بقلم بيتر أوبورن
فقط من خلال إعادة الأخلاق إلى الحياة العامة، ومواجهة النموذج الاقتصادي النيوليبرالي الفاشل وإعادة بناء المملكة المتحدة، يمكن لستارمر محاكاة سلفه الرائع أتلي، وإلا سوف يفشل.
يمكن تقسيم تاريخ بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية إلى ثلاث مراحل متميزة ومتناقضة.
المرحلة الأولى يمكن تسميتها بعصر أتلي وهي مرحلة استمرت من عام 1945 حتى عام 1979، وغالبًا ما كان يتم الاستهزاء برئيس وزراء حزب العمال، كليمان أتلي الذي كان ينتقد نفسه بنفسه، بمقارنته مع ونستون تشرشل، كبديل مخلص له خلال الحرب.
ومع ذلك، كان إنجاز أتلي عميقاً، فقد أسس الديمقراطية الاجتماعية البريطانية، وأنشأ دولة الرفاهية الحديثة وخدمة الصحة الوطنية، وعلى الرغم من قضائه فترة قصيرة نسبيًا كرئيس للوزراء (1945-1951)، إلا أن حكومات حزب المحافظين التي خلفته لم تجرؤ أبدًا على تفكيك نموذجه.
تم ضمان إرث مارجريت تاتشر في عام 1997 بانتصار حزب العمال الجديد بزعامة توني بلير الذي تبنى رؤيتها بدلاً من استعادة رؤية أتلي.
كان فوز تاتشر عام 1979 بالغ الأهمية مثل انتصار أتلي في عام 1945، وإلى جانب رونالد ريغان في الولايات المتحدة، افتتحت مارجريت حقبة من النيوليبرالية، عُرفت بأنها أسواق حرة وبيع أصول الدولة، وتم ضمان إرثها في عام 1997 بانتصار حزب العمال الجديد بزعامة توني بلير الذي تبنى رؤية تاتشر بدلاً من استعادة نموذج أتلي.
لقد انتهى عصر النيوليبرالية اليوم، فقد شكلت الأزمة المالية عام 2008 العلامة الأولى، كما أن الركود العالمي الذي يلوح في الأفق، والديون المتزايدة، وصعود الحمائية، وتسليح الولايات المتحدة للدولار كأداة للسياسة الخارجية، كل ذلك زاد من تقويضها.
هذا هو الحال في بريطانيا، وكأكثر من أي مكان آخر انحطت النيوليبرالية فيها، في فترة زمنية قصيرة وبشكل ملحوظ، إلى نظام نهب رسمي من قبل أعضاء النخبة المالية في الدولة.
إن فكرة أتلي عن المجال العام، التي تمت محاربتها وإن لم يتم تدميرها في عهد تاتشر وبلير، باتت تتعرض لهجوم منظم ووحشي – كما أظهرت سلسلة جديدة من الفضائح في نهاية الأسبوع، وسيكون هناك المزيد في المستقبل.
نظام فاشل
يقودني هذا إلى كير ستارمر الذي سيطر على حزب العمال في نقطة تحول في التاريخ عندما انهارت الإيديولوجية السائدة للنيوليبرالية، في ظل حكومة فاسدة، ومع ذلك، خلال السنوات الثلاث التي قضاها كزعيم للمعارضة، بذل ستارمر كل ما في وسعه لدعم نظام فاشل.
دعونا نأخذ إرث أتلي الأعظم – الخدمة الصحية الوطنية- ففي وقت سابق من هذا الشهر، تبنى ستارمر الموقف النيوليبرالي المتشدد الذي مفاده أن على الخدمة الصحية الوطنية أن “تَصلُح أو تموت”، مع إعطاء القطاع الخاص دورًا أكبر، وهو الموقف الذي دافع عنه بالفعل وزير الصحة في حكومة الظل، ويس ستريتينج.
أوضح ستارمر هذا الموقف الجديد في صحيفة ديلي تلغراف، التي تعتبر لغاية الآن جريدة لليمين التحرري، حتى أنها دعمت ميزانية ليز تروس الكارثية.
حدث نفس الشيء مع النقابات العمالية، إذ رفض ستارمر دعم إضرابات هذا الشتاء ومنع نواب حزب العمال من الظهور في صفوف الاعتصام – على الرغم من استطلاعات الرأي التي تظهر أن العديد من الإضرابات تتمتع بقدر كبير من التعاطف العام.
وبشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فالقصة هنا مماثلة أيضا، فمع تزايد الأدلة على أن مغادرة الاتحاد الأوروبي كانت كارثة بالنسبة للمملكة المتحدة، يؤيد ستارمر نفس الإنكار الذي تبناه رئيس الوزراء، ريشي سوناك، ووزرائه.
يعد هذا الموقف محيرا للغاية لأن جميع استطلاعات الرأي تظهر أن الرأي العام بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد تحول بشكل لا رجعة فيه.
لذا، يبدو أن ستارمر اتخذ قرارًا استراتيجيًا لخوض الانتخابات العامة المقبلة بشروط حزب المحافظين – كداعم للسياسات النيوليبرالية، ولكن كشخص يمكنه إدارتها بشكل أفضل.
لكن هناك تحريف لهذه الاستراتيجية، فقد اختار ستارمر عدم توجيه قيادته لحزب العمل ضد رئيس الوزراء – كما يتوقع من زعيم للمعارضة، بل ضد سلفه جيريمي كوربين، الأمر الذي أدى إلى انحرافات فكرية غريبة، كونه أحد أكبر مساعدي كوربين في الانتخابات العامة لعام 2019.
ومع ذلك، سيقف ستارمر كزعيم لحزب العمال، في الانتخابات المقبلة، التي يجب إجراؤها قبل كانون الثاني/ يناير في عام 2025، كزعيم يوافق على العديد من سياسات حزب المحافظين، لكنه في الوقت ذاته يتنصل من كوربين وجميع أعماله.
لقد تلاعب حزب المحافظين بإستراتيجية ستارمر بلا رحمة، ففي أسئلة رئيس الوزراء أواخر العام الماضي، اتهم سوناك ستارمر بدعم خطط كوربينيت لإلغاء القوات المسلحة والانسحاب من الناتو وإلغاء الرادع النووي.
شيطنة كوربين
كان ستارمر يعلم أن بيان حزب العمل لا يحتوي على أي من هذه المقترحات، لكنه لم يقل ذلك – بل لم يحرك ساكنا دفاعا عن كوربين، حتى عندما تم تلطيخه من قبل المحافظين في البرلمان، فاستراتيجية ستارمر تتضمن الشيطنة الانتقامية لكوربين.
لإعطاء مثال آخر، برأت اللجنة التنفيذية الوطنية لحزب العمال العام الماضي جيني مانسون، الرئيس المشارك لـ “صوت اليهود من أجل العمل”، بعد تحقيق طويل في تأكيدها عبر برنامج Newsnight، الذي يبث على BBC2، أن الادعاءات الخاصة بمعاداة السامية في حزب العمال “مبالغ فيها”.
أصدر حزب العمل الذي يقوده ستارمر هذا الحكم على الرغم من رفض مانسون التراجع عما قالته، ناهيك عن الاعتذار عنه.
هذا هو دفاع ستارمر: إنه لا يسعى إلى النقاء العقائدي، بل إن هدفه الذي لا يرحم هو الفوز في الانتخابات المقبلة، مهما كانت الوسيلة، ويستهدف بشكل أساسي الناخبين المحافظين ممن يعتبرون في منتصف الطريق الذين يتم إبعادهم (كما هو حال أي شخص لائق) من قبل محافظي سوناك غير الأخلاقيين الذين يتصفون بعدم الكفاءة والفساد والجشع الشخصي.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن هذه السياسة سارية، ويقول محافظو الأمة الواحدة، بقيادة المستشار المحافظ السابق كين كلارك، إنهم يريدون فوز ستارمر.
أتوقع أن يحذو حذوهم آخرون، ربما من بينهم وزراء سابقون في الحكومة، ومنهم نجم حزب المحافظين السابق والمنافس على القيادة روري ستيوارت.
أزمة عميقة
هذه هي بالضبط الاستراتيجية التي اتبعها توني بلير قبل فوزه الساحق في الانتخابات العامة عام 1997، إلا أنه غالبًا ما يُنسى أن بلير، كما هو حال ستارمر، كان حذرًا الى حد التوتر، مما قاده إلى تأييد السياسات الاقتصادية لخصمه.
تصرف بلير، مثل ستارمر مرة أخرى، كما لو أن معارضته الرئيسية هي اليسار العمالي (على رأس كل النقابات)، وفي تشبيه آخر له مع ستارمر، كان بلير يسترشد بمجموعات التركيز (وهذا سبب مهم آخر لكون سياسات ستارمر متطابقة تقريبًا مع سياسات سوناك، المهووسة بنفس القدر بهذه التكنولوجيا السياسية الكئيبة).
قد يساعده هذا النهج على الفوز في الانتخابات المقبلة، لكن هذا ليس بالقيادة – وسيجعل الحكومة الفعلية أكثر صعوبة.
لقد دخلت الدولة البريطانية مؤخرا في أعمق أزمة لها منذ انتخاب كليمنت أتلي رئيسًا للوزراء قبل ثلاثة أرباع القرن، ولقد منحت هذه الأزمة ستارمر فرصة تاريخية لمحاكاة سلفه الرائع، من خلال إعادة الأخلاق إلى الخدمة العامة وإعادة بناء بريطانيا، ومع ذلك، لا توجد لديه أي فرصة إذا استمر في تبني نموذج سياسي واقتصادي مفلس.