بقلم نيلوسري بسواس
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في منطقة أوبورن وسط دلهي القديمة في الهند، يتشكل مشهد رائع لغروب الشمس خلف قبة الجامع والقصور المغولية الموجودة في تلك المنطقة، وعلى الأرض يتردد صدى أصوات عربات التوكتوك وأسواق شوارع تشاندني تشوك ذات الممرات المتعرجة.
غروب الشمس يعني ابتداء الحياة في المنطقة، أو بداية ساعات العمل في الحي القديم، ويعود ذلك التقليد إلى حكم الإمبراطور المغولي شاه جيهان، حين كانت المنطقة تشكل جيباً داخل مدينة شاه جيهان أباد المحاطة بأسوار شاهقة، تعود إلى القرن السابع عشر وتحديداً في عام 1648.
بمنعها تماما .تبع ذلك إضرابات ضد هذا القرار و سرعان ما تم رفع حظر القهوة .
انتشار القهوة في الهند:
تحكي اسطورة مشهورة انه في عام 1670م ذهب القديس الصوفي الهندي بابا بودان في رحلة حج إلى مكة المكرمة. قام برحلته من المخا ، وهي مدينة ساحلية في اليمن تطل على البحر الأحمر.— القهوة عشق لا ينتهي (@oQSVayG5wWBVmlh) April 17, 2021
قبل وصول البريطانيين، فقد كانت القهوة هي مشروب الهنود المفضل!
بالإضافة إلى الأصوات المختلفة، ينجذب المار بالمنطقة بروائح الطعام من مأكولات تكملها رائحة الشاي ماسالا، النسخة الهندية من الشاي، فأكشاك الشاي تنتشر كأنها خلايا نحل مزدحمة، يتوافد عليها أهالي دلهي في انتظار جرعتهم اليومية من شاي المساء.
ويعد الشاي بمثابة مشروب وطني في الهند، تعود شعبيته في شبه القارة الهندية إلى ما يقارب قرنين من الزمن، نتيجة الاستعمار البريطاني للمنطقة، أما قبل وصول البريطانيين، فقد كانت القهوة هي مشروب الهنود المفضل!
التجار والمتصوفون
يقال أن القهوة أول ما أُحضرت كان من القرن الإفريقي إلى اليمن خلال القرن الخامس عشر، ثم انتشرت شمالاً بعد ذلك إلى الشرق الأدنى ومنها إلى أوروبا مع حلول القرن السادس عشر.
عندما انتشر مشروب القهوة في الشرق، سارعت النخبة المغولية في الهند إلى اعتماده كمشروب مفضل، خاصة بين طبقة النبلاء من الهندوس والمسلمين خلال العهد المغولي، وكانوا يعتقدون أنها “تنشط الروح وتساعد على الهضم وتنقية الدم”.
وصلت حبوب البن إلى شبه القارة الهندية عن طريق التجار العرب والأتراك، مع أشياء أخرى مثل الحرير والتبغ والتوابل والقطن والأحجار الكريمة، من بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبلاد فارس وتركيا، وصولاً إلى أقصى أركان الهند حتى المنطقة الشرقية من البنغال، وسرعان ما انتشر الاهتمام بالقهوة في المجتمع الهندي ما بين (1628-1658).
كانت القهوة تعتبر مشروباً صحياً، ارتبط بالحراك الاجتماعي في المجتمع حتى بات جزءاً مهماً من حياة النخبة الاجتماعية في دلهي، وقد وصف ذلك الرحالة الألماني، يوهان دي ماندلسلو، في مذكراته بعنوان “الرحلات والسفر” خلال رحلته إلى الشرق والهند، حين تحدث عن شرب القهوة في تلك المناطق “لمواجهة الحرارة والحفاظ على البرودة”.
في وصف القهوة :
"أنا المحبوبة السمرا وأجلى بـالفناجين
وعودُ الهند لي عِطرٌ وذكري شاع في الصين ِ"
سيدو 💕 pic.twitter.com/xH9UxLkCBU— لين القدومية (@leenqadoumi) November 8, 2019
وصف المؤرخ ستيفن بليك المقاهي على أنها “أماكن يتجمع فيها الشعراء ورواة القصص والخطباء وكل من يبحث عن انتعاش لروحه”
أما الطبيب الفرنسي، فرانسوا برنييه، فقد أشار إلى كمية القهوة الكبيرة المستوردة من تركيا، وإلى استخدامه في الأوساط الاجتماعية ولأغراض دينية أحياناً في شبه القارة الهندية، فقد تناول الصوفيون في الهند، مثل نظرائهم في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، القهوة قبل طقوسهم الليلية التي تُعرف بليلة ذكر وقيام.
ثقافة استهلاكية
منذ القرن السادس عشر، لأخذت مقاهي القهوة بالانتشار في الهند كثقافة ناشئة في الإمبراطوريات الإسلامية، لا سيما مثل دمشق وحلب والقاهرة واسطنبول، وفي الهند في منطقة شاه جيهان أباد، فمقهى “سراي”، الذي تم إنشاؤه في عهد الإمبراطور المغولي همايون عام 1560، لا يزال قائماً كأحد مواقع التراث في قائمة اليونسكو، والذي استخدم كنزل خلال رحلات الحج، ولإيواء الحرفيين القادمين من الشرق الأوسط للعمل لدى الإمبراطورية المغولية.
بعد زيارته للهند، وصف المؤرخ ستيفن بليك المقاهي على أنها “أماكن يتجمع فيها الشعراء ورواة القصص والخطباء وكل من يبحث عن انتعاش لروحه”، وكيف أنها كانت نابضة بالحياة، وبيئة للمناظرات والجلسات الشعرية، ورواية القصص والمناقشات، وساعات طويلة من ألعاب الطاولة، وكيف أثرت هذه الأنشطة على الحياة الثقافية.
سيطرت شركة الهند الشرقية على المنطقة، مما أدى إلى اختفاء القهوة شيئاً فشيئاً!
ساهمت مقاهي شاه جيهان أباد، كغيرها من مقاهي اسطنبول وأصفهان، في صعود ثقافة الاستهلاك وثقافة الطعام، حيث أصبح السكان يترددون على بائعي الوجبات الخفيفة أو صناع الحلويات، وهو إرث لا يزال محسوساً حتى اليوم في منطقة شاه جيهان أباد.
عاشق القهوة البنغالي
سعت المقاطعات الأخرى إلى استنساخ ثقافة المقاهي من نموذج شاه جيهان أباد، ولم يكن أحد يعشق القهوة أكثر من أليفاردي خان، والي البنغال ذو الأصل العربي التركماني الذي حكم بين 1740-1756، فقد كانت القهوة والطعام اكبر ملذات حياته!
وفي روتينه اليومي، كتب بعض المؤرخين بأنه “كان دائماً ما يقوم قبل النهار بساعتين، يتوضأ ويصلي حتى إذا ما فرغ من صلاة الفجر احتسى القهوة مع بعض أصدقائه”، كما كان متذوقاً للطعام والقهوة التركية الفاخرة، فقد كان يبحث عن أفضل حبوب البن، ويستوردها من الإمبراطورية العثمانية، كما قام باختيار صانع قهوة شخصي له، بالإضافة إلى إحضار معدات خاصة من أجل إعداد القهوة.
ظلت ثقافة القهوة المغولية في تصاعد حتى عام 1757، حين بدأت بالتراجع بعد ذلك، حيث يُعتقد أن سراج الدولة، حفيد خان، لم يتمكن من الحفاظ على إرث جده، وواجه تهديدات من البريطانيين حتى تلاشت الثقافة من البلاط الإمبراطوري مثلها مثل ثروات البنغال الأخرى مع دخول حقبة الاستعمار البريطاني، وسيطرة شركة الهند الشرقية على المنطقة، مما أدى إلى اختفاء القهوة شيئاً فشيئاً!
هيمنة زراعة الشاي
أصبحت شركة الهند الشرقية الوكيل الرئيسي للسيطرة البريطانية في الهند، وبذلك انتهت ثقافة البن التي كانت تهيمن على شبه القارة الهندية، فقد بدأ الولع البريطاني بالشاي ينتشر في أواخر القرن السابع عشر مع استيراده من الصين كمورد أساسي، فقد أشار المؤرخون إلى أن واردات الشاي من الصين بلغت أكثر من 72 مليون جنيه استرليني ما بين (1811-1819)، ولذلك كانت بريطانيا مهتمة في إيجاد مصدر بديل للشاي.
أهم ما ميز تلك المقاهي عن حقبة الاستعمار أنها كانت متاحة لكل الناس دون تمييز عرقي
كانت الهند، المكان المثالي للمنتج البريطاني، بسبب خصوبة تربتها وظروفها الجوية المناسبة، ففي فبراير عام 1834، قام الحاكم البريطاني العام آنذاك، ويليام بنتيك، بتعيين لجنة للنظر في إمكانية جعل الهند مكاناً مناسباً لإنتاج الشاي من أجل شركة الهند الشرقية، وفي استخدام السكان الهنود المحليين كعمال للزراعة والحصاد ومستهلكين للمنتج الجديد.
هكذا طغت زراعة الشاي على إنتاج القهوة، وعليه تحولت الاذواق الهندية إلى الشاي أيضاً، كما قام الاستعمار البريطاني بحظر المقاهي على الهنود، واقتصارها على الأوروبيين!
بدأت ثقافة القهوة باستعادة عافيتها مرة أخرى مع نهاية القرن التاسع عشر، تأثراً باتجاهات عالمية، غلبت التأثير البريطاني، وبدأ الأمر في مدينة كولكاتا التي تم افتتاح أول مقهى فيها بإدارة هندية خالصة عام 1876، ويُدعى Indian Coffee House، وبحلول النصف الأول من القرن العشرين، كان هناك حوالي 400 مقهى تديرها تعاونيات العمال الهنود، وتقدم قهوة ذات أصل هندي فقط.
أهم ما ميز تلك المقاهي عن حقبة الاستعمار أنها كانت متاحة لكل الناس دون تمييز عرقي، وأخذت بالنمو بتسارع في مدن هندية مختلفة، ومع دخول الألفية الثانية، دخل ستاربكس إلى السوق الهندي وغير من قواعد مشروب القهوة التقليدي إلى الأبد!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)