منذ عودته إلى البيت الأبيض، تبنّى الرئيس الأميركي دونالد ترامب موقفًا فاترًا أقرب للبلادة المتزايدة حيال حرب الاحتلال على قطاع غزة، ومع تفاقم المجاعة داخل القطاع، وتصاعد التحذيرات من شخصيات سياسية أميركية مقرّبة من ترامب بأن ما يحدث يرقى إلى إبادة جماعية، بدأت حدود لامبالاته تتعرض لاختبار فعلي.
فقد تساءل خالد الجندي، الباحث الزائر في مركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة جورجتاون، في حديث لموقع ميدل إيست آي: “أين هي الخطوط الحمراء لترامب؟ كم من البؤس الإنساني والقتل والدمار يجب أن يقع في غزة قبل أن يقول: كفى؟”.
وقد صرّح ترامب هذا الأسبوع بأن “مجاعة حقيقية” تحدث في غزة، في ما بدا أنه انتقاد غير مباشر لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي أنكر وجود مجاعة، وقال ترامب إن من يشاهد صور الأطفال الهزيلين في غزة سيجدها “فظيعة، إلا إذا كان قاسي القلب تمامًا، أو، والأسوأ من ذلك، مختل عقليًا”.
وسبق لترامب أن قَلّص من دور الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، وتجاهل دور الأمم المتحدة في غزة، وخاض حملته الانتخابية متعهدًا بإبعاد الولايات المتحدة عن النزاعات الخارجية، لكن خبراء يرون أنه اليوم مضطر للإجابة عن أسئلة تتعلق بمجاعة متفاقمة في منطقة نائية من الشرق الأوسط، بسبب تجاهله المتواصل للدفع نحو وقف إطلاق النار.
وفي هذا السياق، قال آرون ديفيد ميلر، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية والمفاوض المخضرم في قضايا الشرق الأوسط: “ما نشهده حاليًا في غزة هو إسرائيل تتحرك بحرية تامة من دون أي تركيز أو ضغط أميركي”، معتبراً أن هناك نمطًا واضحًا في تعاطي ترامب مع غزة وغيرها من بؤر التوتر الدولية.
وأوضح ميلر أن ترامب “يريد إنهاء القتال في أوكرانيا، لكن ليس الحرب، وبالمثل، فهو يسعى لإعادة الرهائن وتحسين الوضع الإنساني، لكنه غير مهتم بالخوض في جذور النزاع لوضع حد للحرب.”
“فقط فلسطينيون”
وأثار القرار الأميركي الأسبوع الماضي بوقف جهود الوساطة للتوصل إلى وقف إطلاق نار بين الاحتلال وحركة حماس دهشة الكثيرين، خاصة في ظل تصاعد الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، حيث يرى خبراء أن ترامب قد يقبل بوقف لإطلاق النار في غزة إذا تحقق دون جهد يُذكر، لكنه لا يُظهر أي استعداد لبذل وقت أو رأس مال سياسي جدي لتحقيقه.
فبعد فترة وجيزة من تولّيه الرئاسة في يناير/كانون الثاني الماضي، سُئل ترامب عن هدنة كانت إدارته الجديدة ساهمت في التوصل إليها قبل أن تنهار مجدداً، وجاء ردّه واضحًا: “هذه ليست حربنا، إنها حربهم، ولست واثقًا من أن وقف إطلاق النار سيصمد.”
ومنذ ذلك الحين، تراجع اهتمام ترامب بفكرة وقف إطلاق النار، رغم أنه كان يروّج له في السابق كنجاح دبلوماسي كبير ونموذج للسلام من قبل “رئيس صانع للسلام” كما يصف نفسه.
لم يمنح ترامب غزة وقتًا إعلاميًا يُذكر سوى في فبراير/شباط الماضي، عندما تجاهل المسؤولية الصعبة المتمثلة في ضمان استمرار محادثات وقف إطلاق النار ضمن اتفاق ثلاثي المراحل انهار لاحقًا، وبدلاً من العمل على إنقاذ الاتفاق، أعلن عن رغبته في “الاستيلاء على غزة” وتحويلها إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، بعد ترحيل سكانها قسرًا.
ووفقًا لمصادر دبلوماسية، تحوّلت هذه الخطة التي تُعرف إعلاميًا بـ”خطة ترامب” إلى أحد الأهداف المعلنة لحرب رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، رغم أن ترامب لم يكن ملتزمًا بها فعليًا، بل تخلى عنها لاحقًا بعد أن أقنعه بذلك الملك عبد الله الثاني وعدد من الحلفاء العرب.
وفي هذا السياق، قالت روز كالانيك، مديرة برنامج الشرق الأوسط في مركز “ديفينس برايوريتز” الأميركي: “الولايات المتحدة لن تضمن أبدًا نهاية دائمة للحرب في غزة، وحماس تعرف ذلك جيدًا، وهي محقة في عدم الثقة بالولايات المتحدة.”
من جانبه، يرى خالد الجندي أن غريزة ترامب تميل إلى الصفقات المبهرة، وهذا ما يعكس نظرته تجاه غزة، وقال: “لقد كان وقف إطلاق النار بالنسبة لترامب، كما هو الحال لدى معظم السياسيين الأميركيين، دائمًا مرتبطًا بالأسرى الإسرائيليين، فإذا أدى إلى إنقاذ أرواح فلسطينيين، فذلك أمر جيد، وإذا أدى إلى نهاية الحرب، فلا بأس، لكنه لم يكن الهدف، في النهاية، هم فقط فلسطينيون، ولا توجد مكاسب حقيقية لترامب في ذلك.”
حسابات خليجية وتطبيع مؤجل
وتأتي الضغوط الأكبر من الحلفاء العرب للولايات المتحدة، الذين يدركون خطورة استمرار الحرب على استقرارهم الداخلي، في ظل الغضب الشعبي المتصاعد من ممارسات الاحتلال، حيث حاولت دول الخليج، خصوصًا الغنية منها، أن تحفّز ترامب على القبول باتفاق يضمن وقف القتال، عبر عروض اقتصادية وصفقات تسليحية متقدمة.
ويقول دبلوماسيون إن هذه الدول، القادرة على الاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي وشراء الأسلحة الأميركية، تملك قنوات اتصال مباشرة ومؤثرة مع ترامب الذي عبر عن رغبته في تحقيق اتفاق تطبيع بين دولة الاحتلال والمملكة العربية السعودية التي وضعت وقف إطلاق النار في غزة شرطًا أساسيًا لأي توسع في اتفاقات إبراهيم لعام 2020، كما شددت على ضرورة أن تتخذ تل أبيب خطوات لا رجعة فيها تجاه إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
غير أن هذه المطالب لم تكن كافية لإقناع ترامب بمواجهة نتنياهو بشأن إنهاء الحرب على غزة،. بل على العكس، وجه ترامب في تصريحات الجمعة، اللوم إلى حركة حماس، معتبراً إياها المسؤولة عن انسحاب الولايات المتحدة من محادثات وقف إطلاق النار، وقال: “أعتقد أنهم يريدون الموت، وهذا أمر سيئ للغاية، لقد وصلنا إلى نقطة حيث يجب عليك إتمام المهمة.”
وحملت الولايات المتحدة حركة حماس مسؤولية انهيار محادثات وقف إطلاق النار منذ بداية مفاوضات إدارة بايدن في 2024. لكن محللين ودبلوماسيين يتفقون بشكل شبه كامل على أن دولة الاحتلال هي من انتهكت الهدنة الأخيرة بشكل أحادي في مارس/آذار، عندما استأنفت هجماتها على غزة رغم تسليم حماس للأسرى كما ينص الاتفاق.
وأوضح آرون ديفيد ميلر، مسؤول سابق في وزارة الخارجية ومفاوض في الشرق الأوسط، لميدل إيست آي أن ترامب “يفضل” السماح لدولة الاحتلال “بمواصلة عملياتها العسكرية، لو لم تكن الصور كارثية إلى هذا الحد، لسمح بالاستمرار.”
وقد تجاوز عدد الفلسطينيين الذين استشهدوا في عدوان الاحتلال الذي بدأ ردًا على هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023 على جنوب الدولة العبرية، 60 ألف شهيد فيما تنفذ دولة الاحتلال عملياتها بعيدًا عن أي ضغوط أميركية، حيث قال ميلر: “نحن نشاهد إسرائيل وهي تنفذ عملياتها بعيدًا عن أي تركيز أميركي أو مصالح أو ضغوط.”
وتصنف الولايات المتحدة حركة حماس كمنظمة إرهابية، لكن إدارة ترامب كسرت هذا التقليد الطويل حين تفاوضت مع الحركة على إطلاق سراح أسير أميركي-إسرائيلي في مايو/أيار الماضي، في مفاوضات جرت بسلاسة، حيث جلس مبعوث ترامب الخاص للشؤون المتعلقة بالرهائن مع كبار مسؤولي حماس.
وتشترط حماس في أي اتفاق لإطلاق سراح الأسرى العشرين المتبقين، الذين هم جميعًا في سن الخدمة العسكرية، أن يؤدي ذلك إلى نهاية دائمة للحرب، وأكدت الحركة أنها ستتخلى عن حكم غزة، لكنها لم تتعهد بنزع السلاح ولم توافق على اللجوء إلى المنفى.
دعوات دولية لتفكيك حماس
وانضمت كل من قطر ومصر والسعودية هذا الأسبوع إلى الاتحاد الأوروبي في الدعوة إلى نزع سلاح حركة حماس، مع الإعلان عن دعم نشر قوات حفظ سلام في قطاع غزة.
وشدد البيان المشترك على ضرورة التوصل إلى حل الدولتين على حدود ما قبل حرب 1967، والذي يشمل إقامة دولة فلسطينية تضم كامل قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية المحتلة، غير أن دولة الاحتلال ترفض هذا المقترح، فيما يقول مسؤولون عرب إنهم غير متفائلين بأن تحركاتهم الدبلوماسية ستُجبرها على التوقف عن قصف غزة.
وفي موقف يعكس جزءًا من الواقع، أقر ترامب بموقف حماس التي تعبر عن عدم ثقتها في استمرار وقف إطلاق النار في غزة، فقد تم تصميم الهدنة التي كانت تحت التفاوض على ثلاث مراحل، مشابهة للاتفاق الذي انتهكته دولة الاحتلال في وقت سابق من هذا العام.
وتتضمن المرحلة الأولى مطالبة حماس بالإفراج عن الأسرى مقابل انسحاب الاحتلال من أجزاء من غزة، وزيادة المساعدات إلى القطاع، وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين، أما المرحلة الثانية فتركز على محادثات حاسمة لإنهاء الحرب بشكل دائم، بما يشمل انسحاب الاحتلال الكامل من غزة، والمرحلة الثالثة تتناول مستقبل الحكم وإعادة الإعمار.
وقال ترامب الأسبوع الماضي: “هم في حماس يعلمون ماذا يحدث بعد إطلاق سراح الأسرى النهائيين، ولهذا السبب لم يرغبوا حقًا في إبرام صفقة لأنهم سيخسرون درعهم وغطاءهم.”
من جهته، يؤكد نتنياهو رغبته في تدمير حماس بالكامل والحفاظ على السيطرة الأمنية الكاملة على قطاع غزة حتى بعد إطلاق سراح الأسرى، كما يدعم وزير المالية ووزير الأمن القومي الإسرائيليان إعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية في القطاع.
“الولايات المتحدة لن تضمن أبدًا نهاية دائمة للحرب في غزة، وحماس تعرف ذلك، ومن الصواب أن لا تثق بالولايات المتحدة لأنها لم تعطِهم أي سبب للثقة، وترامب كان شفافًا في هذا الشأن” – روز كلانيك، مديرة برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة “ديفنس بروريتيز” البحثية في واشنطن
ويقول مسؤولون عرب وأميركيون بصورة خاصة إن تحقيق وقف لإطلاق النار في غزة يتطلب من ترامب المواجهة المباشرة مع نتنياهو، وهو ما أظهر ترامب استعداده له فقط في عدد قليل من القضايا.
ففي اليمن، حيث لا تزال الصواريخ تُطلق على دولة الاحتلال، تمكن ترامب من التوصل إلى وقف إطلاق نار مستقل مع الحوثيين، كما رفع العقوبات عن سوريا وأعلن ضمنيًا اعترافه بمنطقة النفوذ التركية هناك، ما أثار استياء تل أبيب.
وشن ترامب ضربات غير مسبوقة على المنشآت النووية الإيرانية، لكن مع تلاشي التوتر بين دول الاحتلال وإيران بعد “حرب الـ12 يومًا”، بدا تأثير الهجوم الأميركي أقل وضوحًا، وانتقل سريعًا لتهدئة الأوضاع مع إيران، رافضًا الهجوم الموسع الذي كان نتنياهو يأمل فيه.
ترامب وقاعدة الدعم: توازن بين المؤيدين وإحباط المتشددين الشباب
وفي داخل الولايات المتحدة، يعتمد ترامب على داعمين مؤيدين للاحتلال ضمن قاعدته الانتخابية، أبرزهم المليارديرة مريم أديلسون، كما ساهم أفراد من عائلته في إقناعه بأفكار ضم قطاع غزة ضمن خطة ترامب المعروفة بـ”ريفيرا” والتي تشابهت مع خطة ناقشها صهره ومستشاره السابق جاريد كوشنر.
لكن قطاعاً متزايداً من المحافظين الشباب الذين دعموا ترامب في 2024، ويتابعون ناشطي الرأي مثل تاكر كارلسون وكانديس أوينز، بدأو ينتقدون دولة الاحتلال بشكل متزايد.
فبحسب استطلاع رأي لمركز بيو، يحمل نصف هؤلاء الشباب نظرة سلبية تجاه دولة الاحتلال، خاصة بعد الهجمات على الكنائس الفلسطينية وينتقدون تقديم الدعم العسكري الأمريكي للاحتلال.
وخلال النزاع بين الاحتلال وإيران، قال ترامب إنه أمر طائرات إسرائيلية بعدم قصف إيران للحفاظ على الهدنة التي تفاوض عليها، مضيفًا: “هم لا يعرفون ماذا يفعلون”، ولم يتردد في إلقاء اللوم على كلا الطرفين، لكنه أوضح أنه أكثر انزعاجًا من دولة الاحتلال وقال: “يجب أن أجعل إسرائيل تهدأ الآن.”
واستقبلت قاعدة ترامب تصرفاته بصخب، ومن بينهم النائبة مارجوري تايلور غرين، المدافعة الشرسة عن ترامب والتي أصبحت أول عضوة جمهورية في الكونغرس تعلن أن حرب الاحتلال على غزة هي إبادة جماعية.
فرص ترامب السياسية لضغط على نتنياهو
ويقول محللون إن ترامب يمتلك حرية سياسية أكبر من أي رئيس أمريكي سابق لمواجهة نتنياهو، وقد يختار تشديد موقفه تجاه الاحتلال، وحتى التهديد بوقف تسليم الأسلحة الهجومية المقدمة من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، خصوصًا مع تراجع وعده بإنهاء الحرب في أوكرانيا.
“نتنياهو هو صديق وعدو لترامب، قاعدة ترامب ليست كلها معه، لكن ترامب توصل إلى استنتاج أن انهيار وقف النار هو خطأ حماس، لذلك دعم إسرائيل لمتابعة سياسات قصوى” – روز كلانيك من مؤسسة ديفنس بروريتيز
ورغم الانتقادات، قدم ترامب دعمًا غير مسبوق للاحتلال، ولم يعارض ضرباته على حزب الله في لبنان، غير أن الدولة العبرية تلقت إدانة نادرة من الولايات المتحدة بعد قصفها لكنيسة كاثوليكية في غزة وهجوم مستوطنين على بلدة فلسطينية مسيحية في الضفة الغربية، لكن دون أن يصل هذا النقد حد المساس بمليارات الدولارات من المساعدات الأمريكية، كما اكتفت إدارة ترامب بإصدار بيان يدعو للتحقيق في مقتل مواطن أمريكي يبلغ من العمر 20 عامًا في الضفة الغربية المحتلة.
ورغم تراجع دعم نتنياهو داخل أمريكا، تشير استطلاعات إسرائيلية إلى أن قضايا مثل التهجير القسري للفلسطينيين تلقى تأييدًا واسعًا في الدولة العبرية، حيث وجد استطلاع لـ Geocartography Knowledge Group أن 82% من اليهود الإسرائيليين يؤيدون ذلك.
غضب عربي وتصاعد التوترات
ويقول خبراء إن تجاهل ترامب لحاجة إنهاء الحرب في غزة بما يتجاوز إطلاق الأسرى الإسرائيليين سيخلق له تحديات أكبر في الشرق الأوسط حيث يغلي الغضب الشعبي في الأردن ومصر، وهما شريكان للولايات المتحدة، بسبب مشاهد الفلسطينيين الجياع المحتجزين وهم يحاولون الحصول على الطعام.
وتشير تقارير إلى أن مصر والأردن تعتقدان أن الاحتلال يعتبر أزمة المجاعة فرصة للمضي قدمًا في خطط التهجير القسري، وقد اقتحم محتجون مركز شرطة في جنوب القاهرة، متهمين مصر بالمشاركة في “إبادة الفلسطينيين”، حيث وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تحت تأثير الضغط الشعبي رسالة نادرة لترامب، داعيًا إياه لإنهاء الحرب في غزة.
وقالت روز كلانيك: “لا يوجد منطق في ‘أمريكا أولاً’ حيث تفيد العمليات الإسرائيلية المصالح الوطنية الأمريكية، إنهاء الإبادة الجماعية يحتاج لأن يحدث لأسباب أخلاقية، وكذلك لأسباب استراتيجية.”
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)