بقلم جوزيف مسعد
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لطالما اعتبرت الديموغرافيا أحد أهم العوامل في تحديد بقاء المستعمرات الاستيطانية الأوروبية من عدمها حول العالم، فإذا لم يتمكن المستعمرون البيض من القضاء على غالبية السكان الأصليين، فإن استعمارهم مهما طال أمده سوف ينتهي في نهاية المطاف، كما أن الديموغرافيا تعد السبب الأساسي في استمرار المستعمرين البيض في السلطة في أستراليا والولايات المتحدة وكندا حتى اليوم، واستمرارها في دول مثل الجزائر وتونس وليبيا والمغرب وكينيا وأنغولا وموزمبيق وروديسيا، وخسارتها في جنوب أفريقيا على الجانب الآخر.
في أمريكا اللاتينية، لم يتمكن المستعمرون البيض من قتل معظم السكان الأصليين، مما أدى إلى الاختلاط العرقي واختزال البيض إلى الأقليات، رغم استمرارها في ممارسة السلطة مع الأجناس المختلطة.
عدد اليهود لا يتعدى 6.6 مليون يهودي، وهكذا أصبح اليهود أقلية مرة أخرى في فلسطين التاريخية، الأمر الذي يعجل من حقيقة توقع أن الاستعمار الاستيطاني اليهودي بدأ بالتراجع العكسي
أما إسرائيل، فهي مثيرة للاهتمام في هذا السياق، فقد أقامت أغلبية ديموغرافية من خلال خلق مستعمرات استيطانية غالبيتها من اليهود عن طريق التطهير العرقي عام 1948، مؤسسة بذلك لمستقبل استعماري دائم، وبعد احتلالها للأراضي الفلسطينية عام 1967، أصبح هناك ما يقرب من مليون فلسطيني تحت حكمها، فعادت إسرائيل إلى وجود أقلية يهودية خاصة في العقدين الأخيرين.
أرقام تتراجع
من أجل استمرار هيمنة حكم الأقلية اليهودية، ثبت أن مجموعة القوانين العنصرية التي وضعتها إسرائيل بعد عام 1948 لم تعد كافية، مما دعا إلى استصدار قانون “القومية اليهودية” عام 2018، لضمان التفوق اليهودي في المستعمرة الاستيطانية بغض النظر عن الحقائق الديموغرافية التي تؤكد أن أعداد اليهود آخذة بالانخفاض.
نشأ عن ذلك كله قتال يهودي داخلي، ظهر فيه جناحان ينتميان إلى فكرة التفوق اليهودي بشدة، جناح ديني أصولي عنصري وصريح شبه فاشي يمثله عدد من أفراد الحكومة اليوم، وجناح ديني عنصري ذو وجه علماني يقدم نفسه كشكل من أشكال الليبرالية المتسامحة، كلا الجناحين يدعمان السيادة اليهودية وإنكار حقوق متساوية للفلسطينيين، بل ويتنافسان في ابتكار الخطط للتخلص من الفلسطينيين، ومن هنا عاد التطهير العرقي الذي اقترفه الجناح الثاني، نقطة نقاش رئيسية في أجندة الأصوليين من الجناح الأول الذين أصبحوا في السلطة اليوم.
تجدر الإشارة إلى الإصلاحات التي يتحدث عنها هؤلاء الأصوليون تتمثل في تعزيز قدرتهم على طرد الفلسطينيين واضطهادهم، وفي نفس الوقت، لا تُفهم معارضة الليبراليين للإصلاحات على أنها قلق على الفلسطينيين، بل على أن تؤثر التعديلات على حقوق الليبراليين وحرياتهم في إسرائيل ليس إلا!
يظهر الإحصاء السكاني الأخير في إسرائيل أن عدد اليهود أكثر من 7 ملايين بقليل، بينما يبلغ عدد الفلسطينيين داخل إسرائيل حوالي 2 مليون شخص، ويعيش 3 ملايين آخرين في الضفة والقدس الشرقية، وأكثر من 2 مليون في غزة، وبذلك تظهر الأرقام أغلبية فلسطينية طفيفة لكنها تتزايد.
بناء على الأرقام، أصدر رئيس المنظمة الصهيونية الأمريكية، مورتن كلاين، مؤخراً طلباً إلى إسرائيل لحثها على التخلي عن تأسيس اليهودية كما ورد في قانون العودة، خاصة المهاجرين اليهود من مناطق الاتحاد السوفيتي السابق، مشيراً إلى أن قانون العودة يؤدي إلى “إزالة تهويد إسرائيل، خاصة في ظل تقلص الأغلبية اليهودية بمعدل 1% كل 3 سنوات داخل إسرائيل، ففي 30 سنة مضت، تقلصت الاغلبية اليهودية 10% وهي الآن 73.6% فقط حيث انخفضت 84%”.
لم تقدم القوى الإمبريالية أي حلول للفلسطينيين، بل تركز الدعم للمستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية بأغلبية ديموغرافية باعتباره مشروعاً لا رجعة فيه
لا تشمل هذه الأرقام الفلسطينيين في القدس الشرقية والضفة وغزة، ولكنها تشمل نصف مليون مهاجر يهودي سوفيتي لا يعتبره قانون العودة اليهودي “يهودياً”، مما يعني أن عدد اليهود حسب إحصاءات المنظمة لا يتعدى 6.6 مليون يهودي، وهكذا أصبح اليهود أقلية مرة أخرى في فلسطين التاريخية، الأمر الذي يعجل من حقيقة توقع أن الاستعمار الاستيطاني اليهودي بدأ بالتراجع العكسي.
التراجع العكسي للاستيطان
في حالة الجزائر، وقع التراجع العكسي في الاستيطان عندما حصل الجزائر على الاستقلال، فقد منح الجزائريون الأقلية الفرنسية المستعمرة المساواة وأوقفوا امتيازاتهم، الأمر الذي يعتبره المستعمرون مصيراً أسوأ من الموت، ولذلك غادر الفرنسيون إلى بلدهم الأم.
وفي حالة روديسيا، سارعت بريطانيا والولايات المتحدة في نهاية السبعينات إلى مساعدة الأقلية من المستعمرين البيض وحماية امتيازاتهم، خشية أن يكون مصيرهم مثل مصير مستعمري أنغولا والموزمبيق إن لك الجزائر.
أما في زيمبابوي، فقد كان الثوار مستعدين للحوار والتسوية، ولذلك طلبوا من الدولة المستعمرة بريطانيا المساعدة، بالتحالف مع الطبقة الإفريقية الصغيرة ملاك الأراضي والبرجوازيين، من أجل مساعدتهم للحصول على الاستقلال والمساواة، مقابل الحفاظ على امتيازات المستعمرين البيض في زيمبابوي.
أصبح النموذج في روديسيا مخططاً لإنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عام 1994، ولكن على عكس روديسيا وجنوب إفريقيا، لم تقدم القوى الإمبريالية أي حلول للفلسطينيين، بل تركز الدعم للمستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية بأغلبية ديموغرافية باعتباره مشروعاً لا رجعة فيه.
الاقتراب من النهاية
رغم رغبة القوى الإمبريالية، إلا أن الواقع الديمغرافي تغير بشكل كبير منذ تسعينيات القرن العشرين، حتى أن منظمات حقوق الإنسان الليبرالية بدأت في تسمية إسرائيل “دولة الفصل العنصري” في السنوات الأخيرة، وفي الوقت نفسه، بدأ الصهاينة الليبراليون بتبني أو على الأقل توقع حل الدولة الواحدة، على غرار جنوب إفريقيا، من أجل حماية الامتيازات الاستعمارية اليهودية، والحفاظ على السيادة الاقتصادية اليهودية بشكل كامل ودائم مقابل التنازل عن جزء من السيادة السياسية.
هل ستسمح المقاومة الفلسطينية للبرجوازية الفلسطينية بقبول حل إمبريالي استعماري نيابة عن الشعب الفلسطيني، أم أن المقاومة ستفرض أمراً واقعاً مناهضاً للإمبريالية والاستعمار من خلال الإصرار على الاستقلال التام؟
أما المتعصبون اليهود من كلا الجناحين، بما فيها حزب الليكود، مرعوبون حتى من احتمال المساواة ولو شكلياً في حل الدولة الواحدة، ولذلك يعتبرون أن الحل يكمن في نكبة ثانية، ولكن تزايد هذه الدعوات وتردد صداها بين شخصيات إسرائيلية سياسية موجودة في مراكز صنع القرار اليوم، يدل على الشعور باقتراب نهاية المستعمرة الاستيطانية بالفعل!
أدى ذلك الخوف إلى دق جرس الإنذار، ليس بين المستعمرين اليهود فقط، ولكن بين مؤيديهم في المستعمرات الاستيطانية البيضاء حول العالم أيضاً، ففي السنوات الأخيرة، عبر مسؤولون إسرائيليون عن قلقهم إزاء بلوغ إسرائيل الذكرى المئوية لتأسيسها من عدمه، أو حتى الذكرى الثمانين!
في هذا السياق، تعد الدعوات لنكبة ثانية مجرد إجراءات يائسة من قبل مستعمرة استيطانية باتت تدرك مصيرها، وإن استغرق عدة سنوات، ربما على الفلسطينيين إذن الاستعداد لما بعد إسرائيل، هل سيكون المستقبل الذي يمنح المساواة للجميع كما حصل في الجزائر، أم مستقبل يحافظ على الامتيازات الاقتصادية الاستعمارية على غرار جنوب أفريقيا؟
لو كان الأمر يرجع للطبقة البرجوازية الفلسطينية التي رعت حل الدولتين وأوسلو، فهي بالتأكيد سوف تذهب لخيار جنوب أفريقيا، فالفلسطينيون الأثرياء يفضلون التعاون مع القوى الاستعمارية وهذا ما ظهر منذ الانتداب البريطاني عام 1917، وقد كان للأثرياء لاحقاً دور في تخفيف مطالب التحرير لدى منظمة التحرير الفلسطينية، وأصروا على أن تكون الولايات المتحدة هي الحكم بين الفلسطينيين ومستعمريهم، تماماً مثل الأقلية الغنية في روديسيا، الذين طلبوا وساطة بريطانيا.
ما زالت النخبة الفلسطينية تتطلع حتى اليوم إلى الحلول المفروضة من قبل الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، فالحقيقة، أن “الحلول” تلك لم تؤثر على طبقة رجال الأعمال الفلسطينيين منذ الانتداب وحتى اليوم.
السؤال الذي يواجه الفلسطينيين اليوم ليس إذا ما كانت إسرائيل ستنتهي، بل ما الذي سيحصل بعدها وماذا سوف يحل محلها؟ هل ستسمح المقاومة الفلسطينية للبرجوازية الفلسطينية بقبول حل إمبريالي استعماري نيابة عن الشعب الفلسطيني، أم أن المقاومة ستفرض أمراً واقعاً مناهضاً للإمبريالية والاستعمار من خلال الإصرار على الاستقلال التام؟ لا أحد يستطيع التكهن.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)