لقد دمرت إسرائيل منزل عائلتي… لكن الحب الذي كان في ذلك المنزل لم يزل قائماً

بقلم نور اليعقوبي

ترجمة وتحرير مريم الحمد

خلال أعوام عمري الستة والعشرون، شهدت ما لا يقل عن 4 هجمات إسرائيلية واسعة النطاق على غزة في الأعوام 2008-2009، و2012 و2014 و2021، وقد أسفرت كل منها عن خسائر بشرية كبيرة بين المدنيين في القطاع.

أما منذ أكتوبر عام 2023، فنحن نعيش واحدة من أسوأ الحروب في تاريخنا، فرغم أن الحروب والقصف والحصار المستمر منذ 17 عاماً كانت أموراً ثابتة في حياتي، إلا أنني لم أستطع أبداً الاعتياد على مشاهد الموت والدمار.

كان منزل طفولتي دائماً معرضاً لخطر القصف الشديد، نظراً لقربه من مستشفى الشفاء الذي كان هدفاً مبكراً للجيش الإسرائيلي، ومع ذلك، فقد رفض والدي مغادرة منزله حتى اللحظة الأخيرة وذلك عندما كانت الدبابات تشق طريقها إلى المستشفى

لطالما كانت أخبار القنابل التي تدمر منازل أقاربي وجيراني وأصدقائي مؤلمة، ورغم ذلك لم أفهم أبداً أثر هذه التجربة حتى وصلت المأساة إلى عتبة منزلي!

في كل حرب، كنا نعزي الآخرين ونواسيهم أن بإمكانهم استبدال الأشياء والممتلكات المادية مثل المال، فبالنسبة للفلسطينيين الذين عانوا من النكبة وعانوا من الخسارة تلو الخسارة، فإن إمكانية إعادة بناء حياتهم لم تكن مجرد عبارة فارغة، بل كانت نظرة ضرورية لاستمرار بقائهم على قيد الحياة.

رغم معرفتي بكل ذلك، إلا أنني عندما فقدت منزل طفولتي، شعرت أن تلك الكلمات جوفاء، فحتى لو كان من الممكن استبدال الأشياء، فإن الذكريات التي تشكلت داخل جدران منزلي لا يمكن أن تكون استبدالها أبداً!

دمار شامل

خلال الهجوم العسكري الإسرائيلي على مستشفى الشفاء في 24 مارس الماضي، تلقت عائلتنا التي نزحت الأخبار من أحد الجيران، فقد كان حينا يقع على بعد 800 متر فقط من المستشفى، وبعد أن تمكن جارنا من التنقل عبر أزقة الحي الضيقة، قام بتوثيق الأضرار التي لحقت بالمنطقة وأكد أن القنابل أصابت سطح منزل عائلتي.

اتصل أخي ليبلغني بالخبر، وهنا اجتاحتني موجة من الحزن حيث كنت آمل أن تحدث معجزة وظللت متشبثة بالأمل الكاذب في أن منزلنا سيبقى سليماً بطريقة ما، ولكن بعد غارة استمرت أسبوعين، طوّقت خلالها الدبابات العسكرية والقناصة المستشفى، انسحب الجيش الإسرائيلي من مستشفى الشفاء، وسرعان ما ظهرت تقارير عن الفظائع المروعة التي ارتكبت ضد الأطباء والمرضى والأسر النازحة التي لجأت هناك.

لقد قتلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 300 مدني، وتم العثور على مقابر جماعية داخل المجمع الطبي وخارجه وأحرقت أقسام كاملة من المستشفى والمنازل المجاورة، وبعد الحصار، لم يجد أولئك الذين تمكنوا من الوصول إلى منازلهم وعائلاتهم سوى المزيد من الدمار!

في ذلك الوقت، غامر زوجي بالدخول إلى حي عائلتي المدمر، ولكنه عاد بأخبار صادمة، فمنزلنا العزيز المكون من 4 طوابق كان يعيش فيها والدي واثنين من أعمامي وعائلاتنا، قد أصبح كومة ضخمة من الأنقاض.

لقد كنت أنا الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة من عائلتي في شمال غزة، حيث  تم تهجير والدي وإخوتي وأعمامي وعائلاتهم قسراً من منازلهم قرب الشفاء منذ نوفمبر عام 2023.

ذكريات باتت حطاماً

كان منزل طفولتي دائماً معرضاً لخطر القصف الشديد، نظراً لقربه من مستشفى الشفاء الذي كان هدفاً مبكراً للجيش الإسرائيلي، ومع ذلك، فقد رفض والدي مغادرة منزله حتى اللحظة الأخيرة وذلك عندما كانت الدبابات تشق طريقها إلى المستشفى.

في 2 نوفمبر عام 2023، اتخذ والداي قراراً مؤلماً بحزم حقائبهم والبحث عن ملجأ جنوباً في خان يونس، معتقدين أن الأمر لن يستغرق سوى أيام حتى يتمكنوا من العودة، فيما بقيت أنا في منزلي شمال غزة مع زوجي وابنتي الرضيعة إلى أن شن الجيش الإسرائيلي هجوماً عسكرياً على حي الدرج الذي نسكنه وسط مدينة غزة في ديسمبر عام 2023.

اضطررنا إلى الفرار غرباً فوجدنا أنفسنا في منزل عائلتي الذي تم إخلاؤه قرب الشفاء فمكثنا هناك لمدة شهرين تقريباً، ولكن بمجرد دخولي إلى المنزل، تحول الأمل إلى اليأس بعد أن أصبح منزلنا الذي كان نابضاً بالحياة ذات يوم إلى مكان مظلم ومتضرر، حيث كانت الأبواب مكسورة والنوافذ محطمة.

لقد كان هذا المنزل الذي نشأت فيه بالنسبة لي أكثر من مجرد خرسانة وطوب، فقد تم وضع أسس هذا المنزل بالحب والعمل الجاد والتفاني من قبل والدي، وكانت جدرانه مرتكزة على ذكريات الطفولة التي شكلتني.

لقد كان هذا المنزل هو المكان الذي سيعود إليه إخوتي الأكبر سناً، الذين يعيشون في الخارج، مع أصدقائهم وعائلاتهم على مر السنين، وكان المكان الذي عشت فيه لأكثر من عقدين من الزمن قبل أن أصبح زوجة وأم، وكانت كل زيارة للمنزل بمثابة رحلة عبر ذكرياتي.

كان منزل طفولتي ملاذاً مريحاً بناه جدي منذ أكثر من 30 عاماً في غزة، حيث تعيش العديد من العائلات معاً في مبانٍ متعددة الطوابق يسكنها 3-4 أجيال من عائلة واحدة.

في غرفة معيشة عائلتي كنا نشارك قصصاً لا تعد ولا تحصى وهناك صنعت ذكريات من الدفء والانتماء جعلت زوار المكان يشعرون وكأنهم جزء من عائلتنا، فأنا ما زلت أتذكر كلماتهم الرقيقة حول شهورهم وكأنهم في بيتهم.

أسس المنزل من حب وذكريات تظل غير قابلة للكسر، فهذه الأسس هي التي تمكنني من كتابة هذه الكلمات بروح الأمل رغم حزني العميق على هذه الخسارة الفادحة، إلا أن التزامنا تجاه الأسرة والمجتمع والرغبة في البقاء على قيد الحياة يجعلنا نمضي قدماً، لأننا مصممون على خلق ذكريات جديدة والحفاظ على إرثنا

أذكر أيضاً تعبيرات والدتي المتكررة عن الامتنان لمنزلنا، فكانت تعود إلى المنزل بعد نزهة قصيرة وتقول: “أوه يا نور، ما أجمل منزلنا!، فبالنسبة لأمي، كان منزلنا بمثابة جنتها وكانت تعتز بكل جانب من جوانبه، وتجد السلام في روتينها اليومي وفي الأشياء الصغيرة مثل شرب كوب من الشاي في المساء بعد الانتهاء من واجباتها المنزلية وانتظار عودة والدي من العمل.

لقد علمتني والدتي كيف أحب المنزل، لا أن أعيش فيه فحسب، بل أن أعتبره ملجأً لي، فقد كان الشعور الذي عززه والداي داخل أسواره بالحب والأمان هو الملجأ الوحيد الذي كان لدينا.

الحفاظ على الإرث

لقد تحملت النزوح القسري مع طفلي البالغ من العمر 9 أشهر، ومع ذلك فقد كانت أقسى لحظاتي حين كنت أخشى فقدان منزلي، فأنا لم أستطع إلا أن أبكي بسبب غياب والدي وإخوتي.

ورغم حزن قلبي، إلا أني شعرت بالارتياح لأن منزل عائلتي ظل صامداً وكان المأوى لعائلتي الصغيرة، لنعيش على أمل اللقاء مرة أخرى بوالدي وإخوتي وعائلتي الممتدة، ولكننا اضطررنا للفرار لملجأ آخر قبل أن يأتي ذلك اليوم.

لقد مر الآن أكثر من 10 أشهر منذ آخر مرة رأيت فيها أمي وأبي وإخوتي واحتضنتهم، حيث يواجه العديد منهم مصاعب جديدة، فالبعض في مصر أو نازح من مكان إلى آخر هرباً من القصف الإسرائيلي الذي لا يرحم، والكل يحلم باليوم الذي يمكنه العودة فيه إلى المنزل وجمع الشمل من جديد.

إن الدمار الذي ألحقته إسرائيل ببيوت غزة ومدارسها وجامعاتها وأراضيها الزراعية وكل ما يجعلها صالحة للسكنى، فضلاً عن الجوع والقتل والإصابات التي لحقت بها، قد بلغ مستويات كارثية، فوفقاً للتقارير الأخيرة، فإن ما يقدر بنحو 42 مليون طن من الركام والحطام الذي تحولت إليه غزة قد يستغرق ما يصل إلى 15 عاماً لإزالته بتكلفة لا تقل عن 700 مليون دولار.

ويظل ما يقلق أهل غزة في المقام الأول هو عدد الرفات الذي سيتم الكشف عنه تحت المباني المنهارة، فأولئك الذين كانوا ذات يوم جيراننا، وأبناء عمومتنا وأصدقائنا وأبنائنا وبناتنا ما زال العديد منهم تحت الأنقاض.

ولا تقتصر حملة الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل في غزة على موجة القتل المتواصلة التي أودت بحياة أكثر من 40 ألف شخص خلال 10 أشهر، فقد كان الاستهداف المتعمد للبنية التحتية المدنية سمة أساسية لاستراتيجيتها العسكرية منذ أكتوبر عام 2023، فيما يبدو أنه محاولة لمحو كل ذكرى أو أي أثر للفلسطينيين. 

إن قصة عائلتي هي مجرد واحدة من قصص كثيرة، وهي تذكير بالتكلفة الإنسانية التي يدفعها الأفراد وأسرهم، ونظل نحن بلا شك أوفر حظاً من مئات الآلاف من الأسر التي تحترق الآن في الخيام وتعاني من سوء التغذية وتكافح أمراضاً تهدد حياتها.

رغم أن ممتلكاتنا المادية قد تدمرت، إلا أن أسس المنزل من حب وذكريات تظل غير قابلة للكسر، فهذه الأسس هي التي تمكنني من كتابة هذه الكلمات بروح الأمل رغم حزني العميق على هذه الخسارة الفادحة، إلا أن التزامنا تجاه الأسرة والمجتمع والرغبة في البقاء على قيد الحياة يجعلنا نمضي قدماً، لأننا مصممون على خلق ذكريات جديدة والحفاظ على إرثنا.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة