بقلم ريتشارد فولك
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
خلال الأسبوع الماضي، قررت محكمة العدل الدولية بأغلبية ساحقة أن إسرائيل لم تعد مخولة قانوناً بالتصرف كقوة احتلال في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، مشيرةً إلى أن وجودها الممتد في هذه الأراضي غير قانوني.
وقد اتخذ القرار شكل “رأي استشاري” رداً على “سؤالين قانونيين” طرحتهما الجمعية العامة للأمم المتحدة على محكمة العدل الدولية عام 2022.
رفضت إسرائيل المشاركة في إجراءات المحكمة إلا من خلال بيان مكتوب تعترض فيه على العملية برمتها باعتبارها غير لائقة، بحجة أن موافقة إسرائيل كانت ضرورية قبل أن تتمكن محكمة العدل الدولية من تقييم سلوكها الحكومي قانونياً، حتى في عملية توصف بأنها “استشارية”.
فهل يشكل اعتبار القضية “رأياً استشارياً” لا حكماً رسمياً في قضية “مثيرة للجدل” فرقاً جوهرياً في الوزن السياسي أو السلطة القانونية للنتيجة في هذا التدقيق القانوني الشامل للاحتلال الإسرائيلي المطول للأراضي الفلسطينية؟
هناك سؤال مهم يطرحه الشكل الرسمي والإلزامي للقضية المنظورة أمام محكمة العدل الدولية بطلب من جنوب أفريقيا والتي تزعم أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.
فمن وجهة نظر إسرائيل، لا تختلف هاتان الحالتان كثيراً، باستثناء تركيز محكمة العدل الدولية على المخالفات القانونية المزعومة المرتبطة بـ 57 عاماً من الاحتلال المطول في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية، فتسعى جنوب أفريقيا إلى الحصول على دعم المحكمة لإنهاء الإبادة الجماعية التي بدأت في غزة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وفي كلتا الحالتين، نددت إسرائيل بمحكمة العدل الدولية قائلة انها توصلت إلى استنتاجات قانونية حول تعرض أمنها وحقها في الدفاع عن نفسها للخطر، وبهذا المنطق، تقدم إسرائيل كل الإشارات على تجاهلها لمحكمة العدل الدولية بينما تعمل على “إنهاء المهمة” في غزة، كما تواصل السياسات والممارسات المرتبطة بنهجها تجاه الاحتلال منذ عام 1967.
“لن يوقفنا أحد”
لقد جاءت لغة الرفض الاحتلال واضحة، حيث أشار مكتب رئيس وزرائه في بيان إلى أن: “إسرائيل لا تعترف بشرعية المناقشة في محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن شرعية الاحتلال وهي خطوة مصممة للإضرار بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد التهديدات الوجودية”، أو كما يقول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في لغته الأكثر فظاظة: “لن يوقفنا أحد”.
على المستوى السطحي، يبدو أن هذا التقارب شبه الكامل للنتائج يهمل التمييز المقصود بين ما هو “استشاري” (وبالتالي غير ملزم) وما هو “إلزامي”.
وعند النظر في الأمر بمزيد من التأمل، يتبين لنا أن هذا التقارب أعمق كثيراً، وهو يرتكز إلى الفقه المتطور لمحكمة العدل الدولية أكثر من امتداده إلى انتقادات إسرائيل للعملية ورفضها تنفيذ الأحكام في كلتا الحالتين.
ففي قرارها المطول التاريخي بشأن قضية الاحتلال الإسرائيلي، توصلت محكمة العدل الدولية إلى تسعة استنتاجات، لم يعارض أي منها أكثر من أربعة من القضاة الخمسة عشر المشاركين.
“يقدم هذا الرأي الاستشاري دعماً موثوقاً مهماً للعديد من المظالم الفلسطينية المركزية”.
إن هذا المستوى من الإجماع القضائي في مثل هذا الجو السياسي المستقطب يدعم النظر إلى قرار المحكمة باعتباره قراراً موثوقاً به عندما يتعلق الأمر بتقييم سلوك إسرائيل كقوة احتلال فيما يتعلق بالقانون الإنساني الدولي، وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة التي تحكم الاحتلال الحربي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وخاصة المعاهدة التي تحظر التمييز العنصري.
ويتعزز هذا الإجماع من خلال التعليقات الإضافية من القضاة من بلدان الجنوب العالمي بما في ذلك الصومال ولبنان التي تذهب إلى أبعد من الرأي الاستشاري نفسه لاستكشاف مدى أهمية الخلفية الاستعمارية التي تشكل احتلال فلسطين.
ومن الجدير بالذكر أيضاً أن القضاة الأميركيين والأستراليين أدلوا بأصواتهم بما يتماشى مع إجماع محكمة العدل الدولية، على الرغم من أن حكومتي البلدين من المؤيدين المتحمسين للاحتلال، وتغلقان عينيهما عن إجرامه في كل من الاحتلال الطويل والإبادة الجماعية في غزة.
أولوية الجغرافيا السياسية
وكما حدث في قضية جنوب أفريقيا، حظيت محكمة العدل الدولية بقبول واسع النطاق لوضعها القانون بوضوح قبل الهوية الوطنية، وهذا النوع من الأولوية مفقود في الأجهزة السياسية للأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن، حيث تحظى الأعلام التابعة بأسبقية لا جدال فيها، وللتأكد من الحفاظ على أولوية الجغرافيا السياسية، تحصل الدول الخمس دائمة العضوية على حق النقض، مما دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الاعتراض بكلمات موجزة: “العالم أكبر من خمس دول”.
تصوغ محكمة العدل الدولية جوهر تحليلها القانوني بلغة تهدف إلى أن تكون ملزمة فيما يتصل بإسرائيل، فهي توجه جميع الدول والأمم المتحدة نفسها إلى تنفيذ أحكامها بشأن مسائل عدم الشرعية وعواقب عدم شرعية إسرائيل، ورغم أن القرار يحمل وصف “استشاري”، كما يقتضي إطار عمل محكمة العدل الدولية، فإن تصريحاتها بشأن القانون تُصاغ وكأنها ذات حجية، وهي مدعومة من قِبَل الأغلبية الساحقة من القضاة.
ويبدو أن محكمة العدل الدولية تزعم أيضاً أنها تتمتع بالسلطة اللازمة لإبلاغ ثلاث فئات من الجهات الفاعلة السياسية، إسرائيل، وجميع الدول والأمم المتحدة، بالتزاماتها فيما يتصل بالنتيجة الجوهرية التي توصلت إليها والتي مفادها أن الوجود الإسرائيلي المطول لم يعد قانونياً وينبغي إنهاؤه في أسرع وقت ممكن.
وفي عملية التوصل إلى هذا الاستنتاج الجاد، وجدت محكمة العدل الدولية أن إسرائيل مسؤولة عن عرقلة حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وضم الأراضي الفلسطينية بالقوة ظلماً، وانتهاك اتفاقية جنيف الرابعة من خلال مشروعها الاستيطاني واسع النطاق، والاعتماد على سياسات وممارسات تمييزية لإدارة الأراضي المحتلة.
ولقد زعم القضاة القلائل الذين رفضوا الموافقة على هذه النتائج أن إجراءات محكمة العدل الدولية لم تأخذ في الاعتبار المخاوف الأمنية الإسرائيلية والحجج المضادة بشكل كاف.
وبغض النظر عن ذلك، فإن هذا الرأي الاستشاري يقدم دعماً موثوقاً مهماً للعديد من المظالم الفلسطينية الجوهرية فيما يتصل بالقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان، وخاصة فيما يتصل بشرعية السياسات والممارسات الإسرائيلية المثيرة للجدل في الأراضي المحتلة، والواجب القانوني لإسرائيل والدول الأخرى والأمم المتحدة لمتابعة هذا القرار بإجراءات ملموسة.