بقلم عبد أبو شحادة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
مع استمرار حالة المراوحة في صفقة الرهائن بين الاحتلال وحماس بين النجاح والفشل، بلغت التوترات داخل الصهيونية إلى مستويات غير مسبوقة حيث أصبحت قضية الأسرى الإسرائيليين مسألة سياسية إلى حد بالغ داخل مجتمع الاحتلال.
وهذه المرة، لم تقتصر دوائر الخلاف على أركان القيادة السياسية فحسب، حيث عبر زعماء اليمين علناً عن استعدادهم للتضحية بالأسرى من أجل تحقيق مكاسب عسكرية، بل إن عائلات الأسرى أنفسهم لم يصلوا بعد مرحلة الإجماع على أولوية موحدة.
وفي مناسبات متعددة، تعرضت هذه العوائل للهجوم من قبل الجمهور، وفي حين أن الانقسامات السياسية والاجتماعية كانت موجودة أساساً ومنذ فترة طويلة داخل المشروع الصهيوني، فإن الأزمة هذه المرة أعمق، مما يدفع إلى إعادة تعريف الصهيونية نفسها.
تعكس هذه الانقسامات أزمة مجتمعية وأيديولوجية عميقة وتثير تساؤلات حول مستقبل الحكم في دولة الاحتلال، وخاصة في ضوء جهود الإصلاح القضائي المستمرة من جانب اليمين المتطرف، كما أن هذه الأزمة الوجودية تأتي في وقت تزعم فيه دولة الاحتلال أنها تعمل بفعالية على إعادة تشكيل الحقائق الإقليمية بما يشمل دفع حدودها إلى داخل لبنان على الرغم من الاتفاق المبرم مع حزب الله للانسحاب، والتعدي على جنوب سوريا إبان انهيار حكومة الأسد، وتعميق موطئ قدمها بشكل منهجي في غزة.
التضحية بالأسرى
تشير هذه الخطوات إلى اتباع استراتيجية توسعية أكثر شمولاً، وفي الوقت نفسه، فقد أصبحت أزمة الأسرى ثانوية، حيث أخذ خطاب التضحية بهم مقابل تعزيز المكاسب العسكرية يتحول إلى حقيقة مقبولة.
وفي الحقيقة، فإن فكرة التضحية بالأسرى من أجل الميزة العسكرية ليست بالطارئة على الإيديولوجية الصهيونية، فهي ترجع إلى “بروتوكول هانيبعل” سيئ السمعة، والذي سمح بقتل الجنود الأسرى بدلاً من التفاوض على إطلاق سراحهم.
واليوم، تتجلى هذه الروح في الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، حيث يتم التضحية باستمرار بـ “الأسرى الإسرائيليين المدنيين” الذين فشلت دولة الاحتلال في حمايتهم على الرغم من المفاوضات لإطلاق سراحهم.
وينبع هذا التحول من إعادة تعريف اليمين المسيحي للرموز الثقافية الإسرائيلية، وتبني روح إسبارطية حيث يتم تكييف المجتمع للحرب الدائمة، أي أن خطاب الاحتلال بات الآن يمجد الموت والتضحية والفتوحات العسكرية على حياة المدنيين.
وفي حين يدعم الإجماع الإسرائيلي على نطاق واسع الإبادة الجماعية في غزة، إلا أن الجمهور لم يدرك بعد التكاليف بعيدة المدى المترتبة على اتباع هذا المسار، ذلك أن الاستسلام للسياسات المدفوعة بالانتقام لا يؤدي إلى تفتيت المجتمع الإسرائيلي فحسب، بل وينطوي أيضًا على المخاطرة بعواقب دولية مدمرة، حيث يتفاعل العالم مع تصرفات إسرائيل غير المقيدة ضد السكان المدنيين.
وكان وزير الدفاع السابق ورئيس الأركان العسكرية، موشيه يعلون “بوجي”، وهو شخصية يمينية متشددة، صاحب أحد الأصوات القليلة التي حذرت من هذا المسار، حيث وصف الوضع الحالي بأنه لحظة “تدمير الهيكل الثالث” بالنسبة لإسرائيل.
يعترف يعلون بالتطهير العرقي الذي تمارسه دولته في شمال غزة، بالإضافة إلى أنه يسلط الضوء أيضًا على الكيفية التي تؤدي بها هذه السياسات إلى تآكل شرعية إسرائيل وتحويلها إلى دولة منبوذة.
الاشمئزاز العالمي
والآن، بدأ المجتمع الإسرائيلي بعد خمسة عشر شهرًا من هذه الحرب يدرك الثمن الذي يجب أن يدفعه، فبعيداً بعيدًا عن المخاطر التي تهدد حياة الأسرى، يواجه الإسرائيليون الآن مستوى معيشة متدهورًا، وتدابير تقشف اقتصادي شاملة في ميزانية 2025، ومقاطعات دولية واشمئزاز عالمي من المجتمع الإسرائيلي.
لقد تلاشت النشوة التي ارتبطت ذات يوم بالغزو الإقليمي، فالحملات العسكرية المتوسعة الآن لا تنبئ إلا بسنوات من الصراع الإضافي والتكاليف المتزايدة التي تضغط على حياة الإسرائيليين، وخاصة مع كشف التقارير عن الضريبة النفسية التي تفرضها الحرب على الجنود الإسرائيليين، الذين يعيدون العنف إلى منازلهم.
وقد وجد تقرير حديث صادر عن المنظمة الصهيونية الدولية النسائية (ويزو) أن حالات العنف المنزلي ارتفعت بنسبة 65% في الأشهر الستة الأولى من الحرب، كما أن الفجوات بين قيادة هذه الدولة وجمهورها تجاوزت الحالة السياسية إلى الكشف عن شروخ أساسية داخل الصهيونية نفسها.
لقد وعدت الصهيونية ذات يوم بالأمن والرخاء الاقتصادي والوحدة اليهودية، لكن الجنوح نحو سياسات اليمين أدت اليوم إلى خلق انقسام لا يمكن جسره بين ما تعد به الصهيونية وما تقدمه، حيث تم استبدال النخب الصهيونية العلمانية التي قادت إسرائيل ذات يوم عبر التعقيدات الإقليمية بقادة غير مجهزين لمثل هذه المهام، وعليه فقد بات شعار “النصر الكامل” يوضح هذا التباعد.
وعبر التاريخ، تميزت انتصارات الاحتلال بالنجاح العسكري الذي يتبعه إبرام اتفاقيات سلام مع الدول العربية، مثل اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر أو اتفاقيات إبراهيم، غير أن التعريف الجديد للنصر، المتجذر في حروب الاستنزاف المطولة والتنمر الإقليمي، يقوض التحالفات السياسية التي دعمت بقاء دولة الاحتلال.
الغطرسة الصهيونية
لقد أدى إخفاق الاحتلال يوم السابع من أكتوبر 2023 والهوس باستعادة “الردع” بأي ثمن إلى تمزيق المجتمع الإسرائيلي، مما دفع إلى هجرة غير مسبوقة منه.
فوفقا للمكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي، غادر 40600 إسرائيلي البلاد على المدى الطويل خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، بزيادة قدرها 59% عن نفس الفترة من العام السابق، والعديد من هؤلاء الذين هاجروا يمثلون العمود الفقري الاقتصادي والفكري لإسرائيل.
كما يحذر الخبير الاقتصادي الإسرائيلي دان بن ديفيد من أن خسارة ولو نسبة صغيرة من هذه التركيبة السكانية قد تشل الدولة.
واليوم، تمثل شخصيات مثل بن ديفيد ويعلون بقايا النخبة القديمة التي أدركت أهمية التوازن بين الحملات العسكرية والحفاظ على جودة الحياة والشرعية الدولية والعلاقات الغربية القوية، لكن هذا التوازن تآكل اليوم في بيئة عالمية غير مستقرة، وتفاقم بسبب الاضطرابات الإقليمية في لبنان وسوريا والعراق، ورئاسة دونالد ترامب المقبلة.
إن قضية الرهائن تعكس تحولاً أوسع نطاقاً داخل الصهيونية، وتكشف عن شروخها وتقدم فرصاً سياسية غير مسبوقة للفلسطينيين، ففي حين كانت النخب الصهيونية ذات يوم تخفي جرائمها بالبراعة الدبلوماسية، فإن القيادة اليوم تنضح بالغطرسة وعدم الاكتراث بمكانة إسرائيل الهشة، ويبقى السؤال: هل يستطيع الفلسطينيون استغلال هذه الغطرسة لصالحهم؟
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)