بقلم محمد مرتجى
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لقد كان العيش في أحد أحياء غزة التاريخية يعني المرور بالمدينة القديمة في غزة كل يوم خلال ذهابي إلى المدرسة أو إلى صالة الألعاب الرياضية أو حتى لشراء الفلافل.
تشكل المواقع التاريخية في البلدة القديمة في قلب مدينة غزة جزءاً أساسياً من ذكريات طفولتي، فقد قمت بزيارتها مئات المرات وكنت أعرف كل الأشخاص الذين عاشوا هناك، وكنت أعرف الطرق السرية المختصرة لمواقع، مثل قصر الباشا والمسجد العمري الكبير وكنيسة القديس برفيريوس، ولم أكن أتخيل أبداً أن جزءاً كبيراً من تلك المنطقة سوف يختفي يوماً ما.
قد تبدو إعادة بناء المطاعم والمتاجر والأسواق أسهل نظرياً، ولكن واقع غزة قاتم لدرجة أن بعض تلك الأماكن قد لا تعود أبداً، ليس بسبب صعوبة عملية إعادة الإعمار بل لأن أصحاب تلك الشركات وعائلاتهم بأكملها قد تم مسحهم من السجل المدني الفلسطيني!
أنا من بين 33% من الفلسطينيين في غزة الذين ليسوا لاجئين والذين تعود جذور عائلاتهم في المدينة إلى بضع مئات من السنين، حيث كانت عائلتي منقسمة تاريخياً بين حي التفاح وحي الشجاعية المتجاورين، وهما من المناطق القديمة في غزة خارج المدينة القديمة، ولذلك قضيت كثيراً من ساعات طفولتي ونشأتي في تلك المنطقة.
بعد الحرب المستمرة على غزة، أصبحت أشعر بالقلق على الأجيال الجديدة من الأطفال الفلسطينيين الذين لن يتمكنوا من تكوين أي ذاكرة عن تلك الأجزاء القديمة من المدينة كما فعلت!
محو التاريخ
منذ بداية الحرب، قامت اليونسكو بتوثيق الأضرار التي لحقت بما لا يقل عن 50 موقعاً أثرياً يعود تاريخ بعضها إلى آلاف السنين.
لو أخذنا المسجد العمري الكبير كأبرز مثال، فقد كان أقدم وأكبر مسجد في غزة، وتم بناؤه في الأصل ككنيسة في القرن الخامس، وهو شهادة على تاريخها الغني، فقد دمر المغول أجزاء منه في القرن 13، كما ألحق به البريطانيون أضراراً بالغة خلال الحرب العالمية الأولى.
خلال الحرب الحالية، دمرت إسرائيل المسجد بشكل كبير بعد أن تعرض لضربة جوية في أوائل ديسمبر 2023 بعد شهرين من بدء الحرب، وتظهر الصور تدمير المسجد دوناً عن محيطه مما يشير إلى هدف إسرائيل المتمثل في استهداف المسجد على وجه التحديد.
لقد ألحق القصف الإسرائيلي أضراراً بكنيسة القديس برفيريوس التي بنيت عام 425 م والتي يعتقد أنها ثالث أقدم كنيسة في العالم، بالإضافة إلى قصر الباشا الذي يعود تاريخه إلى العصر المملوكي في القرن 13.
حتى لو منعنا المحتل من إعادة بناء مدينتنا فسوف أكتب لكل مطعم قصيدة ولكل حي رواية ولكل بلدة موسوعة، ولو دمرت إسرائيل كل ركن من أركان غزة، إلا أنها لن تستطيع محو تلك الأركان من ذاكرتنا أبداً!
شمل الدمار كذلك العديد من المواقع الأثرية الأخرى خارج البلدة القديمة، مثل مسجد ابن عثمان في الشجاعية حيث عمل والدي جدتي حارساً للمسجد قديماً، ولكن في أوائل ديسمبر 2023، قامت إسرائيل بتدمير المسجد ولم تترك سوى الأنقاض.
قد تبدو إعادة بناء المطاعم والمتاجر والأسواق أسهل نظرياً، ولكن واقع غزة قاتم لدرجة أن بعض تلك الأماكن قد لا تعود أبداً، ليس بسبب صعوبة عملية إعادة الإعمار بل لأن أصحاب تلك الشركات وعائلاتهم بأكملها قد تم مسحهم من السجل المدني الفلسطيني!
قد لا نتمكن في غزة أنا ولا أطفالي، وغيرنا الكثير، من التحدث بمتعة مرة أخرى حين نناقش أفضل المطاعم وعروضها!
سنبني من جديد
الحقيقة أن إبادة المواقع الأثرية يتجاوز مأساة حرمان الأطفال من فرصة التعرف على تراثهم إلى كونه محواً للتاريخ الفلسطيني، فالأمر لا يقتصر على تجميع بقايا الأنقاض معاً بل يتعلق بالخسارة التي تجردنا من هويتنا ووجودنا.
أين القانون الدولي؟ يبدو أنه عاجز أمام هذا العدوان الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص وطمس أحياء بأكملها وتجويع شعب بأكمله، ومع ذلك سأذكر بأن البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 لاتفاقيات جنيف لعام 1949 يحظر “أي أعمال عدائية موجهة ضد المعالم التاريخية أو الأعمال الفنية أو أماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب”.
إن إهمال إسرائيل للقانون الدولي يتجاوز التعبير والوصف، ومع ذلك، فقد قمنا بإعادة بناء المسجد العمري الكبير بعد تدميره عام 1917، وسوف ننهض من تحت الأنقاض ونعيد بناءه مرة أخرى، فإسرائيل
تستطيع هدم مساجدنا وكنائسنا وشوارعنا، لكن لن تكسر روحنا.
سأقولها بكل أمل، حتى لو منعنا المحتل من إعادة بناء مدينتنا فسوف أكتب لكل مطعم قصيدة ولكل حي رواية ولكل بلدة موسوعة، ولو دمرت إسرائيل كل ركن من أركان غزة، إلا أنها لن تستطيع محو تلك الأركان من ذاكرتنا أبداً!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)