بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
منذ انطلاق الجولة الأخيرة من عدوان الإبادة الجماعية الذي تشنه إسرائيل بدعم غربي ضد الشعب الفلسطيني، تعلم الأميركيون عبارة جديدة: “من النهر إلى البحر”.
ومع إحاطتهم الأسطورية بجغرافيا العالم، إلا أن علينا أن نعذر حيرة الأمريكيين بشأن أي نهر وأي بحر هما اللذان يشير إليهما الشعار، وما سبب كل هذا الضجيج حول هذا الموضوع.
ينبغي علينا جميعًا أن نكون ممتنين، إذا جاز التعبير، لوسائل الدعاية الصهيونية الرائدة في مجال الإعلام الغربي لجلبها انتباه جمهورها إلى مثل هذه المصطلحات، فكل ما بات يتعين علينا فعله الآن هو معاكسة تحريفاتهم للحقائق ذات الصلة.
ففي هذه العبارة القصيرة “من البحر إلى النهر” تتصارع ثلاثة معانٍ مختلفة جذريًا للاستحواذ على انتباه الجمهور، أولًا وقبل كل شيء، حقيقة أن المستعمرة الاستيطانية الأوروبية الأمريكية في إسرائيل تمارس سعيها لتكون ممتدةً “من النهر إلى البحر” في فلسطين.
أما المعنى الثاني، فهو الشعار الذي يرفعه الفلسطينيون ليتحدوا به السرقة الجماعية لوطنهم، في حين يتمثل المعنى الثالث في الطريقة الحكيمة التي أعاد بها المثقفون الفلسطينيون مثل إدوارد سعيد صياغة هذه العبارة بعمق.
دعونا نلقي نظرة فاحصة على هذه المعاني الثلاثة المتباينة.
مع ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في حرب غزة، والذي تجاوز الآن 15000، قرر كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، بريت ستيفنز، أن هذه لحظة مناسبة لكتابة أن “معاداة السامية هي الكراهية التي لا تعرف نفسها” فكثير من الناس الذين يسمون أنفسهم مناهضين للصهيونية أو يهتفون “من النهر إلى البحر، فلسطين سوف تتحرر” ينكرون بشدة تورطهم في سلوك معاد للسامية.
لكن ستيفنز والصحيفة التي توظفه وآلة الدعاية الصهيونية برمتها فشلوا في توضيح حقيقة أن أكثر ممارسي العمل بمقتضيات شعار “من النهر إلى البحر” حماسةً هم الإسرائيليون، وليس الفلسطينيون ومؤيدوهم حول العالم.
الهيمنة الإقليمية
يشمل شعار “من النهر إلى البحر” عملية السرقة المخططة والمُمارسة والمشار إليها باسم “إسرائيل الكبرى”، وهو الاسم الذي يطلق على هدف تل أبيب المتمثل في سرقة المزيد من الأراضي من الفلسطينيين ودول المنطقة الأخرى.
قد يفهم اليهود في جميع أنحاء العالم هذه العبارة على أنها إشارة إلى “وطنهم التاريخي”، ولكن في ظل المنطق الممتد للاستعمار البريطاني الذي خلق هذه الكارثة، والإمبريالية الأمريكية التي تدعمها الآن، أصبحت إسرائيل قاعدة عسكرية للقوى الإقليمية الغربية المهيمنة.
أما الفلسطينيون، فيستخدمون عبارة “من النهر إلى البحر” بطريقة معاكسة، إنهم يستخدمونها لاستعادة وطنهم السليب، لقد حولوا السطو المسلح على وطنهم إلى شعار لحركة التحرر الوطني وكفاحهم ضد الاستعمار.
وهناك قراءة ثالثة، يكاد يكون من المستحيل الآن حتى تخيلها، وهي أن قراءة هذه العبارة جزء لا يتجزأ من فكرة حل الدولة الواحدة، كما دعا إليها الراحل إدوارد سعيد، الذي كان الضمير الأخلاقي لتحرير فلسطين.
ففي مقال نشره عام 1999، قدم سعيد وصفًا بسيطًا وأنيقًا لهذه الفكرة قائلاً: “البداية هي تطوير شيء مفقود تمامًا من الواقع الإسرائيلي والفلسطيني اليوم وهو فكرة وممارسة المواطنة وليس المجتمع العرقي أو العنصري، باعتباره المبدأ الرئيسي ووسيلة التعايش، وفي الدولة الحديثة فإن جميع أفرادها يعتبرون مواطنين بحكم وجودهم وتقاسمهم الحقوق والمسؤوليات، وبالتالي فإن المواطنة تمنح اليهودي الإسرائيلي والعربي الفلسطيني نفس الامتيازات والموارد”.
إن هذا الحل الكريم السخي المتسامح والعملي تماماً، والذي فقده الصهاينة بالكامل، يحول فكرة “من النهر إلى البحر” إلى وطن لكل من اليهود والفلسطينيين، وهو بعيد كل البعد عن الاستيلاء الجشع الذي يمارسه الإسرائيليون.
بينما أكتب هذا العمود، ينشغل الإسرائيليين في سعيهم المستمر والمنهجي لاستئصال الفلسطينيين من وطنهم، بينما يواصل المروجون للدعاية في الغرب إلقاء اللوم على الفلسطينيين وإهانتهم والتشهير بهم لمجرد محاولتهم استعادة شعار ما.
ومن تل أبيب إلى نيويورك، يفتقر الصهاينة حتى إلى أي حجة معقولة لاستمرار ذبح الفلسطينيين، فليس من قبيل الصدفة أن القوات الإسرائيلية استهدفت الأطفال على وجه الخصوص، بل كان ذلك بهدف قتل مستقبل فلسطين.
لكن مقابل كل طفل فلسطيني يُقتل، سيظهر العديد من الأطفال الآخرين الذين سيعملون لاستعادة وطنهم، من النهر إلى البحر، وطن سيتمكن فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون وغيرهم ذات يوم من العيش بسلام، وسيتركون كابوس الصهيونية خلفهم.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)