بقلم جوناثان كوك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لم يعد يخفى على أحد، فيما أعتقد، بعد كل الدمار والموت في غزة أن إسرائيل تنفذ سياسة التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، حتى أن إسرائيل لم تتورع عن تقديم تفاصيل عن كيفية تنفيذ جرائمها وكيف يتم تبريرها داخليًا في إسرائيل.
هناك عدد كبير من الشهادات التي نشرت في إسرائيل والتي تشير بوضوح إلى أن عدد الضحايا الضخم من المدنيين الفلسطينيين هو في الواقع جزء لا يتجزأ من أهداف الحرب الإسرائيلية، وليس أثرًا جانبيًا مؤسفًا كما تدعي.
لقد قتلت إسرائيل ما بين ألف إلى 3 آلاف “ناشط”، وبالنظر إلى عدد الضحايا الفلسطينيين، فإنه حتى وفق التقديرات الإسرائيلية، فإن 85% ممن قتلتهم على الأقل هم مدنيون!
في هجوم مايو 2021، اعترف المسؤولون العسكريون الإسرائيليون للمرة الأولى بوجود جهاز كمبيوتر كان يزودهم بأهداف محتملة تتجاوز القيود التي فرضتها التقييمات البشرية للضحايا المحتملين،
وفي ضوء المعايير الجديدة حول من وماذا يمكن مهاجمته، فإن نظام الذكاء الاصطناعي، المسمى “الإنجيل”، يولد قوائم بالأهداف بسرعة كبيرة لا يستطيع الجيش مواكبتها.
المدخلات إلى النظام أصبحت واسعة النطاق اليوم، وذلك إلى الحد الذي قد تسمح فيه بتفجير المباني السكنية الشاهقة دون سابق إنذار، طالما أن هناك اشتباهاً بوجود شخص واحد فقط على صلة بحماس مثلاً!
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن حماس ليست جناحاً عسكرياً فقط، بل تدير حكومة القطاع، هنا تتوسع دائرة الأهداف وفقاً لتوسع المدخلات لتشمل موظفي الخدمة المدنية والشرطة والعاملين في مجال الصحة والمعلمين والصحفيين وعمال الإغاثة، وهذا ما يفسر العدد الهائل في الخسائر البشرية والمباني المدمرة.
غريزة البقاء
هذه الحقيقة تفند بوضوح ادعاءات السياسيين الغربيين، مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، بأن إسرائيل تدافع عن نفسها وتحاول تجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين.
في تقرير لها، أكدت صحيفة الغارديان اعتماد إسرائيل على نظام الحوسبة “الإنجيل”، حيث نقلت الصحيفة عن مسؤول سابق في البيت الأبيض ومطلع على تطوير البنتاغون للأنظمة الهجومية المستقلة قوله، أن حرب الذكاء الاصطناعي التي شنتها إسرائيل على غزة كانت “لحظة مهمة تراقبها الدول الأخرى حتى تتعلم”.
ربما يكون أهم ما كشف عنه مسؤولون إسرائيليون حاليون وسابقون بحديثهم إلى مجلتي 972 و Local Call الإسرائيلية، هو حقيقة مفادها أن إسرائيل تدرك أن آلاف الضربات الجوية التي تشنها على المناطق السكنية في غزة لها تأثير ضئيل على الجناح المسلح لحركة حماس، الأمر الذي يتناقض مع التصريحات العلنية بأن إسرائيل تسعى للقضاء على الجماعة.
لقد قتلت إسرائيل ما بين ألف إلى 3 آلاف “ناشط”، وبالنظر إلى عدد الضحايا الفلسطينيين، فإنه حتى وفق التقديرات الإسرائيلية، فإن 85% ممن قتلتهم على الأقل هم مدنيون!
ظلت إسرائيل لفترة طويلة تتبع ما تسميه مبدأ “الضاحية” أو “جز العشب” في سياستها العسكرية ضد غزة، أما هذه المرة فقد غيرت التركيز نحو إراقة المزيد من الدماء بين المدنيين.
“إلحاق الضرر بالمدنيين هو الهدف الحقيقي لهذه الهجمات، فكل شيء متعمد، نحن نعرف بالضبط حجم الأضرار الجانبية الموجودة في كل منزل” – شهادة ضابط إسرائيلي لمجلة 972
ويقوم مبدأ “الضاحية”، الذي سمي بذلك نسبة إلى الضاحية الجنوبية في بيروت والتي دمرها الجيش الإسرائيلي في حربه على لبنان عام 2006، على فرضيتين أساسيتين، أحدهما أن تدمير منطقة العدو سيجبر السكان على التركيز على أساسيات البقاء بدلاً من المقاومة مما يدفعهم لاحقاً للثورة على حكامهم.
مبدأ “الضاحية” يعني تدمير البنية التحتية، ولكن إسرائيل طالما ادعت رسميًا على الأقل للتفلت من قيود القانون الدولي، أنها تصدر تحذيرات مسبقة قبل القصف، وأنه كان من المفترض أن يمنح ذلك المدنيين في المنطقة المستهدفة وقتًا للإخلاء، ولكن فترة الإخطار هذه قد انتهت.
“ليس على شكل أهداف محددة”
في إشارة إلى آثار السياسة الإسرائيلية الجديدة في غزة، أوضح أحدهم لـ 972 بقوله “لقد ارتفعت الأعداد من عشرات القتلى المدنيين كأضرار جانبية إلى مئات القتلى المدنيين كأضرار جانبية”، وأضاف مسؤول سابق في الاستخبارات العسكرية أن هذه السياسة تهدف إلى جعل معظم البنية التحتية في غزة أهدافاً مشروعة، معللاً ذلك بأن “حماس موجودة في كل مكان في غزة، فلا يوجد مبنى لا يحوي شيئاً لحماس، لذلك إذا كنت تريد إيجاد طريقة لتحويل مبنى شاهق إلى هدف، فمن السهل القيام بذلك”.
ووفقاً لنفس التحقيقات، لم تتمكن إسرائيل من تحديد أهداف رئيسية لأن الجناح المسلح لحركة حماس موجود تحت الأرض، فبدلاً من ذلك، ركزت على ما تسميه “أهداف القوة” أو الأهداف الرمزية، مثل المباني الشاهقة والأبراج السكنية في المناطق الحضرية، فضلاً عن المباني العامة مثل الجامعات والبنوك والمكاتب الحكومية والمستشفيات والمؤسسات العسكرية والجوامع.
ووفقاً لتقرير 972، فإن المسؤولين الإسرائيليين السابقين الذين تحدثوا إلى المجلة قالوها “بعضهم صراحةً وبعضهم ضمنياً بأن إلحاق الضرر بالمدنيين هو الهدف الحقيقي لهذه الهجمات”، فيما نقل التقرير عن مصدر آخر قوله “كل شيء متعمد، نحن نعرف بالضبط حجم الأضرار الجانبية الموجودة في كل منزل”.
علاوة على ذلك، فقد أجمعت 5 مصادر مختلفة تحدثت إلى مجلة 972، على أن إسرائيل جمعت ملفات عن عشرات الآلاف من المنازل والشقق الخاصة في غزة، واعتبرت المنازل وكل من يعيش فيها هدفاً مشروعاً بمجرد دخول شخص مرتبط بحماس إلى المبنى.
الهدف هو تجميع معظم سكان غزة في منطقة رفح، وهناك يتم الضغط عليهم مقابل الحدود القصيرة مع مصر، فلدى إسرائيل خطة تطهير عرقي طويلة الأمد، تسعى إلى الضغط على القاهرة لإعادة إسكان سكان غزة في سيناء
من جهته، فقد قال مسؤول عسكري كان مشرفاً في السابق على الهجمات السابقة على غزة، أن إسرائيل بمجرد زعمها أن طابقاً واحداً في مبنى شاهق كان فيه مكتب للمتحدث باسم حماس أو الجهاد الإسلامي سبب كافٍ لتبرير تسوية المبنى بالأرض، يقول “لقد فهمت أن الكلمة هي ذريعة تسمح للجيش بإحداث الكثير من الدمار في غزة”.
وأضاف المسؤول بأنه لو أدرك العالم حقيقة ما تفعله إسرائيل، فإن “هذا في حد ذاته سيُنظر إليه على أنه إرهاب”، كما ذكر آخر في شهادته أن هدف إسرائيل هو إلحاق أكبر قدر من الضرر بدلاً من ضرب الجزء المرتبط بحماس من المبنى، فهو يرى أن “خلاصة القول هي أنه كان في نيتهم أصلاً هدم المبنى بالكامل”.
هذا ما أوضحه مسؤولون إسرائيليون كهدف فعلاً خلال الأسابيع القليلة الماضية، ففي حديث للصحفيين العسكريين، أشار قائد القوات الجوية الإسرائيلية، عمير تيشلر، إلى أن “أحياء بأكملها تعرضت للهجوم على نطاق واسع وليس على شكل أهداف محددة”، وأضاف بأن الهدف في نهاية المطاف هو “منح مواطني غزة الشعور بأن حماس ليست مسيطرة على الوضع”.
حرب مقدسة
في الهجمات السابقة على غزة، كانت إسرائيل تتبنى استراتيجية أدت إلى تدمير البنية التحتية بشكل متعمد وقتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين، ولكن وفقًا لمصادر مجلتي 972 و Local Call، فلم تعد تلك القيود موجودة الآن، مما أدى إلى زيادة التداعيات على المدنيين في هذه الحرب.
أكد قائد القوات الجوية الإسرائيلية، عمير تيشلر، في شهادته بأن إسرائيل لم تعد توجه ضربة تحذيرية بقذيفة صغيرة قبل قصف المبنى في غالبية الحالات، كما كشفت الشهادات عن الخطر الذي شكله نظام الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف “الإنجيل” على المدنيين الفلسطينيين.
ولو توقفنا عند الاسم “الإنجيل”، فسنجد أن الاسم بحد ذاته تأكيد على التأثيرات الخطيرة للأصولية الدينية التي تلعب دورها الآن في الجيش الإسرائيلي، باعتبارها حرباً مقدسة ضد الفلسطينيين.
استمرار إسرائيل في تدمير غزة على مرأى ومسمع العالم دليل على أن النخب الغربية متواطئة بالكامل في طرد إسرائيل للفلسطينيين من غزة، وأنها تغض الطرف طوعاً عن الإبادة الجماعية ضد القطاع اليوم
كما تبنى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يُنظر إليه تقليدياً على أنه شخصية علمانية، لغة اليمين الاستيطاني المتطرف عندما وصف الهجوم الإسرائيلي على غزة بأنه حرب ضد “العماليق” وهم سكان فلسطين الأصليون، ويعتبرهم الإسرائيليون عدواً توراتياً.
في شهادته، أشار ضابط مخابرات سابق لـ 972 إلى أن القسم الإداري للأهداف التي يديرها “الإنجيل” قد تحولت إلى “مصنع اغتيالات جماعية”، حيث تم إدراج عشرات الآلاف من الأشخاص على أنهم “ناشطون صغار في حماس”، وبالتالي تم التعامل معهم كأهداف، مؤكداً أن “التركيز ينصب على كمية الأهداف وليس على نوعيتها”.
خطة الإبادة الجماعية
تنبع أهمية هذه الشهادات في أنها تكشف عن “أهداف الحرب” الإسرائيلية، ففي السابق، تم استخدام الحصار والهجمات الإسرائيلية المتقطعة على أساس عقيدة الضاحية كأدوات لإدارة القطاع، وكان الهدف هو استنزاف حماس بالأدوار الإدارية بدلاً من المقاومة المسلحة.
هذه المرة، يبدو أن هدف إسرائيل أوسع بكثير، فوفقاً لتقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز، فإن إسرائيل لا تزال في المراحل الأولى من حملة قد تستمر لمدة عام، يقول أحد المسؤولين في شهادته، “ستكون هذه حرباً طويلة جداً، فلسنا قريبين حالياً من تحقيق أهدافنا”.
الهدف هو تجميع معظم سكان غزة في منطقة رفح، وهناك يتم الضغط عليهم مقابل الحدود القصيرة مع مصر، فلدى إسرائيل خطة تطهير عرقي طويلة الأمد، تسعى إلى الضغط على القاهرة لإعادة إسكان سكان غزة في سيناء.
تقليل عدد السكان
وفقاً لصحيفة “يسرائيل هيوم” الإسرائيلية، فقد عُرض على المسؤولين في واشنطن مخطط تقدم فيه الولايات المتحدة المساعدات للدول المجاورة الأخرى بشرط قبولها للاجئين من غزة، وبالتالي رفع بعض العبء عن مصر.
ويوضح ، رون ديرمر، أحد كبار الوزراء في حكومة نتنياهو، أن الحملة تهدف إلى “تقليص عدد السكان في غزة إلى أدنى حد ممكن” من خلال عمليات الطرد باعتبار ذلك “هدفاً استراتيجياً” لنتنياهو، فكما قبل العالم ملايين اللاجئين النازحين من العراق وسوريا وأوكرانيا، لماذا يجب أن تكون غزة مختلفة؟
إن تدمير غزة وجعلها غير صالحة للسكن، يتوافق تماماً مع أهداف قادة إسرائيل المعلنة المتمثلة في معاملة الفلسطينيين باعتبارهم “حيوانات بشرية”، واستمرار إسرائيل في تدميرها على مرأى ومسمع العالم دليل على أن النخب الغربية متواطئة بالكامل في طرد إسرائيل للفلسطينيين من غزة، وأنها تغض الطرف طوعاً عن الإبادة الجماعية ضد القطاع اليوم.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)