بقلم آلان غابون
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
يذكرنا فيلم “كارلوس”، تحفة المخرج الفرنسي أوليفييه أساياس، بمدى الأهمية الرمزية والجيوسياسية والدولية للنضال من أجل تحرير فلسطين في السبعينيات والثمانينيات، لقد كان سببًا ألهب الخيال في جميع أنحاء العالم.
وبمرور الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة، يبدو أن المعالم التي صورها أساياس في فيلمه، و الجو السياسي، والمشاعر المكثفة والواسعة المؤيدة للفلسطينيين، ومركزية النضال الفلسطيني، سواء كانت حقيقية أو متصورة، قد تبخرت إلى حد كبير، لدرجة أنه بات من المبرر أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت فلسطين لا تزال قضية مشهورة.
هل ما زالت عاملاً مهماً في العلاقات الدولية؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف؟ وإذا لم يكن، فلماذا؟
من ناحية، يبدو أن الإجابة سلبية، فالاحتلال الإسرائيلي أقسى من أي وقت مضى، والحكومة الائتلافية الجديدة في إسرائيل، وهي الأكثر تطرفا في تاريخ الدولة، يسيطر عليها اليهود المتعصبون والمتطرفون الدينيون، وتواصل إسرائيل استعمارها غير القانوني للأراضي الفلسطينية من خلال حكومة وحشية وعنف المستوطنين، وتهاجم حكم القانون وحتى سياسة الوضع الراهن.
زادت الحكومات الغربية من تعاونها ودعمها لإسرائيل، ويجب أن يكون واضحًا الآن أنه لا أمل في أن تمارس الولايات المتحدة أي ضغط حقيقي ومستمر عليها لتغيير مسارها.
يمكن قول الشيء نفسه عن الدول الغربية الأخرى التي تبدو غير راغبة في اتخاذ إجراءات ملموسة ضد إسرائيل، مثل وقف المساعدة والتعاون، أو حتى مجرد التهديد بفعل ذلك، فأكثر ما ستفعله دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيرلندا وغيرها هو التشدق بحل الدولتين.
تأثير صفري
لم يكن لهذه التصريحات، التي لا معنى لها، أي تأثير على الأطراف الثلاثة الرئيسية المعنية: إسرائيل والولايات المتحدة والفلسطينيين ولا على الوضع القائم على الأرض.
كلما أصبحت إسرائيل متطرفة وغير ديمقراطية وعنصرية وعنيفة وقمعية، كلما زاد الدعم غير المشروط الذي تتلقاه من الغرب
لقد أصبح هذا المزيج من السلبية المتواطئة والجبن المروع والنفاق أكثر وضوحًا الآن، في تناقض حاد مع الجبهة التي صممها الغرب بالإجماع في مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا.
وعندما يتعلق الأمر بقمع واضطهاد الشعب الفلسطيني على مدى عقود، فإن هذا العزم يتبخر على الفور.
في الآونة الأخيرة، صوتت الجمعية الوطنية الفرنسية ضد قرار يدين نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، في ظل تكاتف الجهود من قبل السياسيين من اليمينيين واليساريين الذين يجتهدون لرفض النص.
تخطو فرنسا خطوة إضافية باتجاه إسرائيل من خلال تنفيذ سياسات مناهضة للفلسطينيين مثل قمع الجماعات المؤيدة لهم، وتجريم حملات المقاطعة، والمساواة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية على أعلى مستويات الدولة.
حقائق على الأرض
ومع استثناءات نادرة، يبدو أن الدول العربية تخلت عن القضية الفلسطينية، لسببين رئيسيين: أولاً، إدراكها أن حل الدولتين قد مات من خلال الأمر الواقع على الأرض، حيث تمكنت إسرائيل من خلق وفرض واقع دولة واحدة حصينة وواسعة النطاق.
لم يُترك للفلسطينيين، الذين فقدوا الثقة في سلطاتهم السياسية وفي “المجتمع الدولي” إلا استئناف كفاحهم المسلح على أمل الضغط من أجل تسوية أكثر إنصافًا.
اليوم ولى الحماس الذي ولّدته اتفاقات أوسلو البعيدة، وحل مكانه التعب واليأس ويبدو أن الوضع قد بات مستعصيا على الحل، مع خطر اندلاع انتفاضة جديدة أو موجات جديدة من الانتقام الفلسطيني بسبب عدم وجود بدائل.
التطبيع الإسرائيلي
السبب الرئيسي الثاني وراء تخلي الدول العربية عن القضية الفلسطينية هو أيضًا سبب بنيوي يتعلق بالتطبيع المستمر للعلاقات بين الخصوم الإقليميين السابقين.
في هذه الحقبة الجيوستراتيجية الجديدة من البراغماتية باسم المصالح الوطنية للفرد، لا تظهر فلسطين كأولوية، وغالبًا ما تمثل في الواقع عقبة وإحراجًا.
إنها ضحية لهذا الكم الهائل من عمليات التقارب الإستراتيجي وإعادة الحساب وإعادة الهيكلة.
وأفضل تمثيل لهذا الاتجاه الجديد هو الصفقة الإيرانية السعودية التي توسطت فيها الصين واتفاقات أبراهام التي توسطت فيها الولايات المتحدة.
وبالنظر إلى أن إسرائيل يمكن أن تستمر في احتلال فلسطين والتعامل بوحشية مع الفلسطينيين، مع تطبيع العلاقات مع خصومها العرب السابقين والانخراط أخيرًا في المنطقة فإن الرسالة الواضحة هي أن إسرائيل يمكن أن تحصل على كعكتها وأكلها أيضًا.
لقد أدى ذلك بشكل أساسي إلى إبعاد فلسطين إلى مكانة غير فاعلة في المشهد الدولي الجديد.
يذكرنا الأستاذ حميد دباشي أن القضية الفلسطينية ما زالت تتردد في الوعي العالمي باعتبارها “استعارة للنضالات العالمية الأوسع ضد الاحتلال الاستعماري والظلم”.
إن حركة التضامن الشعبي هذه تحد بشكل فعال من الفصل بين التطبيع مع إسرائيل والموقف من القضية الفلسطينية، وبالتالي تمنع التكامل الإقليمي والدولي الكامل لإسرائيل، على الرغم من التقدم الحقيقي الذي أحرزته مؤخرًا نحو هذا الهدف.
وطالما أن إسرائيل مستمرة في قمعها واستعمارها لفلسطين، ستبقى إلى حد كبير دولة منبوذة وواحدة من أقل الدول شعبية على وجه الأرض.
فحتى في دول مثل الولايات المتحدة، فإن المزيد من الديمقراطيين يقفون الآن إلى جانب فلسطين ضد إسرائيل، كما ظهرت معارضة لعملية التطبيع الإسرائيلي في السعودية.
وفوق كل شيء، يستمر الرأي العام العربي بأغلبية ساحقة في رفض التطبيع طالما لم يكن للفلسطينيين دولتهم الخاصة.
بالنسبة لـ “الشارع العربي”، تبقى فلسطين قضية مقدسة، وربما هي القضية الوحيدة التي توحد الناس خارج الحدود، والأمم، والثقافات، والاختلافات.
وعلى عكس أنظمتهم، فهم ليسوا على استعداد مطلقًا للسماح لإسرائيل بتناول كعكتها وأكلها أيضًا على ظهور إخوانهم الفلسطينيين.