدينون لإسرائيل بأي ولاء للإجماع الرسمي الإسرائيلي بعد عام 1967 وإصرار نظام نتنياهو المعادي للسامية على أن “معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية” قد تكاملت الآن.

لقد تبنت الولايات المتحدة والمسؤولون البريطانيون والأوروبيون، هذه الصيغة المعادية للسامية، والهدف الحالي هو إجبار الجامعات والحركة الطلابية والمؤسسات الثقافية ووسائل الإعلام، وباختصار، الجميع، على الاشتراك في هذه الصيغة المعادية للسامية، ولن يقبل المنتقدون اليهود وغير اليهود لإسرائيل أيًا من ذلك.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة