بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
إن كان هناك من أحد يتحمل المذبحة اليومية الحاصلة في غزة، فهو الرئيس الأمريكي جو بايدن، فمنذ الأيام الأولى بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر، صاغ بايدن هذا العمل الوحشي من باعتباره حرباً عادلة، مروجاً لفكرة أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها!
منذ بداية الحرب، كان بايدن هو من أفسد دعوات وقف إطلاق النار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو من جدد مخزون إسرائيل من القنابل والصواريخ الذكية، كما أن الولايات المتحدة تحت إدارته أدارت ظهرها لمحكمتي العدل الدولي الأعلى في العالم.
بايدن يريد الضغط علنياً وبشكل صريح على نتنياهو من خلال تقديم عرض كان يريد إبقاءه طي الكتمان، في الوقت الذي تجري فيه أشياء مختلفة تماماً على الأرض، وبذلك فإن بايدن، مرة أخرى، لا يخدم إلا النتيجة النهائية لإسرائيل، فقد عزز موقف إسرائيل طوال المفاوضات، وسمح بمواصلة الهجوم البري على رفح، كما تبين أنه يدعم حق إسرائيل في مواصلة الحرب بعد الإفراج الأولي عن الرهائن والسجناء!
مؤخراً، صرح بايدن لمجلة تايم قائلاً: ” نحن لا نعترف بالمحكمة الجنائية الدولية”، وهنا هو لا يبالغ بل يعني ما يقول تماماً، وهنا نحن نتحدث عن بايدن وليس عن ترامب!
في غزة، يقترب عدد القتلى المعروف من الفلسطينييين من 40 ألف شخص، وهناك آلاف الجثث تحت الأنقاض، كما تم تدمير أو تضرر أكثر من نصف المباني في غزة، بالإضافة إلى المستشفيات والجامعات والمدارس والملاجئ وأنظمة الصرف الصحي والأراضي الزراعية.
لقد أسقطت إسرائيل على غزة حتى الآن عدداً من القنابل يفوق ما سقط على لندن ودريسدن وهامبورغ مجتمعة خلال 6 سنوات من الحرب العالمية الثانية، وقد تستغرق غزة عقوداً للتعافي من هذا الهجوم.
وفقاً لشبكة “فيوز نت”، وهي شبكة نظام الإنذار المبكر بالمجاعة ومقرها الولايات المتحدة، أنه “من المحتمل أن تبدأ المجاعة في شمال غزة في أبريل”، ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فإنه “من المتوقع أن يواجه أكثر من مليون شخص الموت والجوع” بحلول منتصف يوليو.
تجاوز “الخط الأحمر” في رفح
في ظل هذا السياق، لا يبدو عجيباً إذن أن يفكر ائتلاف من الديمقراطيين، الناخبين العرب والمسلمين والطلاب، في الولايات المتأرجحة في الميل لقيادة ترامب خلال السنوات الأربع المقبلة، وذلك بهدف ضمان أن يكون بايدن آخر رئيس صهيوني لحزبهم.
خلال الأشهر الماضية، قام بايدن بمحاولتين لكبح الحملة التي يشنها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أولهما كانت تهديد نتنياهو بوقف توريد القنابل الثقيلة إذا مضى قدماً في عمليته في رفح، ولكن نتنياهو مضى قدماً في الاستيلاء على معبر رفح وإعادة احتلال ممر فيلادلفيا، وجيشه الآن يتواجد في شرق رفح ويقصف الجزء الغربي منها بشكل متواصل.
في أوائل شهر مايو، أعلن بايدن أن “الغزو الكبير” لرفح سيكون خطاً أحمر، فأين ذهب هذا التهديد بعد نزوح مليون فلسطيني من رفح؟!
عندما سُئل المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي عن عدد الجثث المتفحمة الناجمة عن الغارات الجوية الإسرائيلية، على لسان مراسل سي بي اس الذي سأله: “كيف لا يخالف هذا الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس؟، فرد كيربي بتخبط: “كما قلت، لا نريد أن نرى عملية برية كبيرة، ولا نرى أن إسرائيل تجاوزت الخط الأحمر”.
أما في المحاولة الثانية، فقد كانت المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار، ولكن عند انزعاج مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي منها، سارع بايدن بالإعلان أنه كان يرمي بثقل واشنطن وراء “وقف إطلاق النار الكامل والتام”، معتبراً ذلك عرضاً إسرائيلياً لحماس.
يذكر أن حماس وقعت قبل بضعة أسابيع على وثيقة وقف إطلاق النار تحت أنظار مدير وكالة المخابرات المركزية، بيل بيرنز، وبموافقته الكاملة، لكن مجلس الوزراء الإسرائيلي رفض الوثيقة، ولم تفعل الولايات المتحدة شيئاً إلا الخضوع لرغبة إسرائيل واصفة الاتفاق بأنه “عرض مضاد” لحماس.
تكشف الحقيقة
هذا ما قاله بايدن قبل أيام: “أعرف أن هناك في إسرائيل من سيرفض الموافقة على هذه الخطة وسوف يدعو إلى استمرار الحرب إلى أجل غير مسمى حتى في الائتلاف الحكومي، فقد أوضحوا أنهم يريدون احتلال غزة ومواصلة القتال لسنوات، وأن الرهائن ليسوا أولوية بالنسبة لهم، وأنا بدوري شجعت القيادة في إسرائيل على قبول الصفقة رغم أي ضغوط”.
وأضاف مخاطباً الإسرائيليين: “أطلب منكم التراجع خطوة إلى الوراء والتفكير فيما سيحدث إذا ضاعت هذه اللحظة، لا يمكننا أن نخسر هذه اللحظة، فالحرب غير المحددة بزمن سعياً وراء فكرة غير محددة عن “النصر الكامل” لن تؤدي إلا إلى تعثر إسرائيل في غزة واستنزاف الموارد الاقتصادية والعسكرية والبشرية وزيادة عزلة إسرائيل في العالم”.
كان من الممكن أن يقول بايدن كل هذا منذ 8 أشهر، فلماذا تأخر بها حتى الآن؟! وهنا تجدر الإشارة إلى أن خطاب بايدن ألقى بحكومة الحرب الإسرائيلية في حالة من الارتباك لمدة 48 ساعة، ثم ظهرت الحقيقة، فوصف بايدن لاتفاق وقف إطلاق النار المكون من 3 مراحل لا يتطابق مع الوثيقة التي وقع عليها مجلس الوزراء الإسرائيلي، كما أن الاتفاق المنشور لا ينص على “وقف كامل لإطلاق النار”.
في كلمته، أشار بايدن إلى أنه بعد انتهاء المرحلة الأولى من إطلاق سراح الرهائن والسجناء، سوف تكون هناك محاولة لتثبيت وقف إطلاق النار بينما تستمر المفاوضات بشأن المرحلة الثانية، أما النص المكتوب فهو مختلف تماماً.
يستعد الجيش الإسرائيلي لفتح جبهة ثانية في لبنان، وهذا خط أحمر آخر لدى بايدن يتجاهله نتنياهو بجرأة، فالأخير يراهن على عامل الوقت ويتفوق على بايدن في المناورة، على أمل أن لا يعود بحاجة لمواصلة الحرب مع قدوم ترامب لإنقاذه، وكلما طال أمد هذه اللعبة، أصبح بايدن أضعف
سوف أقتبس هنا من الفقرة 14: “جميع الإجراءات في هذه المرحلة (الأولى)، بما في ذلك الوقف المؤقت للعمليات العسكرية من قبل الجانبين وجهود المساعدة والمأوى وانسحاب القوات، ستستمر في المرحلة الثانية ما دامت المفاوضات بشأن شروط تنفيذ المرحلة الثانية من هذا الاتفاق مستمرة، وعلى ضامني هذا الاتفاق بذل كل جهد لضمان استمرار تلك المفاوضات غير المباشرة حتى يتمكن الجانبان من التوصل إلى اتفاق حول شروط تنفيذ المرحلة الثانية من هذا الاتفاق”.
عبارة “بذل كل جهد” هي المشكلة، فهي لا تلزم إسرائيل بالاستمرار في المرحلة الثانية إذا فشلت المفاوضات، ففشل التفاوض هنا يعني أن إسرائيل سوف تعود إلى الحرب!
التلويح براية بيضاء
الفرق الرئيسي الثاني بين المكتوب وكلمة بايدن هو أن الجدول الزمني الذي سيتمكن فيه الفلسطينيون من العودة إلى منازلهم في شمال غزة قد تم تأجيله، مما يعني من الناحية النظرية، أنه إذا لم يكن هناك اتفاق على المرحلة الثانية، فمن الممكن أن تُستأنف الحرب دون وقت لتحرك السكان!
علاوة على ذلك، فإن النص يمثل خروجاً عن الاتفاقات السابقة حيث تنازلت حماس عن كثير من شروطها المتعلقة بالأسرى الفلسطينيين مقابل إطلاق الرهائن الإسرائيليين، كما أن إسرائيل تطالب الآن باستخدام حق النقض (الفيتو) على مجموعة من 100 أسير يشكلون قيادة فصائل المقاومة الفلسطينية الرئيسية، من أهمهم زعيم فتح الذي يتمتع بشعبية كبيرة والمرشح الرئاسي المحتمل، مروان البرغوثي.
مرة أخرى، يبدو أن بايدن يريد الضغط علنياً وبشكل صريح على نتنياهو من خلال تقديم عرض كان يريد إبقاءه طي الكتمان، في الوقت الذي تجري فيه أشياء مختلفة تماماً على الأرض، وبذلك فإن بايدن، مرة أخرى، لا يخدم إلا النتيجة النهائية لإسرائيل، فقد عزز موقف إسرائيل طوال المفاوضات، وسمح بمواصلة الهجوم البري على رفح، كما تبين أنه يدعم حق إسرائيل في مواصلة الحرب بعد الإفراج الأولي عن الرهائن والسجناء!
إذن، نتنياهو على حق، فالنص لا يدعم ادعاء بايدن بأن وقف إطلاق النار سيكون “كاملاً وشاملاً”، ولذلك فإن توقيع قادة حماس على وثيقة كهذه يعني رفع أيديهم في الهواء والخروج من أنفاقهم والتلويح براية بيضاء، فالاتفاق لن يضمن إنهاء الحرب أو انسحاب القوات الإسرائيلية، أو عودة أكثر من مليون فلسطيني نازح إلى ديارهم، وكانت 8 أشهر من الحرب على وشك أن تذهب سدى!
إضعاف بايدن
لا يمكن أن تفعل حماس ذلك، وبغض النظر عن كون ذلك صحيحاً أم خاطئاً، لكنها تشعر بأنها تنتصر في معركة الإرادات في غزة وترى أن الجيش الإسرائيلي في وضع حرج، فهي رغم الدمار الحاصل في غزة
واثقة من قدرتها على العمل لعدة أشهر قادمة تحت الأرض.
من جانب آخر، وبعد التوقيع على وثيقة واحدة تم تقديمها كصفقة من قبل المفاوضين المصريين والقطريين، لم تعد حماس في مكان يسمح لها بالانحراف عن النص، فقد “تفاعلت بشكل إيجابي” مع خطاب بايدن، ولكنني أعلم من مصادر فلسطينية أنها تعتبر نص العرض الإسرائيلي غير مقبول أيضاً.
اليوم، إسرائيل هي صاحبة الوهم الأكبر في النظرية التي ترى أنه يمكن استمرار أي أمة وهي حالة في حالة حرب دائمة، وليس بايدن، ولكن التاريخ سجل أن ذلك يعتبر وهماً، حيث كان بمثابة نهاية لأكثر من مشروع استعماري استيطاني سابق، وهذا يكفي للإعلان عن نهاية دولة الفصل العنصري في المستقبل غير البعيد
قال لي أحدهم: ” حماس تتحدى الآن بايدن أن يضع ما قاله في خطابه في نص العرض، فهم يريدون ذلك مكتوباً كضمانة على أنه بمجرد بدء تبادل الرهائن والأسرى فإن الحرب ستنتهي”.
يعني ذلك أن هناك فجوات كبيرة بين وصف بايدن لاتفاق وقف إطلاق النار، واتفاق وقف إطلاق النار نفسه، فقد تبين أنهما شيئان مختلفان، وقد بات من الواضح أيضاً أنه كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية، أصبح بايدن أضعف.
يستعد الجيش الإسرائيلي لفتح جبهة ثانية في لبنان، وهذا خط أحمر آخر لدى بايدن يتجاهله نتنياهو بجرأة، فالأخير يراهن على عامل الوقت ويتفوق على بايدن في المناورة، على أمل أن لا يعود بحاجة لمواصلة الحرب مع قدوم ترامب لإنقاذه، وكلما طال أمد هذه اللعبة، أصبح بايدن أضعف.
سوء تقدير كبير
سوف يكون هذا الضعف واضحاً أمام كل الأمريكيين عندما يخاطب نتنياهو الكونغرس متظاهراً بأنه بطل العالم اليهودي المسيحي، فذلك سوف يكون حدثاً يلقي بظلاله المظلمة الطويلة على الولايات المتحدة كقوة عالمية، حيث سوف يشكل حالة من العار لفترة طويلة قادمة.
لقد كشفت الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل مرة أخرى عن قبضة إسرائيل على النخبة السياسية في الولايات المتحدة!
من جانب آخر، فإن إسرائيل ما زالت تكرر نفس الخطأ الفادح بسوء تقدير الحسابات، حيث فضلت دائماً التعامل مع القادة العرب بدلاً من معالجة المشكلة الحقيقية، وهي الشعب الفلسطيني نفسه، وكأنها لا تدرك أن صراعها ليس مع حماس ولا مع فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، بل صراعها مع الشعب الفلسطيني نفسه.
بعد كل معركة، تعتقد إسرائيل بسذاجة أن الفلسطينيين سوف يستسلمون هذه المرة، ولكن الواقع يقول أن كل حرب تخلق قيادة أكثر تصميماً، فكل عائلة قُتل أفرادها هي مجموعة كبيرة من الإخوة والأبناء والأحفاد الذين بقوا على قيد الحياة وباتت مهمتهم الوحيدة في الحياة هي الانتقام.
فلسطين ليست الأندلس في القرن الرابع عشر على أطراف العالم الإسلامي، بل هي تقع في قلب العالم العربي والإسلامي، ولذلك فإن فكرة أن الصراع الفلسطيني سيختفي دون تسوية مشرفة وعودة عادلة للاجئين إلى أراضيهم، إلى جانب الحقوق السياسية الكاملة، هي مجرد أحلام صهيونية.
اليوم، إسرائيل هي صاحبة الوهم الأكبر في النظرية التي ترى أنه يمكن استمرار أي أمة وهي حالة في حالة حرب دائمة، وليس بايدن، ولكن التاريخ سجل أن ذلك يعتبر وهماً، حيث كان بمثابة نهاية لأكثر من مشروع استعماري استيطاني سابق، وهذا يكفي للإعلان عن نهاية دولة الفصل العنصري في المستقبل غير البعيد.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)