يتهرب المثقفون الأمريكيون المعارضون للسياسة الأمريكية الخارجية دوما من مسؤوليتهم الرئيسة تجاه كوكبنا، لا سيما عندما لا يعيرون أي اهتمام للتأثير الذي سيخلفه تصويتهم في الانتخابات العامة لمرشحين سيكون لسياساتهم وقراراتهم أعظم الأثر على بقية الكرة الأرضية. وتبدو حقيقة أن الولايات المتحدة هي القوة القاهرة التي تسيطر على أغلب بلدان العالم منذ عام 1990، إن لم يكن قبل ذلك، غير ذات أهمية بالنسبة لهؤلاء الأمريكيين الذين يتظاهرون بالكوزموبوليتانية أو حتى بانتمائهم إلى العالم ككل وليس فقط إلى دولتهم. فعادة عندما يدور الحديث عن كوكبنا بوصفه “قرية عالمية”، لا تتم الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تهيمن على هذه “القرية”. وفي ظل نظام الفصل العنصري العالمي الذي نعيش فيه، لا يحق سوى للأمريكيين بالتصويت للقوة التي تسيطر على بقية العالم، وهي حقيقة لا ينكرها إلا قلة من هؤلاء المثقفين والأكاديميين “العالميين”، ولكنهم عندما يقومون بالمشاركة في الانتخابات الأمريكية العامة فإنهم يهتمون في المقام الأول بالتأثير الذي قد تخلفه أصواتهم على الولايات المتحدة حصريا.
لقد ظللتُ لعقود من الزمان أُسائل هؤلاء المثقفين والأكاديميين الذين يتظاهرون بالعالمية؛ كيف يمكنهم عندما يشاركون بالانتخابات أن يأخذوا في الاعتبار فقط تأثير سياسات الحزب الديمقراطي أو الجمهوري على الشؤون الداخلية التي تؤثر على نحو 345 مليون أمريكي، مقارنة بسياسات الحزبين العالمية والتي تؤثر على 8 مليارات نسمة من سكان الأرض.
الجواب الجاهز دائما وأبدا هو أن كلا الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة يتبنيان سياسات إمبريالية على المستوى العالمي، بينما ينحصر الخلاف بينهما في القضايا الداخلية. من هنا، يظهر خيار التصويت لصالح “الشر الأقل” وكأنه استراتيجية مبررة، حيث يتم الدفاع عن هذا الخيار كخير مطلق بغية التغلب على “الشر الأكبر”. غير أن هذا المنطق يغض الطرف عن مصير مليارات البشر حول العالم الذين تخضعهم الولايات المتحدة لهيمنتها وتقمعهم بشكل مباشر أو غير مباشر، مقابل تحقيق بعض الإصلاحات الداخلية التي تمسُّ فقط شريحة من الطبقة الوسطى في أمريكا، والتي تعد، إلى جانب الأثرياء الأمريكيين، المستفيد الرئيس من السياسات الإمبريالية التي تفرضها الولايات المتحدة عبر القمع والاستغلال على شعوب العالم الأخرى.
هذا الواقع يكشف زيف “النزعة العالمية” التي يتظاهر بها هؤلاء المثقفون والأكاديميون، والذين يدّعون بأنهم “مواطنو الكرة الأرضية” وليسوا فقط أمريكيين، خاصة بعد تنامي اهتمامهم في العقدين الأخيرين بأزمة المناخ. إلا أن هذه النزعة العالمية تتلاشى في كل مرة يشاركون فيها في الانتخابات العامة، حيث يظهر بوضوح انحيازهم للمصالح المحلية القومية، ودعمهم المطلق لمبدأ “أمريكا أولا”.
كان المعارض الأمريكي المناوئ للإمبريالية نعوم تشومسكي قد زعم ذات مرة باستخفاف أنه لا يمكن لأي شعب تهيمن عليه الولايات المتحدة في عالمنا أن يهزم الإمبراطورية الأمريكية ومندوبيها الاستعماريين في أوروبا، وأن المعارضة الناجحة للسياسات الإمبريالية لا يمكن أن تأتي إلا من الأمريكيين ومن شعوب أوروبا الغربية: “ليس هنالك سوى بعض الخيارات الواقعية القليلة في العالم كما هو قائم، ما لم تصل شعوب القوى الكبرى إلى مستوى من الحضارة يتجاوز أي شيء نراه الآن وتكبح جماح عنف الدول التي تهيمن على النظام الدولي”. وأضاف بقدر كبير من الثقة: “أما بالنسبة لحركات التحرير في العالم الثالث في فترة الستينيات، فلم أكن أعتقد أبدا أن بمقدورها أن تقدم أي دروس مفيدة للاشتراكيين الغربيين”.
ورغم أن تشومسكي أعلن هذا الكلام في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، فإن كلامه هذا جزء من نقاش مهم يعود تاريخه على الأقل إلى العقد الأول من القرن العشرين حول أهمية حق تقرير المصير للشعوب المستعمَرة، وما إذا كان نضالها ضد الاستعمار والإمبريالية هو النضال الأساسي الذي من شأنه أن يساعد في هزيمة الإمبراطوريات الاستعمارية. وكان الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في هذا النقاش حول المسألة الاستعمارية قد جرى في أوائل عشرينيات القرن العشرين داخل الأممية الشيوعية، وتركز النقاش حينها حول مسألة “أرستقراطية العمل”، أي الطبقة العاملة في الدول الإمبريالية والاستعمارية، والتي، كما زعم الناشط الشيوعي الهندي مانابيندرا ن. روي، لن تكون أبدا حليفة للعمال والفلاحين في البلدان المستعمَرة، حيث كانت القوى الإمبريالية ترشو طبقاتها العاملة بالأرباح التي تجنيها في المستعمرات.
ففي حين اعتمدت السياسة السوفييتية في هذه الفترة على توقعها بانتصار الثورات الاشتراكية وسيطرتها على الدول الاستعمارية الأوروبية، والتي من المفترض أنها بعد نجاح ثوراتها ستساعد في تحرير المستعمَرات (وهو الموقف الذي أعاد السوفييت النظر فيه في عام 1921 بعد هزيمة الثورات الأوروبية واندلاع الانتفاضات المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء العالم المستعمَر)، زعم روي أن تحرير العالم المستعمَر هو في الواقع الشرط المسبق والضروري لتحرير العالم المستعمِر، وهو الموقف الذي كان متسقا مع موقف فلاديمير لينين بشأن هذه المسألة، لكن الأخير لم يضعه كشرط مسبق.
وقد تبنى هذا الموقف أيضا المفكر المناهض للاستعمار فرانز فانون الذي أدرك في أوائل ستينيات القرن العشرين أن المستعمَرين (بفتح الميم) وحدهم هم القادرون على هزيمة النهب الإمبريالي المستمر الذي يمارس على طول وعرض الكرة الأرضية، وخاصة في ظل تواطؤ الليبراليين والاشتراكيين البيض في البلدان المستعمِرة، والذين هم، مثل أرستقراطية العمال البيض، مستفيدون مباشرون من النظام الإمبريالي: “ابتعدوا عن أوروبا هذه التي لا تتوقف أبدا عن الحديث عن الإنسان، في حين تقتل البشر أينما وُجدوا، في كل زاوية من شوارعها، وفي كل بقعة من بقاع الأرض”. وأضاف فانون: “قد تجد بعض الأوروبيين الذين يحثون العمال الأوروبيين على تحطيم هذه النرجسية والانفصال عن هذا الوضع غير الواقعي، ولكن بشكل عام، لم يستجب عمال أوروبا لهذه الدعوات؛ لأن العمال يعتقدون أيضا أنهم جزء من المغامرة الهائلة للروح الأوروبية”.
أستشهد بهذا التاريخ لإظهار أن العديد من الشيوعيين في عشرينيات القرن العشرين، مثل معظم الليبراليين والاشتراكيين البيض حينئذ كما اليوم، كانوا يضمرون مثل هذه المركزية الأوروبية؛ وكانوا دائما على استعداد للتضحية بمصير بقية العالم في سبيل انتصار الثورات الأوروبية في حالة الشيوعيين، أو الإصلاح المحلي في حالة الليبراليين، أو حتى الأناركيين مثل تشومسكي، في الولايات المتحدة.
كيف يمكن للمرء أن يفسر التعاون المستمر بين المثقفين الليبراليين واليساريين، وخاصة الأكاديميين منهم، في الغرب، مع النظام الإمبريالي واحتقارهم لبقية العالم أو إهمالهم وتجاهلهم له على الأقل؟ لماذا ما يحركهم اليوم هي مسألة المناخ، وليس الإبادة الجماعية والمجاعات والفقر والحروب الإمبريالية الهمجية حول العالم؟
الإجابة بسيطة، إن تأثير أزمة المناخ التي ورثناها كنتيجة مباشرة لأفعال وسياسات الولايات المتحدة وأوروبا، محسوس الآن أيضا في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وهاتان المنطقتان هما الشغل الشاغل الرئيس للأكاديميين، والمثقفين الليبراليين، واليساريين الأمريكيين والأوروبيين. أما حيلتهم التي تدعي بأن اهتمامهم بقضية المناخ يجعل منهم “مواطني الكرة الأرضية” فليست أكثر من أحدث زعم من مزاعمهم الكاذبة بالعالمية، في حين أنها ليست أكثر من دليل إضافي على ضيق أفقهم وقوميتهم العنصرية.
قد يتصور البعض أن الامتيازات العرقية والقومية التي تمنح الناخبين الأمريكيين القدرة على تقرير مصير العالم وسكانه البالغ عددهم 8 مليارات نسمة قد تكون محط اهتمام لدى الأمريكيين الذين يعتبرون أنفسهم مناهضين للقومية والإمبريالية، أو يعرّفون أنفسهم ببساطة كمواطنين عالميين. لكن الواقع بعيد كل البعد عن هذا التصور؛ فما يجمع الناخبين الليبراليين واليساريين في الولايات المتحدة مع نظرائهم من اليمين في انتخابات هذا العام، هو نفس ما وحّدهم دائما: “أمريكا أولا، ومن بعدنا الطوفان!”.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)