بقلم عوض عبد الفتاح
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في أوقات الأزمات الإنسانية الحادة، سواء كانت طبيعية أو من صنع الإنسان، تطفو إلى السطح الأسئلة حول معنى الحياة لتلقي بثقلها على الأفراد والمجتمعات، خاصة عندما لا يكون هناك خلاص واضح في الأفق.
خلال القرن 19 في أوروبا، أدى تقدم الفكر السياسي ومفهوم الحكم الديمقراطي إلى تعزيز جو من التفاؤل والحلم بمستقبل أفضل، ولكن لم يمضِ وقت طويل قبل أن يواجه هذا التحول أهوال الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين استهلكتا حياة الملايين ودمرتا المجتمعات على الصعيد المادي والنفسي.
المشهد اليوم كالتالي، يتم تنفيذ هذه الحرب الوحشية على غزة من قبل أقوى قوة عسكرية على وجه الأرض، وهي الإمبراطورية الأمريكية القاسية وحلفائها ضد كيان صغير فقير، ويتم بث كل هذه الوحشية في لحظتها من قبل مرتكبيها الذين يستمتعون بتدمير المنازل وإبادة الأطفال والنساء والمسنين!
لقد هز الدمار الواسع الناجم عن تلك الحربين إنجازات الحداثة بشدة، مما أدى إلى عودة الأسئلة الوجودية في الفلسفة والأدب والفن، كنوع من إعادة النظر في الطبيعة البشرية والروح.
لقد أدت عمليات التقييم بعد الحرب العالمية الثانية إلى إنشاء أسس جديدة للعلاقات الدولية، فصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جنباً إلى جنب مع القوانين العالمية التي صممت لمنع الإبادة الجماعية في أعقاب المحرقة التي راح ضحيتها ملايين اليهود على يد ألمانيا النازية تحت شعار: “لن يحدث ذلك مرة أخرى أبداً”.
من المثير للدهشة والمرعب في نفس الوقت أن نفس الدول والجماعات التي أرست هذه المبادئ تكرر الآن تاريخها المظلم في فلسطين، ففي غزة، نشهد إبادة جماعية ممنهجة واستراتيجية متعمدة لمحو شعب بأكمله.
ما تفعله الدول الغربية في تواطؤها في هذه الإبادة ما هو إلا تذكرة للأجيال الجديدة بالأسس التي بنيت عليها هذه البلدان من إبادة ومحو للشعوب الأصلية، فهم يؤكدون من جديد على عقليتهم التفوقية والعنصرية المتأصلة في تلك العقلية.
هذا الواقع المؤلم هو بالضبط ما يدفع الناس إلى العودة إلى دوامة اليأس الذي يلاحق وجودهم، كما أنه يثير معضلة عميقة وهي كيف يمكن للمرء البقاء على قيد الحياة في مثل هذا العالم؟! وهل هناك أي إطار أخلاقي قادر على منع الانهيار الداخلي الشامل؟!
وحشية تفوق الوصف
بالنسبة للكثيرين، فإن الإيمان يوفر مناعة قوية ضد هذا السؤال والشكوك التي قد يثيرها، فالإيمان يوفر المعنى والملجأ، والأمر نفسه ينطبق على الأشخاص الملتزمين بالقضايا الإنسانية أو التحررية، سواء كانت دينية أو علمانية.
رغم ذلك، قد تطفو الأسئلة الوجودية على السطح عندما يجد الناس أن احتياطياتهم الداخلية من المرونة قد استنفدت، وهذه تجربة طبيعية وإنسانية عميقة.
في غزة، لا يمكن أن يُرى صمود الشعب أمام وحشية إسرائيل لأكثر من عام إلا أنه صمود أسطوري، ولذاك عندما يتساءل سكان غزة عن العالم من حولهم، فإن تركيزهم ينصب في المقام الأول على حالة الإنسانية، على أولئك الذين يحكمون الإمبراطوريات الإمبريالية وعلى الأنظمة العربية الخاضعة للقوى الغربية.
في هذا العصر المسكون بالنزعة الاستهلاكية والجشع والقوة القمعية، قد لا يكون هناك شعب على وجه الأرض يتمتع بنفس القدرة المذهلة على التحمل التي يتمتع بها الشعب الفلسطيني، ومع ذلك، فإن العديد من الفلسطينيين يطلبون منا ألا ننظر إليهم كأبطال، بل كبشر عاديين لا ملجأ لهم سوى الإيمان والصمود.
ما يحتاج إليه أهل غزة حقاً هو الدعم الملموس، فقد عانى الفلسطينيون من محن مروعة أهلكت أجيالاً بأكملها، كما أنتجت مواجهتهم الطويلة مع المشروع الاستعماري الصهيوني أدبيات واسعة، بعضها عميق وأساسي، ومع ذلك، فشلت في التحول إلى خطة استراتيجية ملموسة.
الحقيقة أن السؤال الوجودي لم يُطرح قط من قبل بنفس الحدة والإلحاح الذي هو عليه اليوم بين الفلسطينيين وحلفائهم في جميع أنحاء العالم، فالحرب تخلق مآسي ومعاناة لا نهاية لها، ولذلك في مواجهة هذا الدمار، تبدأ الإنسانية نفسها في الذبول!
المشهد اليوم كالتالي، يتم تنفيذ هذه الحرب الوحشية على غزة من قبل أقوى قوة عسكرية على وجه الأرض، وهي الإمبراطورية الأمريكية القاسية وحلفائها ضد كيان صغير فقير، ويتم بث كل هذه الوحشية في لحظتها من قبل مرتكبيها الذين يستمتعون بتدمير المنازل وإبادة الأطفال والنساء والمسنين!
وفي مواجهة هذه الهمجية، يقف العالم في حالة من الصدمة والرعب متسائلاً، كيف يمكن أن يحدث هذا مع الإفلات من العقاب في القرن 21؟ كيف لم تتعلم الإنسانية أو من يحكمون العالم من التاريخ؟!
لقد أدى هذا الرعب من طبيعة النظام العالمي وأساسه الصهيوني إلى تغذية جبهة مدنية دولية، وكما انتصرت الأجيال الماضية على المأساة، فإن جيل اليوم يؤمن بإمكانية استعادة الكرامة الإنسانية ومحاسبة الجهات التي تمارس العنف، وهذه هي الطريقة التي يقاوم بها الشعب الفلسطيني ومؤيدوه العالميون جاذبية اليأس الوجودي، من خلال صياغة رؤية تحررية في مواجهة الهمجية.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)