بقلم سامي العريان
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
بعد وقت قصير من اغتيال إسرائيل للرجل الثاني في قيادة حماس، صالح العاروري، في ضاحية بيروت الجنوبية في الثاني من كانون الثاني/ يناير، أصدر حزب الله اللبناني بياناً مقتضباً أدان فيه الاغتيال الذي نُفذ في ساحته الخلفية.
وفي اليوم التالي، ألقى زعيم حزب الله حسن نصر الله خطابًا بمناسبة الذكرى الرابعة لاغتيال الحكومة الأمريكية للجنرال الإيراني قاسم سليماني، الذي قُتل في بغداد عام 2020، وهو العام الأخير لإدارة ترامب.
اكتسب حديث نصر الله عن اغتيال العاروري في هذه المناسبة بالذات أهميةً خاصةً لأن سليماني كان مهندس ما يسمى بـ “محور المقاومة” الذي يضم حزب الله ومنظمات المقاومة الفلسطينية، حماس والجهاد الإسلامي وجماعات مسلحة في العراق واليمن وبعض وكلاء إيران في سوريا.
وأثناء خطابه يوم الأربعاء الماضي، تعهد نصر الله بالانتقام وجدد الحديث عن استراتيجية حزبه المتمثلة في مواصلة الانخراط العسكري المدروس في القتال عبر الحدود مع إسرائيل، وبعد يومين، شرح في خطاب آخر وبإسهاب ما أنجزته مواجهة حزب الله العسكرية ضد إسرائيل في الأشهر الثلاثة الماضية، بما في ذلك شن 670 هجومًا على 494 هدفًا إسرائيليًا حيوياً بالقرب من الحدود اللبنانية، تشمل عشرات المستوطنات والقواعد العسكرية والرادارات ومحطات الرصد.
وزعم نصر الله أيضاً أنه ربما جرى إجلاء نحو 230 ألف مستوطن إسرائيلي من الشمال بعيداً عن الاشتباكات الحدودية التي لا يُستبعد أن تتسبب في اضطرابات كبيرة في المجتمعات الإسرائيلية وتخلق ضغوطاً سياسية واقتصادية على الحكومة.
منذ هجوم حماس الانتقامي في 7 تشرين الأول / أكتوبر أطلقت إسرائيل العنان لحرب إبادة غير مسبوقة على غزة، متجاوزة كل حروبها السابقة من حيث الوحشية والقسوة والتجاهل التام لقوانين الحرب، أو إظهار الحد الأدنى من الالتزام بمعاهدات جنيف أو الاتفاقيات الدولية.
وحتى الآن، قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 23 ألف فلسطيني، وما زال الآلاف غيرهم في عداد المفقودين، وجرحت وشوهت قرابة 60 ألف آخرين، وهي تواصل تدمير كافة جوانب الحياة بشكل منهجي من أجل جعل غزة غير صالحة للسكن.
ودفع الدمار الهائل دولة جنوب أفريقيا الأسبوع الماضي إلى رفع دعوى مفصلة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد الحكومة الإسرائيلية بشأن الإبادة الجماعية، ورغم أن نتيجة هذه القضية قد تغير قواعد اللعبة السياسية في المستقبل القريب، إلا أن نصر الله أصر في خطابه على أن القوة وحدها هي التي ستجبر إسرائيل على وقف عدوانها الشرس على غزة.
ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في 8 تشرين الأول / أكتوبر، حدد حزب الله دوره في القتال كداعم للمقاومة الفلسطينية وشارك عسكريًا في حرب استنزاف ضد الجيش الإسرائيلي.
استراتيجية عسكرية
في 3 تشرين الثاني / نوفمبر، ألقى نصر الله أول خطاب له منذ بداية الحرب، واصفاً انخراط حزبه بالتدخل العسكري المحسوب ومحذراً إسرائيل من أي تصعيد أو هجوم كبير على لبنان، ومؤكداً أن عملياته على الحدود تهدف إلى سحب عدد كبير من القوات الإسرائيلية إلى الجبهة الشمالية بغية استنزاف الجيش الإسرائيلي وعرقلة مهمته في تدمير المقاومة الفلسطينية في غزة.
وحدد حزب الله دوره في صراع غزة بأنه داعم للمقاومة الفلسطينية وشارك عسكريا في حرب استنزاف ضد الجيش الإسرائيلي.
كما حدّد نصر الله استراتيجية الحزب العسكرية بأنها ذات شقين، يتلخص الأول في وقف العدوان الوحشي والمجازر العشوائية والعقاب الجماعي والمعاناة الكبيرة التي ألحقتها إسرائيل عمداً بالسكان المدنيين في غزة.
وبما أن هذا الهدف يحظى بتأييد عالمي، باستثناء الإدارة الأمريكية، فقد رأى نصر الله أن إنهاء الإرهاب الإسرائيلي يتطلب مشاركة فاعلة من المجتمع الدولي، وليس مسؤولية محور المقاومة وحده.
سيظل الاشتباك العسكري بين حزب الله وإسرائيل محدوداً ولن يصل إلى الحد الذي قد يؤدي إلى حرب واسعة النطاق في جميع أنحاء لبنان أو بما يحول الانتباه بعيداً عن غزة.
ومع ذلك فقد أكد نصر الله أن الشق الثاني من استراتيجية محور المقاومة ترتكز على التصميم على إحباط الهدف العسكري الإسرائيلي المعلن المتمثل في تفكيك حماس والقوى المسلحة (الفلسطينية) الأخرى.
وأشار نصر الله إلى أن حزب الله وحلفاءه يعتبرون القضاء على حماس والجهاد الإسلامي في غزة خطًا أحمر ستترتب عواقب وخيمة على تجاوزه، وأضاف لاحقًا أن مثل هذا الرد سيأتي أيضًا بعد اغتيال أي قائد من محور المقاومة في لبنان.
ومع ذلك، أكد نصر الله أن إسرائيل لن تكون قادرة على سحق المقاومة في غزة، خاصة في ضوء جهود حزب الله لإرهاق الجيش الإسرائيلي وإلحاق أضرار كافية به على الجبهة الشمالية، وبسلاسة لافتة، بدأت حرب الاستنزاف منخفضة الحدة التي يشنها حزب الله في خلق حقائق جديدة على الأرض، وتغيير قواعد الاشتباك بين الطرفين وإضعاف القدرات العسكرية الإسرائيلية.
حاولت إسرائيل جر الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الأخرى إلى الصراع الدائر، لكنها لم تفلح إلا في إقناعهم بتوجيه أصول عسكرية ضخمة إلى المنطقة في الأيام الأولى من الحرب.
ولكن مع بدء الولايات المتحدة مؤخراً بالانسحاب والتحذير من حرب أوسع نطاقاً، بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت في الضغط على قضية شن حرب إقليمية أكبر ضد حزب الله، على الرغم من رغبة الولايات المتحدة في تجنب الانجرار إلى منطقة الشرق الأوسط مرة أخرى أخرى سيما في ظل تنافسها الجيوسياسي الاستراتيجي مع الصين في جنوب شرق آسيا وروسيا في أوروبا.. أهداف جريئة
وعلى هذه الخلفية، اغتالت إسرائيل العاروري كمحاولة يائسة لإعادة ضبط قواعد الاشتباك مع حزب الله وتعزيز الروح المعنوية الإسرائيلية المتدهورة جراء الإخفاق في تحقيق أي من الأهداف العسكرية والسياسية المعلنة.
ورغم ذلك، رفض نصر الله في خطابه الذي ألقاه في 5 كانون الثاني/ يناير أي تغييرات على قواعد الاشتباك التي وضعها حزبه في تشرين الأول / أكتوبر، متوعداً بالرد بقوة على اغتيال العاروري لردع تكرار مثل تلك الاستهدافات على الأراضي اللبنانية، ومتعهداً بعدم تصعيد الموقف إلى حرب شاملة ما لم تقرر إسرائيل الاستفزاز وتوسيع هجومها.
إن إغلاق القواعد العسكرية الأمريكية في العراق لا يمثل ضربة قوية للولايات المتحدة فحسب، بل كان أيضًا هدفًا إيرانيًا رئيسيًا منذ اغتيال سليماني.
وفي غضون 24 ساعة، ضرب حزب الله قاعدة مراقبة الحركة الجوية الإسرائيلية في جبل ميرون في الشمال بـ 62 صاروخًا دقيقًا، زاعماً أن أضرارًا جسيمة لحقت بالمنشأة الحيوية التي يتم توظيفها لتنسيق كافة أنشطة القوات الجوية العسكرية الإسرائيلية في الشمال، ومن ضمنها عملية اغتيال العاروري التي نُفذت في بيروت قبل بضعة أيام.
وفي 8 كانون الثاني / يناير، صعدت إسرائيل هجماتها باغتيال وسام الطويل، الذي كان يعتبر أحد كبار قادة قوة الرضوان الخاصة بصفته نائب رئيس القوة، وفي اليوم التالي، شن حزب الله هجوماً نوعياً بطائرات بدون طيار استهدف مركز القيادة العسكرية الشمالية لإسرائيل في صفد، ومن الممكن ألا يتم احتواء مثل هذه الضربات المتبادلة، أو قد تؤدي في النهاية إلى تفجير صراع إقليمي يجذب جهات فاعلة خارجية أخرى، بما فيها الولايات المتحدة وإيران.
حزب الله أكد أن الهجمات الصاروخية المنسقة كانت مجرد “رد أولي” وأن المزيد سيأتي بعد ذلك، لكن الأهمية الخاصة لخطاب نصر الله الأخير تكمن في تأكيده الجريء على أهداف جديدة للحزب وأعضاء آخرين في محور المقاومة، الذين بدا أنه يتحدث باسمهم.
أولاً، أشار نصر الله إلى أن إسرائيل وباعتبارها قد أصبحت الآن مكشوفة وضعيفة، فقد يكون الوقت مناسباً لتوسيع حملة حزب الله العسكرية وتحرير ما يعتبره أراضٍ لبنانية تحت الاحتلال الإسرائيلي، مثل مزارع شبعا وقرية الغجر.
ستترتب على السعي وراء تحقيق مثل هذه الخطوة الجريئة ونجاحها عواقب وخيمة يمكن أن يتردد صداها في جميع أنحاء المنطقة، لأنها ستكون المرة الأولى التي تتنازل فيها إسرائيل تحت الضغط العسكري عن الأراضي التي أخذتها بالقوة، وقد يكون التصعيد الإسرائيلي الأخير في الواقع رداً حاداً على إعلان نصر الله الضمني.
ثانياً، من الواضح تماماً أن العديد من أطراف محور المقاومة تمارس ضغوطاً كبيرة على إسرائيل والولايات المتحدة لإنهاء اعتدائها الوحشي في غزة، حيث تشن حركة أنصار الله، المعروفة باسم الحوثيين، والتي تمثل القوة الحاكمة بحكم الأمر الواقع في اليمن، عمليات تتركز أساساً ضد السفن التجارية الإسرائيلية أو المتجهة إلى إسرائيل في باب المندب وعبر البحر الأحمر، وقد دفع هذا التعطيل للسفن التجارية الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف بحري من عدة دول لمجابهة هجمات الحوثيين، الذين لا يواصلون هجماتهم فحسب، لكنهم باتوا يرسلون أيضًا طائرات هجومية بدون طيار إلى أهداف إسرائيلية في البر والبحر.
وعندما أغرقت الولايات المتحدة مؤخراً ثلاثة قوارب يمنية صغيرة، تعهدت القوات المسلحة التابعة للحوثيين بالرد بقوة ومضاعفة جهودها إلى أن تتوقف الحرب في غزة، وأكدوا حقهم وواجبهم الأخلاقي في منع الإبادة الجماعية بموجب المادة الأولى من المعاهدة الخاصة بها، وإذا حكمت محكمة العدل الدولية لصالح جنوب أفريقيا، كما يعتقد العديد من الخبراء، فإن استهداف وتعطيل الشحن التجاري الإسرائيلي من قبل اليمن سوف يكتسب شرعية دولية إضافية.
وفي الوقت عينه، أخذت المقاومة الإسلامية في العراق تهاجم القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا للضغط على الولايات المتحدة بسبب تواطئها العلني في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل.
ولكن عندما شنت الولايات المتحدة في نهاية المطاف غارات جوية أسفرت عن مقتل زعيم ميليشيا عراقية بارز، سارع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى إعلان أن الحكومة العراقية سوف تنهي وجود القوات الأميركية في العراق وتغلق كافة القواعد العسكرية الأميركية.
ولا تمثل هذه الخطوة ضربة قوية وإحراجًا للولايات المتحدة فحسب، بل كانت أيضًا بمثابة الهدف الإيراني منذ اغتيال سليماني.
ولعدة سنوات، سعت الولايات المتحدة إلى عزل إيران وحلفائها في المنطقة، وكانت تعمل على التوصل إلى اتفاق سياسي من شأنه تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل هذا العام، وكان من شأن مثل هذه الاتفاقية (لو تمت) أن تمهد الطريق لإنشاء خارطة جيوسياسية وتجارية كبيرة من شأنها أن تربط الهند والشرق الأوسط (في المقام الأول من خلال الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل) مع أوروبا ضمن ما يسمى ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا ( IMEC).
ومن شأن هذا المشروع أن يحسّن واقع الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة صديقة، فيما سيعزل الدول التي تعتبرها معادية أو غير صديقة، مثل إيران وتركيا، حيث كان المشروع بمثابة الخطة الأمريكية المضادة لمبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI).
وفيما تكتسب مبادرة الحزام والطريق المزيد من الزخم في مختلف أنحاء العالم، فقد أدى هجوم حماس ورد فعل الإبادة الجماعية الذي ارتكبته إسرائيل إلى انتكاسة هائلة للخطط الأميركية في الشرق الأوسط، حيث أصبح الدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل وعجز الولايات المتحدة عن صياغة سياسة متماسكة في المنطقة سبباً في إهدار مصداقيتها وإسقاط أي سلطة أخلاقية قد تدعيها.
وفي ذات الوقت، وفي ظل الحسابات الإسرائيلية الخاطئة الهائلة في غزة، فقد يوشك محور المقاومة على تحقيق أهدافه الجيوسياسية المركزية إذا نجح في وقف الإبادة الجماعية في غزة.
في حال فشلت إسرائيل في تحقيق هدفها المتمثل في القضاء على حماس والمنظمات المسلحة الأخرى في غزة أو تهميشها، والفشل في تحقيق ذلك متوقع، فسيظل محور المقاومة بحاجة إلى الحفاظ على جبهته الموحدة لإحباط الخطة الأمريكية لتشكيل بنية سياسية جديدة في المنطقة ترمي إلى عزل المحور وبناء نظام جيوسياسي جديد يتمحور حول دمج الدولة الصهيونية في سياسات المنطقة واقتصادها.
ومن المرجح أن تحاول الولايات المتحدة تنفيذ هذه الاستراتيجية عبر المناورات الدبلوماسية والضغوط السياسية والحوافز الاقتصادية والتهديدات العسكرية للتعويض عما لم تتمكن إسرائيل من تحقيقه في ساحة المعركة، وهنا يكمن التحدي الذي يواجه محور المقاومة.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)