بقلم جوناثان كوك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في يوم 13 نوفمبر، كان من المفترض أن تكون أبرز القصص الإخبارية لهيئة الإذاعة البريطانية بديهية.
في الوقت الذي كان فيه الجنود الإسرائيليون يحاصرون مستشفى الشفاء في غزة استعداداً لاقتحامه، تم إخراج العشرات من الأطفال الخدج الموجودين داخل المستشفى من حاضناتهم، فقد ظهرت لقطات مؤلمة للأطفال وقد تم تجميعهم معًا في بغطاء مبطن بورق الألمنيوم وهم يرتجفون من البرد، حتى مات عدد منهم فعلاً!
مشهد كان يحمل رمزية كبيرة عن حجم الآلام التي تكابدها غزة، التي تجمع عدد من سكان الشمال فيها بعد أن قصفت إسرائيل منازلهم وحوّلتها إلى ركام وأمرتهم بالتحرك جنوباً، وأخذوا يمشون جنوباً مكشوفين ومعرضين للغضب الإسرائيلي في كل لحظة!
من الغريب أيضاً أن وسائل الإعلام عندما تتحدث عن معاناة الرهائن، فإنها بالكاد تلمح إلى حقيقة أن الجزء الأكثر رعباً من محنة الرهائن هو تعرضها لنفس حملة القصف الإسرائيلي التي يواجهها الفلسطينيون
لقد كانت قصة الأطفال مؤلمة ومثيرة للغضب، فقد حذرت الأمم المتحدة إسرائيل مراراً وتكراراً من عواقب العقاب الجماعي الذي تفرضه على سكان غزة، بحرمانهم من الوقود اللازم لتوليد الكهرباء، لكن إسرائيل ببساطة تجاهلت هذه التحذيرات.
العجيب أن محررين برنامج News at Six الذي تعرضه البي بي سي، قرر بدء التغطية ولكن ليس من قتل الأطفال الرضع بسبب حجب إسرائيل الوقود كما كان يجب، في مرة تعتبر من أكثر الأمثلة دلالة على الانحراف الإخباري!
بدأت التغطية بتقرير برفقة شقيق رجل بريطاني إسرائيلي قُتل أثناء هجوم حماس في 7 أكتوبر، أي قبل أكثر من شهر، ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية أن الأخ كان يتساءل عما إذا كان من الآمن له البقاء في بريطانيا، وهذا هو الشعور الذي يشاركه فيه العديد من اليهود الآخرين، وفقا للتقرير.
ومن المفارقة أن المعنى الضمني في التقرير يشير إلى أنه بالنسبة لليهود البريطانيين، فإن الانتقال إلى إسرائيل أكثر أمانًا، رغم أسابيع من التغطية التي سلطت الضوء على مخاوف الإسرائيليين عقب هجوم حماس!
هل اعتقد هذا الرجل البريطاني حقاً أنه سيكون أكثر أماناً في نفس الحالة التي قُتل فيها شقيقه للتو في مذبحة جماعية؟! من البديهي طرح هذا السؤال أليس كذلك؟! ولكن مراسل بي بي سي لم يقم بذلك.
تسلسل هرمي عنصري للقلق!
السؤال الذي يلح هنا، ما هو الدليل الذي استشهد به الأخ لتبرير مخاوفه؟ فقد أخبر مراسل بي بي سي أنه كان خائفاً من حجم المسيرات من أجل غزة، وأنه لاحظ أن الهتافات مثل “فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر”، كانت دليلاً على معاداة السامية لدى بعض فئات المجتمع البريطاني.
المشكلة ليست في معاداة السامية طبعاً، ولكنها في المؤسسات الإعلامية التي تردد ذلك الشعار بشكل يزيد من الاحتقان وسوء الفهم، حتى يتحول إلى خبر أكثر أهمية من قتل أطفال فلسطينيين بمباركة الحكومة البريطانية.
هذا مجرد مثال على نمط التقارير التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية مما يؤدي إلى تحريف أولوياتها الإخبارية، والكشف عن تسلسل هرمي عنصري للقلق، تكون فيه المخاوف اليهودية أكثر أهمية من الوفيات الفعلية للفلسطينيين حتى وإن كانوا أطفالاً!
ومن باب المفارقة، يذكرني مشهد الأطفال الفلسطينيين بكذبة قطع رؤوس 40 طفلاً إسرائيلياً في 7 أكتوبر، والتي انتشرت بشكل واسع النطاق وبالغ الأهمية في وسائل الإعلام الغربية، بشكل كشف عن النفاق لصالح إسرائيل حتى مع غياب الأدلة.
ظلت وسائل الإعلام الغربية تدقق النظر وتزيد من الحديث عن أحداث 7 أكتوبر، في محاولة يائسة لإيجاد زوايا جديدة للحفاظ على ما تعتبره “التوازن” في معاناة كلا الجانبين، ففي مقابل التقليل من أهمية قصة أطفال الشفاء، يتم المبالغة في نقل “صدمة” الإسرائيليين.
على سبيل المثال، تناولت قناة بي بي سي الإخبارية في 20 نوفمبر، قصة عن معاناة عائلات الرهائن الإسرائيليين بمساحة توازي 3 أضعاف الوقت المخصص لمحنة الفلسطينيين في غزة، وكان ذلك في اليوم الذي هاجمت فيه إسرائيل المستشفى الاندونيسي!
ومن الغريب أيضاً أن وسائل الإعلام عندما تتحدث عن معاناة الرهائن، فإنها بالكاد تلمح إلى حقيقة أن الجزء الأكثر رعباً من محنة الرهائن هو تعرضها لنفس حملة القصف الإسرائيلي التي يواجهها الفلسطينيون.
المتظاهرون المتضامنون مع فلسطين، فعندما يهتفون “من النهر إلى البحر”، فإنهم لا يرفضون الإسرائيليين أو اليهود، بل يرفضون طبيعة الفصل العنصري في إسرائيل
ويتناقض التركيز الشديد على محنة الرهائن الذين تحتجزهم حماس مع تناول رهائن إسرائيل من الضفة والقدس، والذين غالبًا ما يتم يختطفهم جنود ملثمون في منتصف الليل، ونادرًا ما يتمكنون من رؤية عائلاتهم إن حدث أصلاً.
هناك شيء آخر لا يتم ذكره، وهو أن مراسلي الحرب الغربيين المستعدين للمخاطرة بحياتهم من أجل قصة في العراق وأفغانستان وسوريا، يبتعدون عن غزة أو ينضمون إلى الجيش الإسرائيلي، ليس فقط لأن إسرائيل أمرتهم بالبقاء في الخارج، ولكن إذا أرادوا الدخول وجدت طريقة لذلك.
ترفض وسائل الإعلام السماح لهم بالدخول لأنهم يعلمون أن حملة القصف الإسرائيلية قاسية للغاية ولا يمكن التنبؤ بها، لدرجة أنه سيكون هناك خطر كبير على حياة مراسليهم، وهذه الحقيقة بالذات يجب أن تكون جزءًا من القصة الإخبارية، لكنها لن تفعل ذلك لأنه يستلزم قلب الإطار السردي الذي تقوم عليه التقارير الغربية رأساً على عقب.
الحقيقة أن هذه القرارات التحريرية تتم صناعتها وفقاً لإسرائيل، في ظل مناخ سياسي مصطنع مسيطر في الغرب، حيث يتم التعامل مع إسرائيل والإسرائيليين وحتى الجنود الإسرائيليين الذين يفرضون حكم الفصل العنصري، وكأنهم أبرياء، في حين يتم تصوير الفلسطينيين العاديين وحتى الأطفال، على أنهم متواطئون في هجمات 7 أكتوبر.
المطالبة بوصول الحرية إلى “فلسطين” لا تعني أن الإسرائيليين سوف يتضررون، فهو يقدم رؤية للمساواة لكلا الشعبين في نفس الأرض، وتحل محل دولة إسرائيل التي ولدت كمشروع استعماري أوروبي
يجدر بالذكر أن مقدمات التغطية الغربية نفسها تمحو عقوداً من الاحتلال الإسرائيلي الوحشي والاستيطان غير القانوني في الأراضي الفلسطينية، فضلاً عن الحصار اللاإنساني على غزة الذي دام 16 عاماً، ففي التغطية الإعلامية، تم عكس الأدوار بين المحتل ومن تم احتلاله، بين المفترس والفريسة، وبين المعتدي والضحية.
خطاب كراهية؟!
هذه هي الطريقة الوحيدة لفهم الضجة المستمرة حول التهمة التي اعتبرت ذات أهمية أكبر في التغطية الإخبارية من جريمة إسرائيل بحق الأطفال.
قبيل إقالتها من منصب وزيرة الداخلية، دعت سويلا برافرمان الحكومة إلى تجريم شعارات خطاب الكراهية مثل “فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر”، وكانت قد دعت في وقت سابق إلى منع رفع العلم الفلسطيني في المظاهرات.
علاوة على ذلك، فقد أفادت تقارير أن الحكومة تدرس جدياً حظر الشعارات التي تحتج على قصف غزة بتصنيفها أنها داعمة للإرهاب، وهي فكرة دعمها اللورد كارلايل، الذي أشرف على صياغة قانون الإرهاب لعام 2006، بشدة حتى أنه دعا إلى محاكمة المتظاهرين الذين يهتفون “من النهر إلى البحر”.
الواقع السياسي في بريطانيا اليوم يشهد دعماً من الحزبين الرئيسيين في البلاد لقمع أي علامات تضامن مع الفلسطينيين، حتى تم تعليق عضوية النائب آندي ماكدونالد من البرلمان، بسبب دعوته إلى المساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين وإضافة عبارة “بين النهر والبحر” في كلامه، حيث يعتبر ذكر هذه العبارة، في أي سياق كان، يعني تأييد إبادة الإسرائيليين أو اليهود!
لقد وقع إيلون ماسك، صاحب موقع X ، في فخ هذه الإشاعة الكاذبة أيضاً، ووصف عبارات مثل “من النهر إلى البحر” بأنها “تعبير لطيف يعني بالضرورة الإبادة الجماعية”، وهدد بإيقاف حسابات المستخدمين الذين يكررون الشعار.
تجريد من الإنسانية
تم تبني عبارة من النهر إلى البحر” منذ عقود ومن قبل كل من أطراف النزاع، الذين يريدون دولة واحدة، و للتدليل على ذلك، فقد أشار الميثاق الرسمي لحزب الليكود الحاكم في إسرائيل إلى المنطقة “بين البحر ونهر الأردن”.
المشكلة ليست في الهتافات والعبارات، وليست في المسيرات التي تعارض حملة إرهابية بالقنابل وقتل الأطفال، بل المشكلة تكمن في مدى تأثرنا بالأكاذيب والخداع التي لا نهاية لها والتي تروج لها المؤسسات الغربية لتعزيز مصالحها الضيقة على حساب إنسانيتنا المشتركة
يقود هذا إلى مفارقة أخرى، فهناك تحفظ على وصف أعمال إسرائيل بأنها إبادة جماعية، رغم أنها لا تخفي ذلك أصلاً، فميثاق الليكود يشير ضمناً إلى نية الإبادة الجماعية ويعلن أنه “ما بين البحر والأردن لن يكون هناك سوى السيادة الإسرائيلية”، وهذا هو السبب الجذري للغة اللانسانية التي يستخدمها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزرائه، حين أطلقوا على الفلسطينيين اسم “الحيوانات البشرية” و”العماليق”.
أما المتظاهرون المتضامنون مع فلسطين، فعندما يهتفون “من النهر إلى البحر”، فإنهم لا يرفضون الإسرائيليين أو اليهود، بل يرفضون طبيعة الفصل العنصري في إسرائيل، وهم يدركون أن الحكومات الإسرائيلية أنشأت بالفعل دولة واحدة على الأراضي التي كانت فلسطين التاريخية يتم فيها الفصل بين المجموعات العرقية المختلفة ومنحها حقوقاً مختلفة.
أضف إلى ذلك أن المطالبة بوصول الحرية إلى “فلسطين” لا تعني أن الإسرائيليين سوف يتضررون، فهو يقدم رؤية للمساواة لكلا الشعبين في نفس الأرض، وتحل محل دولة إسرائيل التي ولدت كمشروع استعماري أوروبي، وهو مشروع مصمم لطرد الفلسطينيين من وطنهم.
الشعار يؤكد أنه لا توجد إمكانية لصنع السلام مع إسرائيل بسبب عقدة التفوق العرقي، بل يدعو بدلاً من ذلك إلى إنهاء الاستعمار وتفكيك المستوطنات، فهي ليست مسيرات كراهية إذن، بل مسيرات لإنهاء عقود من الاستعمار الإسرائيلي الذي بلغ ذروته بتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم والإبادة الجماعية في غزة.
حملة تشهير
التفسير المريح هو اعتبار التضامن مع الفلسطينيين أمراً نابعاً من الارتباك نتيجة مشاهد التطهير العرقي والإبادة الجماعية، لكن الأدلة تشير إلى خلاف ذلك، ففي تغريدة له، لم يحدد ماسك الهتاف فحسب، بل حدد أن أي جهد نحو “إنهاء الاستعمار” هو كناية عن الإبادة الجماعية لليهود.
هذا تقييم عقيم تشاركه فيه وسائل الإعلام مثل بي بي سي، ومعها الحكومة البريطانية وحزب العمال، حيث يُنظر إلى كرامة الفلسطينيين وحريتهم باعتبارها متعارضة مع بقاء الإسرائيليين.
لقد صارت الحركة السلمية لمقاطعة إسرائيل، للضغط عليها لإنهاء التفوق اليهودي وإنهاء الحرب الحالية على غزة، معاداة للسامية، كما أصبحت الإشارة إلى أن إسرائيل دولة فصل عنصري تحكم معاداة للسامية، حتى وصلت الحملة إلى الحضيض مع التشهير بزعيم حزب العمال السابق، جيريمي كوربين، ومئات الآلاف من نشطاء التضامن مع الفلسطينيين في بريطانيا!
الأمر مزعج أكثر من أي وقت مضى، ويشبه ما حدث ويحدث في غزة نفسها، فقد جرب الفلسطينيون هناك طرقًا سلمية للاحتجاج على حصارهم، ولما احتشدوا عند السياج قوبلوا بنيران القناصة من الجيش الإسرائيلي حتى أن احتجاجاتهم السلمية سميت بالإرهاب، فأرسلوا عبر نفس السياج بالونات مشتعلة قامت بإشعال النار في الحقول المجاورة على الأراضي التي تم تطهيرها من الفلسطينيين منذ عقود.
إثارة الانقسام
الحقيقة أن منع الفلسطينيين من جميع الوسائل السلمية لتحرير أنفسهم من الاحتلال هو الذي أدى إلى هجمات 7 أكتوبر، فالمسؤول الرئيسي عن ذلك هي إسرائيل ومعها الطبقة السياسية والإعلامية الغربية، التي تجاهلت وشوهت سمعة الفلسطينيين وجماعات حقوق الإنسان ونشطاء التضامن كما يشوهون الآن الهتاف البريء!
هناك هدف واحد وقبيح وراء حملة نزع الشرعية عن أي تضامن مع الفلسطينيين وتصنيفه على أنه كراهية، وهو إثارة الاستقطاب والتصعيد، فقد قامت إسرائيل، بمساعدة المؤسسات الغربية، عمداً بدفع تكون فريقين أحدهما مؤيد للفلسطينيين، والثاني الجمهور اليهودي، ليشعر كل منهما بأنه ضحية، وبالتالي يشعر الفلسطينيون ومؤيدو فلسطين بالإحباط والذم والغضب، ويشعر الآخر بالخوف وعدم التسامح.
هذا ليس من قبيل الصدفة، لكنه يعكس رغبة المؤسسات الغربية في خلق الانقسامات الداخلية والكراهية وعدم الاستقرار، من أجل هدف واحد هو ضمان بقاء إسرائيل حليفاً لا يمكن المساس به، وقادراً على بسط القوة والنفوذ الغربيين في الشرق الأوسط الغني بالنفط والغاز.
المشكلة ليست في الهتافات والعبارات، وليست في المسيرات التي تعارض حملة إرهابية بالقنابل وقتل الأطفال، بل المشكلة تكمن في مدى تأثرنا بالأكاذيب والخداع التي لا نهاية لها والتي تروج لها المؤسسات الغربية لتعزيز مصالحها الضيقة على حساب إنسانيتنا المشتركة.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)