كيف تم تسخير “معاداة السامية” في سحق اليسار في الغرب!

بقلم جوناثان كوك

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

ماذا يعني أن تكون معادياً للسامية في بريطانيا الحديثة؟ تبدو الإجابة مربكة أكثر من أي وقت مضى.

لقد وصلنا إلى مرحلةٍ يوصف فيها زعيم سياسي معروف بمناهضته للعنصرية، ونجم موسيقى روك يركز أكثر أعماله شهرة على مخاطر العنصرية والفاشية، وصانع أفلام شهير ملتزم بقضايا تقدمية اجتماعيًا بأنهم معادون للسامية.

تستمر قائمة الذين يُفترض أنهم تعرضوا لمعاداة السامية في الاتساع بشكل خاص في حزب العمال، حيث يمكن أن تشكل حتى العلاقات الغامضة مع أي من الشخصيات اليسارية الثلاثة الشهيرة المذكورة أعلاه، جيريمي كوربين وروجر ووترز وكين لوتش، أساسًا لاتخاذ إجراءات تأديبية.

خلال عام 2017، حصل كوربين، زعيم حزب العمال في ذلك الوقت، على أعلى تقييم حين وضع رؤية جديدة وملهمة لبريطانيا، وبعد ست سنوات، ألغى المنظمون عرض فيلم “ Oh Jeremy Corbyn: The Big Lie.”.

تم اتخاذ القرار بعد أن شنت جماعات الضغط الموالية لإسرائيل حملة لتشويه الفيلم عبر وصفه بأنه معاد للسامية، فرأى المهرجان التركيز على أن عرض الفيلم سيسبب “الانقسام”.

لفهم كيف وصلنا إلى اللحظة التي يمكن فيها إلغاء أي شخص أو أي شيء باعتباره معادًا للسامية، من الضروري التعامل مع المعنى المتغير باستمرار للمصطلح والاستخدامات السياسية المربكة له.

مفارقة كبيرة

قبل بضعة عقود، كانت معاداة السامية تعرف بطريقة مباشرة على أنها ممارسة أي تحيز أو كراهية أو عنف تجاه مجموعة عرقية معينة، ومثلت العنصرية الموجهة ضد اليهود لأنهم كانوا يهودًا مثالاً على ذلك.

ومنذ حوالي 20 عامًا أو نحو ذلك، بدأت معاداة السامية تتسع لتشمل معارضة الصهيونية كحركة السياسية.

تكمن المفارقة الكبيرة في أن الصهيونية هي أيديولوجية يدافع عنها اليهود وغير اليهود، وتطالب بحقوق إقليمية وسياسية حصرية أو متفوقة للمهاجرين اليهود إلى منطقة من الشرق الأوسط التي يسكنها السكان الفلسطينيون أصلاً.

تم إنشاء “دولة إسرائيل اليهودية” عام 1948 بمساعدة سخية من القوى الإمبريالية في ذلك الوقت، وخاصة بريطانيا، وتطلب إنشاؤها كدولة يهودية التطهير العرقي لحوالي 750 ألف فلسطيني من وطنهم. 

التسلسلات الهرمية العرقية

ظهرت الصهيونية منذ أكثر من قرن في أوروبا الاستعمارية المشبعة بأفكار التسلسلات الهرمية العرقية، وتمامًا كما اعتبرت الدول الأوروبية اليهود أقل شأنا وخطرًا على النقاء العرقي، اعتبر الصهاينة الفلسطينيين والعرب أقل شأنا ويهددون نقاوتهم العرقية.

ببساطة، كان مؤسسو إسرائيل يطمحون إلى عكس تلك الأفكار وتطبيقها بطرق تفيد اليهود.

لقد كافح أنصار إسرائيل سواء كانوا يهودًا أم غير يهود، للاعتراف بالأفكار القبيحة التي عفا عليها الزمن عن العرق والفصل العنصري والاستعمار في قلب مشروع تربوا على دعمه منذ الطفولة، وفضلوا توسيع معنى معاداة السامية لتبرير إساءة إسرائيل للفلسطينيين.

التدخل الاستعماري

ربما لم يكن من المستغرب أن تلعب إسرائيل دورًا محوريًا من وراء الكواليس في صياغة تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، الذي اكتسب القليل من الزخم لعاملين رئيسيين:

يتمثل أحدهما في أن الصهاينة ليسوا أصحاب المصلحة الوحيدين في حماية إسرائيل من النقد الجاد، بل إن الغرب يستثمر إسرائيل في توجيه الانتباه إليها وإبعاد النظر عن استمرار تدخله الاستعماري في المنطقة. 

أما العامل الثاني فيتمثل في تفوق كوربين السياسي غير المتوقع رغم كل الصعاب على المصالح العاجلة والمشتركة للمؤسسة البريطانية والحركة الصهيونية.

فتوجه حكومة كوربين للحدّ من امتيازات النخبة الحاكمة من شأنه أن يهدد آلة الحرب الاستعمارية الغربية، الناتو، وستسعى هذه الحكومة إلى إنهاء الدعم العسكري والدبلوماسي البريطاني لإسرائيل، الحليف الرئيسي للغرب في الشرق الأوسط.

بعد انتخابات عام 2017، لم تدخر المؤسسة السياسية أي جهد للإيحاء باستمرار بأن كوربين ومئات الآلاف من أعضاء حزب العمال اليساري الجدد كانوا معادين للسامية.

وتحت ضغط إعلامي متزايد، تم فرض تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) على الحزب في خريف 2018، مما خلق فخًا كان من المحتم أن يسقط اليسار فيه في كل مرة يتخذ موقفاً مبدئياً من إسرائيل وحقوق الإنسان.

تم طرد كوربين عن مقاعد حزب العمال عام 2020 من قبل خليفته، كير ستارمر، الذي تم انتخابه زعيما على وعد بتوحيد الحزب، لكنه فعل العكس حين شن حربا على جناحه اليساري تم فيها طرد حلفاء كوربين القلائل في حكومة الظل. 

بعد ذلك، بدأ فريق ستارمر عملية تطهير لا هوادة فيها لأعضاء الحزب المؤيدين لكوربين، بمن فيهم أعضاء يهود مناهضون للصهيونية، بدعوى أنهم معادون للسامية.

تم حظر النقاش حول عمليات التطهير في الدوائر الانتخابية المحلية، بذريعة أنها قد تجعل “الأعضاء اليهود”، وهذا يعني حقًا المدافعين عن إسرائيل، يشعرون بعدم الأمان.

وصلت هذه العملية إلى مستوى جديد من السريالية الشهر الماضي عند منع جيمي دريسكول، أول عمدة لشمال تاين، من الترشح لإعادة انتخابه على منصة اشتراكية.

لقد تم خلق مجموعة من الارتباطات المغرضة مع اللاسامية لتبرير القرار.

عوقب دريسكول ليس لقوله أو فعل أي شيء معاد للسامية، حتى بموجب تعريف IHRA الجديد الموسع، ولكن لمشاركته منصة لمناقشة أفلام المخرج كين لوتش، الذي لم يُطرد من الحزب، بالمناسبة، بسبب معاداة السامية.

ولتعزيز الذريعة المتهالكة لاستهداف دريسكول، تجاهلت المؤسسات الإعلامية الأسباب المعلنة لطرد لوتش، وشددوا بدلاً من ذلك على مزاعم خيالية بأن المخرج ينكر الهولوكوست.

أشرف ستارمر على دفع الحزب إلى أحضان نظام المملكة، لقد تباهى بالوطنية والعلم، وأخذ يطلب دعمًا متواصلًا لحلف الناتو، وناهض إضرابات العمال، ومنذ وفاة الملكة، سعى ستارمر للانحناء قدر الإمكان أمام الملك الجديد.

المعارضة الثقافية

صوتت حكومة المملكة المتحدة الليلة الماضية على قرار يحظر على جميع الهيئات العامة، بما في ذلك الحكومات المحلية، الموافقة على مقاطعة دولة واحدة بسبب سجلها في انتهاكات حقوق الإنسان: إسرائيل.

سيحمي التشريع إسرائيل بشكل فعال من المقاطعة حتى للمنتجات من المستوطنات اليهودية، التي بنيت بشكل غير قانوني في الضفة الغربية والقدس الشرقية لطرد الفلسطينيين من وطنهم التاريخي.

مع سحق المعارضة السياسية لإسرائيل، ما تبقى الآن هو جزر صغيرة من المعارضة الثقافية، تمثل بشكل واضح حفنة من عمالقة المشهد الفني المسنين.

جادل مايكل جوف، سكرتير المجتمعات المحلية، في مرافعته بمجلس العموم، بأن التعبير عن التضامن مع الفلسطينيين من شأنه أن “يضر بتماسك المجتمع ويغذي معاداة السامية” في بريطانيا.

يبدو أن الحكومة تعتقد أن حساسية العناصر الصهيونية الأكثر تطرفاً داخل الجالية اليهودية في المملكة المتحدة هي فقط التي تحتاج إلى الحماية، دون حساسية الفلسطينيين البريطانيين أو البريطانيين العرب أو البريطانيين المهتمين بالقانون الدولي.

حزب ستارمر، الذي يشارك الحكومة في عدائها لمقاطعة إسرائيل، قام بجلد نوابه الذين امتنعوا عن التصويت على مشروع القانون، فتُرك الأمر لحفنة من نواب حزب المحافظين لإبراز حقيقة أن مشروع القانون يقوض حل الدولتين الذي تتشدق به الحكومة وحزب العمال.

كانت شخصيات مثل لوتش وروجر ووترز عبارة بقايا من عصر مختلف لم تكن فيها الاشتراكية معاداة للسامية، وكان لوتش شوكة في حلق ستارمر لأنه خلق حراكاً داخل حزب العمال.

الشهر الماضي، تم تسليط الضوء أيضاً على مستوى طموح ستارمر في تصفية اليسار الثقافي في المملكة المتحدة أيضًا عندما كتب إلى مجلس النواب اليهودي لاتهام ووترز بـ “نشر معاداة السامية المقلقة للغاية”.

وفي علامة أخرى على غرائزه الاستبدادية، دعا ستارمر إلى حظر حفلات الموسيقي.

تعرض ووترز للانتقاد على نطاق واسع لارتدائه لباسًا عسكريًا على الطراز النازي لفترة وجيزة خلال عروضه، كما كان يفعل لمدة 40 عامًا، في هجاء واضح لجاذبية ومخاطر القادة الفاشيين.

لكن أحداً لم يهتم بالرسائل السياسية في عروضه حتى أصبح من الضروري تسليح معاداة السامية ضد اليسار الثقافي، بعد أن قضت بالفعل على اليسار السياسي.

ومثل كوربين، فإن ووترز من أشد المؤيدين الصريحين لحقوق الفلسطينيين، ومناهض صريح للحرب ولجهود الناتو لاستخدام أوكرانيا كميدان معركة “لإضعاف” روسيا بدلاً من الانخراط في محادثات.

في المناخ السياسي الملتوي الحالي في بريطانيا، فإن أي شخص لديه ضمير أو تعاطف أو شعور بالظلم يخاطر بالتعرض للتشهير بأنه معاد للسامية.

هذه الحملة لم تكتمل بعد، وستستمر حتى تنطفئ النيران الأخيرة للمعارضة السياسية.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة