كيف عميت عيون أوروبا عن رؤية الفلسطينيين كضحايا أسوة بـالأوكرانيين؟!

بقلم إيلينا عون وجيرمي ديودن

منذ بداية عام 2023، يتصاعد الصراع في الأراضي الفلسطينية المحتلة باتجاه مزيد من العنف والتوتر، ضمن دائرة جديدة شكلت مفاجأة لعدد من المراقبين، لكن المدهش المستمر هو الموقف غير المتوازن للدول الغربية الذي يتزايد يوماً بعد يوم، خاصة الأوروبيون الذين عادة ما يصفون موقفهم بالتساوي بين طرفي الصراع على الأقل، عدم توازن يظهر في مواقف عديدة مؤخراً.

على الرغم من التشابه بين حالتي الصراع، إلا أن التحيزات المعرفية لدى الدبلوماسيين ووسائل الإعلام الأوروبية تدفع باتجاه تفسيرات متعارضة تقريباً بما يخص أوكرانيا وفلسطين

لعل أحد أحدث الأمثلة على عدم توازن الموقف الأوروبي تجاه الصراع في الأراضي الفلسطينية، تعليق الأوروبيين وردة الفعل والتصريحات على أحداث متقاربة، ففي 26 يناير 2023، أسفرت عملية عسكرية إسرائيلية عن مقتل 9 فلسطينيين في مخيم جنين، ولم يعلق أحد، في مساء اليوم التالي مباشرة، هاجم فلسطيني إسرائيليين يهوداً أثناء مغادرتهم كنيساً يهودياً وقتل 7 منهم.

جاء رد فعل الاتحاد الأوروبي سريعاً، خلال ساعات على الهجوم على الكنيس، على لسان ممثله السامي، الذي قال إن الاتحاد “مرعوب” من هذه “الهجمات الإرهابية المخيفة” وأدان بشدة “أعمال العنف والكراهية التي لا معنى لها”، وأشار في نهاية كلامه، بعد مرور أكثر من 48 ساعة، على أحداث مخيم جنين بقوله ” نأسف لعدد القتلى والجرحى الفلسطينيين خلال عملية نفذتها قوات الدفاع الإسرائيلية”، وفي الوقت الذي عبر فيه “أسفه” لمقتل الفلسطينيين، شدد على أن الاتحاد الأوروبي “يعترف تماماً بمخاوف إسرائيل الأمنية المشروعة، كما يتضح من الهجمات الإرهابية الأخيرة”!

ويعد هذا الرد نموذجياً إلى حد كبير لما تبدو عليه ردود أفعال الدبلوماسيين الأوروبيين ووسائل الإعلام الغربية الأكثر انتشاراً بما يخص الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ردود تظهر عمق النظرة “الاستشراقية” التي يتبناها الغرب فيما يتعلق بالصراعات في منطقة الشرق الأوسط، كما أشار إليها المفكر العربي إدوارد سعيد، وهنا يأتي التناقض الواضح، في الوقت الذي تحشد فيه تلك البلدان نفسها نحو المزيد من الوسائل لمساعدة شعب آخر، الاوكرانيون، في مواجهة العدوان العسكري الروسي.

ولا يهدف المقال هنا إلى التشكيك في شرعية النضال الأوكراني أو أهمية الدعم الممنوح لهذا البلد المحاصر، وإنما إلى التشكيك في المواقف الأوروبية تجاه الفلسطينيين، فمن وجهة نظر القانون الدولي، كلتا الحالتين في أوكرانيا وفلسطين تواجهان احتلالاً فعلياً واستخداماً غير قانوني للقوة العسكرية من قبل دولة تفرض سيطرتها على إقليم وسكان آخرين، فما هي التحيزات المعرفية والآراء التي تقود الدبلوماسية الأوروبية إلى تفسير الصراعين بشكل متناقض؟!

الحقائق على الأرض

لقد أصبح الأمر حقيقة موثقة اليوم، لم تتمكن عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية التي استمرت ثلاثة عقود منذ اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993، من إحراز أي تقدم نحو تقرير المصير، بل على العكس من ذلك، بات مبدأ “الأرض مقابل السلام” وهمياً أكثر من أي وقت مضى، فقد استمر الاستعمار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بالتوسع في انتهاك مباشر للقانون الدولي، ولا سيما اتفاقيات جنيف، حيث وصل عدد المستوطنات مطلع عام 2023 حوالي 200 مستوطنة غير شرعية، كما ارتفع عدد المستوطنين نصف مليون تقريباً منذ أوسلو، بحسب إحصاءات “حركة السلام الآن” الإسرائيلية.

من جانب آخر، فإن الفلسطينيين محاصرون في الضفة وغزة بسبب الجدار الإسرائيلي الفاصل، الذي يعتبر غير قانوني بموجب رأي استشاري لمحكمة العدل الدولية صدر عام 2004، لأنه يقسم المجتمعات ويتعدى على الأراضي التي من المفترض أن تظل فلسطينية.

التقدم التكنولوجي الإسرائيلي كذلك، زاد الطين بلة في حياة الفلسطينيين، التي أصبحت أصعب من أي وقت مضى، بسبب المراقبة والحبس والسيطرة الأمنية المشددة، فأصبح وصول الفلسطينيين إلى المياه والأرض وحركتهم بشكل عام محدودة ومحاصرة، وارتفعت وتيرة هدم المنازل والبنية التحتية الفلسطينية، لا سيما في القدس الشرقية.

يضاف إلى كل تلك المشاكل، عنف متزايد وتفلت كبير من جانب المستوطنين والقوات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين دون أي محاسبة أو مساءلة تُذكر، فهجوم المستوطنين الأخير على بلدة حوارة جنوبي نابلس في 26 فبراير، ما هي إلا انعكاس لحالة الفوضى والتفلت من العقاب.

بالمقابل، ظلت تتصاعد الأصوات التي تنادي بالالتفات إلى محنة الفلسطينيين في الغرب، وقامت عدة تقارير بتوثيق ممارسات إسرائيلية ترقى إلى جرائم فصل عنصري واضطهاد ضد الفلسطينيين، ففي أحد الامثلة، قامت لجنة مستقلة شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أكتوبر 2022، بالتحقيق في العنف متعدد الأوجه الذي يعاني منه الفلسطينيون، ودعت أعضاء الأمم المتحدة إلى الوفاء بالتزاماتهم ولكن دون أي جدوى حتى اللحظة.

“الذات” الإسرائيلية و”الآخر” الفلسطيني!

لا يمكن تفسير العمى الأوروبي عن محنة الفلسطينيين بسبب الاحتلال الإسرائيلي، إلا من خلال ميزان تقارب المصالح “العقلانية” للأوروبيين مع إسرائيل، مما يجعلهم أقرب لقبول الرواية الإسرائيلية دائماً، مصالح “عقلانية” تدفعهم إلى تجاهل الانتهاكات الإسرائيلية في غالب الأحيان.

إسرائيل ليست دولة متطورة ومندمجة في العولمة الاقتصادية والمالية فحسب، ولكنها متقدمة جداً خاصة في مجالات التكنولوجيا المتعلقة بالصناعات الدفاعية والمراقبة، وقد استفادت الدول الأوروبية من تجربتها في مكافحة الإرهاب في وقت كانت الهجمات تستهدف عدة دول أوروبية، كما عزز اكتشاف الغاز في شرق البحر المتوسط وقدرة إسرائيل على إثبات نفسها في مجال الاستجابة للطوارئ خلال أزمة كوفيد-19، من انضمام إسرائيل إلى نادي البلدان المتقدمة والثرية، وترغب دول عديدة في التعاون والتبادل التجاري معها.

الحقيقة أنه، بصرف النظر على تلك المصالح، إلا أن الدول الأوروبية لا تقرأ الوضع في فلسطين إلا من خلال الرواية الإسرائيلية التي تبرر ما تفعله القوات الإسرائيلية دوماً باعتباره نتيجة “للإرهاب الفلسطيني”، الأمر الذي يشكل مظلة لنوعية العنف الذي تبرره إسرائيل، وينبني عليه تجاهل من قبل الغرب للعنف اليومي المستمر والمميت، الأمر الذي يتيح لإسرائيل ممارسة الاحتلال والسيطرة على الأراضي الفلسطينية وحياة الفلسطينيين بمساحة مريحة!

في مقابل ذلك، هناك تأطير تلقائي دائم لأي استخدام للعنف من قبل فلسطينيين على أنه “عمل إرهابي”، فالواقع أن الإعلام الغربي لا يرى الطعن بالسكاكين أو الدهس أو إطلاق النار الفردي وسيلة الضعيف ضد القوي، بل يراه بربرية ضد التحضر الذي تمثله إسرائيل!

تحيز استشراقي!

في كتابه “الاستشراق”، قام أستاذ الأدب المقارن الفلسطيني، إدوارد سعيد، بتفكيك الرؤية حول الشرق، التي تبنتها القوى الاستعمارية وورثتها الدبلوماسية المعاصرة اليوم،  فقد ساهمت رؤية سعيد في ظهور نظرة نقدية في العلوم الاجتماعية “ما بعد الاستعمار”، التي تشير إلى جوانب استمرار الهيمنة الغربية بعد حقبة الاستعمار على بقية العالم، من خلال الخطابات والعلاقات التي أنتجها.

ساهم رد الفعل على الصراع في أوكرانيا  في كشف درجة تأثير التصورات الاستشراقية في بناء المعايير المزدوجة لدى القوى الغربية

يقدم الكتاب التحليلي مفاتيح مثيرة للاهتمام لفهم تأثير القوة المعرفية والخطابية على تشكيل مقاربات الغرب نحو الشرق الأوسط، حيث يشير سعيد إلى أن هذه الديناميكيات تشكلت من خلال مفهوم الاستشراق، الذي يقوم على افتراض التفوق الغربي المادي والمعنوي الذي يتغذى على التقليل من قيمة المجتمعات والثقافات الشرقية بشكل أساسي، ومن هذا التفوق ينبع إضفاء الشرعية على الممارسات الاستعمارية سابقاً والهيمنة الغربية التي ترى الشرق تابعاً اليوم.

فيما يتعلق بمثال إسرائيل، فإنها في العقل الأوروبي دولة وُلدت على أيدي يهود أوروبا وظل يُنظر إليها على أنها صورة الغرب في الشرق، وأن نجاحاتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية نابعة من اندماجها الوثيق بشبكات الاقتصاد المعولم وشبكات إنتاج المعرفة الغربية، ويمكن القول أن ديناميكيات تحديد الهوية هذه هي ما تجعل إسرائيل تتغذى على نفس موقف التفوق الثقافي والأخلاقي في بيئة تعتبرها معادية ودونية، ومن هنا تتمتع إسرائيل بدعم غربي لا يتزعزع.

أما الفلسطينيون، في عين الغرب، فلم ينجحوا في الظهور إلا كشعب منغلق على أي تسوية، راديكالي وعنيف في ممارسته ومطالبه، وذلك على عكس الأوكرانيين، الذين ينتمون لحظيرة “الذات” الأوروبية، فقد ساهم رد الفعل على الصراع في أوكرانيا  في كشف درجة تأثير التصورات الاستشراقية في بناء المعايير المزدوجة لدى القوى الغربية.

حتى اليوم، لم يحدث أن تفهم الدبلوماسية الغربية أياً من نضالات الفلسطينيين أو تعترف بشرعيتها، وبسبب حساسيتها تجاه الضحايا والسرديات الإسرائيلية، فإنها تساهم في تعزيز السياسات القمعية والاستعمارية للحكومات الإسرائيلية التي تزداد تطرفاً، مما يؤدي إلى استمرار الصراع وازدياد الاستياء والغضب في الشرق الأوسط.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة