بقلم أمير مخول
ترجمة وتحرير مريم الحمد
مثل آلاف الفلسطينيين، كنت محتجزاً في سجن إسرائيلي لما يقرب من عقد من الزمن في محنة بدأت في 6 مايو 2010، بعد أن اقتحمت الشرطة الإسرائيلية منزلي قبيل الفجر بعد أن قفزوا من فوق السياج وكسروا الباب الأمامي عملياً، بمجرد دخولهم فصلوني عن زوجتي وابنتي، أحاطني عناصر الأمن الذين كان بعضهم ملثماً، ومنذ تلك اللحظة أصبحت أسيراً في منزلي!
خاطبني أحد ضباط الشاباك ساخراً “لقد أخبرتك قبل أشهر عندما استدعيتك للاستجواب بأني سآتي قريباً وأخطفك من سريرك وأقوم باعتقالك وأنا مبتسم”، وقد كان، فقضاة المحكمة المركزية في حيفا نفذوا وعدهم الذي قطعوه للشاباك، لاحقاً، عندما تمت ترقية أحد القضاة إلى المحكمة العليا، سلطت وسائل الإعلام العبرية الحديث عن “إنجازاته” التي كنت من بينها!
تعذيب نفسي وجسدي
الأسابيع الثلاثة الأولى من الاعتقال كانت الأصعب، فلم يقتصر التعذيب الذي تعرضت له في غرفة التحقيق ندوباً جسدية فحسب، بل كان يهدف أيضاً إلى كسر معنوياتي، وهي مرحلة الاستجواب التي يسميها الشاباك “الفراغ”، وهي تقنية تعذيب تهدف إلى انتزاع أرواح السجناء من أجسادهم من خلال تعريضهم لآلام جسدية شديدة من أجل تدميرهم نفسياً.
لم أكن أرى النور إلا من فتحة المفتاح، لا معنى لليل والنهار تحت الأرض، فالعتمة رفيق الأسير الدائم!
كانت خلايا الاعتقال لدى الشاباك ضيقة للغاية بالنسبة لحجم جسدي، وكانت الجدران خشنة تملؤها النتوءات فيصعب الاتكاء عليها أو حتى لمسها، لقد ساهمت تلك الجدران والإضاءة الخافتة والرائحة الكريهة في تعذيبي نفسياً، كانت المرتبة فاسدة رقيقة ومسطحة على أرض الزنزانة الباردة بدون وسادة، كنت اضطر إلى إراحة رأسي على حذائي، أما الهواء، فقد كان مضبوطاً باستمرار على درجات حرارة منخفضة، كان الوقت الذي يأخذونني فيه للاستجواب مكبلاً معصوب العينين هو الوقت الوحيد الذي لا أرتعش فيه من البرد!
أما في غرفة الاستجواب، فقد تعرضت للشبح، وهي طريقة تعذيب تعرف في الغرب باسم “الكرسي الفلسطيني”، وذلك بعد أن استخدمتها قوات الاحتلال الأمريكية ضد المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب، كنت أُجبر على الجلوس على كرسي صغير للأطفال، مثبت على أرضية الغرفة مقابل المحقق بعد تقييد يدي وقدمي فلا أتمكن من الحركة أبداً.
عندما اعتقلوني كنت أرتدي سترة جلدية، ولكنهم أخذوها مني على باب الزنزانة، لأنهم كانوا يرون أنه لا ينبغي للأسير أن يلبس ما هو أفضل منهم، وبدون سترتي، كان هواء المكيف المتجمد الذي يستخدمونه فوق رأسي وظهري تعذيباً يحيل جسدي إلى حالة خدر، فأنهار من شدة الألم.
الوقت لا معنى له في زنزانات الاستجواب، لا يوجد ضوء شمس أو ظلام، لا نوافذ ولا مفتاح للبوابة المعدنية الثقيلة، لم أكن أرى النور إلا من فتحة المفتاح، لا معنى لليل والنهار تحت الأرض، فالعتمة رفيق الأسير الدائم!
لا “زبائن” مسيحيين
ذات يوم، طلبت من السجان قراءة كتاب، فلم يسمح إلا بالكتب المقدسة بحسب قانون السجن كما ادعى، ولم يكن هناك إلا نسخة من القرآن، فطلبتها على الفور، أدار ظهره ليحضر المصحف، لكنه عاد لي متسائلاً بدهشة “أنت لست مسلماً فلا يجوز لك الحصول على القرآن”، وعندما أعدت طلبي بنسخة من الإنجيل قال “لا توجد نسخ من الإنجيل، ليس لدينا زبائن مسيحيون”.
لماذا أصر على ذكر المسيحيين؟ أعرف أن لا شيء يحدث صدفة عند الشاباك فالمحققون مدربون على إضعاف من يسمونه “زبوناً”، بالتشديد على أنك وحيد ولا أحد معك وأنك غريب عن الأسرى الآخرين لأنك مسيحي
بعد 22 يوماً، تم نقلي إلى سجن جربوع، وهو سجن شديد الحراسة قرب مدينة بيسان شمال فلسطين المحتلة، فور وصولي أخذوني إلى استجواب فوري مع ضابط المخابرات، ثم أعطوني بدلة السجن التي لم تكن في مقاسي، ووضعت في القسم 1، الذي كان يحتوي على أسرى القدس ومناطق 48، فاندفع الأسرى للترحيب بي واحتضاني.
الانتقال من زنازين الشاباك الانفرادية إلى سجن عام مثل جلبوع كان أشبه بالعودة إلى المنزل بالنسبة لي، فقد بدأت مع زملائي الأسرى أشعر بالحاجة لخلق معنىً لحياتي الفردية والجماعية، ففي إحدى المرات، كنت في زنزانة رقم 9 التي كان يشرف عليها الأسير المحرر ماهر يونس، الذي أطلق سراحه مؤخراً بعد 40 عاماً، وتطوعت لإعداد طبق العدس والأرز الذي كنت أجيده، بعد متعتي في الطبخ، أدركت أنني تسببت بأزمة غذائية لأنني استهلكت بصل الأسبوع في وجبة واحدة!
مرت الأيام، ولكن كلمات الشاباك ما زالت تطاردني، ماذا عنى بقوله “ليس لدينا زبائن مسيحيون؟”، لماذا أصر على ذكر المسيحيين، أعرف أن لا شيء يحدث صدفة عند الشاباك الإسرائيلي، فالمحققون مدربون على إضعاف من يسمونه “زبوناً”، بالتشديد على أنك وحيد ولا أحد معك وأنك غريب عن الأسرى الآخرين لأنك مسيحي.
أعياد حبيسة
خلال الأعياد والإجازات، يحتفل الأسرى في الساحة المحاطة بجدران عالية، يتوسطها علم إسرائيل وسقف مبني من قضبان حديدية تقطع السماء إلى مربعات صغيرة، حيث يتم الاحتفال بأعياد المسلمين من فطر وأضحى بشكل جماعي في استعدادات من التنظيف وصنع الكعك قبل أيام، بالإضافة إلى قيام أحدهم بدور الحلاق الذي يحلق رؤوس الجميع.
ولا يكاد يبدأ العيد في السادسة صباحاً حتى ينتهي في السابعة، بين صلاة وخطبة ومصافحة واحتضان وشراء المشروبات من الكانتين مع كعك العيد، ثم تبدأ الزيارات والوفود الفصائلية بين الزنازين.
زملائي فاجؤوني في أول عيد ميلاد لي في السجن بزيارتي في زنزانتي حاملين التحية والهدايا
هو عيد المسلمين ولكني كنت أشارك بكل حدث فيه، حتى أني أذكر أن أحد الأسرى ويدعى نادر كان من طائفة السامرية اليهودية من نابلس، وكان يقضي عقوبة السجن المؤبد لمشاركته في الانتفاضة الأولى، كان يشارك أيضاً.
في عيد الميلاد، لم يكن يحتفل أحد سواي، ذات يوم كتبت إلى عائلتي “قبل السجن كنت أتمنى أن تستمر الإجازة لأيام، لكنني هنا أتمنى أن تمر بسرعة الضوء”، فبدلاً من أن يكون العيد وقت سعادة يملأني الحزن، فقد كنت المسيحي الوحيد في السجن، ولم يكن للعيد معنىً بدون زوجتي وبناتي، ولكني كنت أعود وأتذكر رسالة الشاباك حول “انعدام الزبائن المسيحيين”، فأهب لأحتفل بعيد الميلاد!
أنا في الأصل من قرية البقيع في الجليل الغربي، وهي قرية يعود تاريخها لآلاف السنين، معظم سكانها من الدروز وفيها عدد من المسيحيين والمسلمين وحتى اليهود العرب، ولذلك اعتاد أهل القرية على الاحتفال بجميع الأعياد معاً وزيارة بعضهم، في صورة تعبر عن عمق الألفة والتعايش في النسيج الفلسطيني.
لقد حُرمت في السجن من ممارسة طقوس عيد الميلاد، ومن ارتداء ملابس العيد الخاصة، إلا أن زملائي فاجؤوني في أول عيد ميلاد لي في السجن بزيارتي في زنزانتي حاملين التحية والهدايا، فقد كانوا يشترون لي من الكانتين شيئاً مع بطاقة معايدة صممها أحد الأسرى، ثم يشعلون الراديو على وقع الأغاني الوطنية والعربية، لقد جاؤوا ليحتفلوا معي، حتى أني أذكر أن أحد الأسرى كان يملك شمعتين مهربتين من 12 عاماً، فأشعلها لي دقيقة ثم أطفأها لمناسبة جديدة قادمة!
“كلنا فلسطينيون”
عام 2017، قامت مصلحة السجون الإسرائيلية بتفكيك ما أسموه “قسم عرب القدس وفلسطينيي 48″، فتم نقلي إلى قسم نابلس، ولعل القارئ يسأل ما سر التسميات والتوزيع؟!
على مدى 5 عقود، ظل الأسرى يحتجزون دون تصنيفات جغرافية، ولكن بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، تم فصل أسرى القدس وفلسطينيي 48 إلى قسم خاص، وبعد بناء جدار الفصل العنصري في الضفة، سعى الاحتلال إلى خلق هويات فلسطينية محلية وإقليمية على حساب الهوية الفلسطينية الموحدة، فهناك جيل بأكمله ترعرع بعد بناء الجدار، لا يعرف إلا أفق الجدار الضيق.
هذا الواقع انتقل إلى السجون أيضاً، بدأت مصلحة السجون بفصل معتقلي فتح ومنظمة التحرير عن معتقلي حماس، ثم قسمت السجن إلى دوائر حسب المناطق، وبعد تفكيك القسم الذي كنت فيه حسب تصنيفي الجغرافي، أخذوني إلى قسم نابلس، حيث رحب بي الزملاء، وبدأت بالاندماج بينهم، ووجدت من يدرس منهم خلف القضبان، قدمت المساعدة للأسرى فيما يتعلق برسائلهم أو شكاويهم خاصة أنني كنت أتقن اللغة العبرية وأعرف النظام القضائي الإسرائيلي.
لم أكن أحب الإشارة لي من خلال هويتي الدينية، فنحن جميعاً فلسطينيون، ومع ذلك، فقد حول زملائي في القسم هذه الهوية بطريقة إيجابية، فمرة سألني أحد الأسرى عن عاداتنا وفيم نتشابه مع الفلسطينيين المسلمين، فكانت فرصة لي وله لتجديد الحديث عن التعايش والقواسم المشتركة، كما أن الأسرى كانوا ينادونني “أبو هند” أو الحاج أمير، حتى لفت الأسير صلاح البخاري نظرهم إلى أنني مسيحي، فصاروا ينادونني “الآب” كما في التقليد الكنسي، موقف لا زلت أذكره بمرح حين أتواصل مع صلاح اليوم عبر هاتفه المهرب من داخل قسم نابلس في سجن جلبوع الاسرائيلي.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)