كيف يُفاقم الاحتلال معاناة أطفال التوحد في فلسطين؟

بقلم فلسطين منصور

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

كانت المرة الأولى التي أرى العالم فيها بصدق من خلال عيني شقيقتي في رام الله، فقد نشأتُ مع أختٍ مصابةٍ باضطرابٍ عصبيٍّ مُختلف، وتعاطفتُ بعمق مع معاناتها، لكن كان دائماً هناك عائق، إذ لم أستطع العيش في عالمها لأنني لم أكن أستطيع الوصول إليه، وببساطة حاولتُ مساعدتها بكل ما أوتيتُ من قوة.

لكن هذا الأمر تغير عندما اتخذتُ أنا وعائلتي قرار الانتقال من الولايات المتحدة إلى الضفة الغربية المحتلة عام 2021، فكنا بحاجةٍ ماسةٍ إلى تغييرٍ في نمط حياتنا، وأخذت جودة الرعاية المتوفرة لشقيقتي تتدهور باستمرار.

وبالانتقال إلى فلسطين، تمكنت أيضًا من التقرّب من هويتي الفلسطينية، بدلًا من أن أكون منفصلةً عنها جسديًا وعاطفيًا، كما كنتُ طوال معظم حياتي، لقد جاء الانتقال نفسه مصحوبًا بالعديد من التحديات، وبينما كنتُ أتأقلم مع البيئة الجديدة، أدركتُ أن العزلة التي تعيشها أختي يوميًا كانت أمرًا أعاني منه أنا أيضًا.

إنها تعيش في عالمها العصبي الخاص، وطوال سنتي الأولى في فلسطين، شعرتُ وكأنني قد ألقي بي على كوكب غريب.

أنا لا أريد أن أُقارن بين ظروفنا، لكن آثار الاحتلال جعلت هذا الشعور بالعزلة أكثر وضوحاً، سواءً كان ذلك عبور نقاط التفتيش، أو أيام العطل المدرسية المتكررة حداداً على العدد الهائل من الشهداء الفلسطينيين، أو فقدان الفرص التعليمية بسبب الأنظمة غير الملائمة.

النضال من أجل الحقوق الأساسية

وإلى جانب تراجع خيارات العلاج المتاحة لهم، يواجه الأطفال المصابون بالتوحد في فلسطين العزلة المادية التي تصاحب العيش تحت سلطة الاحتلال، كما أن الإدراك أن أموال دافعي الضرائب الأمريكيين تدعم الاحتلال يفاقم من صعوبة الوضع.

وبكل الأحوال، فإن الموارد العلاجية وفيرة في دولة الاحتلال، لكنها نادرة في الضفة الغربية وغزة، وفي قطاع العلاج المهني، تعاني مراكز التوحد والمرافق التعليمية من نقص التمويل والاكتظاظ، مما يزيد من صعوبة حصول الأطفال المصابين بالتوحد على الرعاية التي يحتاجونها للتطور والمشاركة الفعالة في مجتمعاتهم.

لقد زرنا العديد من المراكز التي لم تُلبِّ احتياجات أختي تحديدًا بسبب حاجز اللغة ونقص الخدمات المتنوعة، وتبين أن حاجز اللغة كان المشكلة الرئيسية، لا سيما أنها نشأت مع معالجين يتحدثون الإنجليزية فقط.

أما فيما يتعلق بالبرامج نفسها، فقد كان الموظفون مُرهَقين للغاية، وقد كان لهذا العامل، إلى جانب عدم كفاية المرافق، دور كبير في عدم توفر الرعايةً الشاملة لشقيقتي.

أما التكلفة المادية الباهظة فهي عاملٌ آخر يجب على العائلات الفلسطينية مراعاته عند تقييم خيارات العلاج، وقد كانت عائلتي محظوظة بما يكفي لتحمل تكاليف الجلسات، التي بلغت حوالي 50 دولارًا للجلسة، ولكن بالنسبة للكثيرين في الضفة الغربية المحتلة، يُعادل هذا المبلغ راتبهم اليومي بالكامل.

إحصائيًا، تُعَدُّ الموارد المُتاحة للأطفال ذوي الاختلافات العصبية في الضفة الغربية   منخفضة بالنظر إلى أن العدد الإجمالي للأطفال ذوي الإعاقة يبلغ 59,000 طفل (حتى ديسمبر/كانون الأول 2023)، كما أن المراكز المُخصصة للأطفال المصابين بالتوحد قليلة العدد.

وعلى مر السنين، أعربت منظمات حقوق الإنسان عن هذه المخاوف، حيث أشار المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى “إهمال إعادة تأهيل ودعم الأطفال الفلسطينيين المصابين بالتوحد”. 

وأشارت المنظمة إلى أن عدم تقديم العلاج المناسب لهؤلاء المرضى ينتهك اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، لاسيما وأن التوحد يصيب آلاف الأطفال في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

بعد انتقالنا إلى الضفة الغربية المحتلة، أدركنا سريعًا أن الحصول على الدواء لشقيقتي سيُمثل أيضًا مشكلة كبيرة، في ظل التأخير على الحدود ورفض سلطات الاحتلال للعديد من الطرود، حيث يمكن أن تُمثل هذه العرقلة مشكلة بالغة الصعوبة للأشخاص ذوي الاختلافات العصبية الذين يحتاجون لتناول أدويتهم يوميًا.

كما أن نظام الرعاية الصحية في فلسطين يعاني بالفعل من ضغوط مالية شديدة، وتؤدي الضوابط الحدودية الصارمة إلى تفاقم هذه المشكلة، إذ يمكن أن يكون الدواء عاملًا أساسيًا لتحسين جودة حياة المصابين بالتوحد، وهذا حق أساسي آخر يجب على الفلسطينيين النضال من أجله بكل ما أوتوا من قوة.

في عالم الفلسطينيين المفعم بالأحداث النشطة، غالبًا ما تُغفَل معاناة الأشخاص المصابين بالتوحد، وبالتالي فإن ما يقع على عاتقنا هو تسليط الضوء على هذه الفئة المستضعفة، لا سيما في ظل تصاعد العنف والتوتر في الضفة الغربية وغزة المحتلة، وعلينا العمل لزيادة الوعي والمطالبة باتخاذ إجراءات، وهذا مهمٌّ بشكل خاص للأشخاص المصابين بالتوحد غير اللفظيين، مثل حال شقيقتي.

قد يشعر المرء في الضفة الغربية المحتلة وكأنه يُسحق تحت قبضة يدٍ ظالمةٍ مُحكمة، لكن التحدث عن معاناة أصدقائنا وأفراد عائلاتنا المصابين بالتوحد كفيلٌ بتخفيف وطأة هذه القبضة، في عالمٍ يُكتم فيه صوت الفلسطينيين باستمرار وبقوة، لا بد من سماع أصواتهم.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة