بقلم فرح عبد الصمد
لا أتذكر كم كان عمري عندما فتحت خزائن المطبخ في المنزل يوماً ورأيت عدداً من الزجاجات البلاستيكية الغريبة والمهترئة مصطفة بجانب بعضها، كانت مليئة بأحد أجمل الكنوز في تونس، مياه الأزهار التقليدية، التي عادة ما تصنعها النساء بعد حصاد الزهور المستخدمة في صنع السائل في فصل الربيع الذي تصبح فيه الأزهار جاهزة للقطاف.
يبدأ موسم زهر البرتقال في شهري إبريل ومايو من كل عام، ثم يأتي موسم الورد، وبمجرد جمع الأزهار، ننتقل للخطوة التالية، خوفاً من أن تستفيد حرارة القارة الإفريقية الجواهر الثمينة، فوردة مثل “روزا كانينا” مثلاُ، يتم قطفها يدوياً عند الفجر ثم تصنيفها على الفور من حيث الوزن والجودة والتقطير.
وتتضمن عملية التقطير بالبخار، استخراج الزيوت الأساسية المعلقة والمكونات المتطايرة القابلة للذوبان في الماء من مياه الأزهار، وذلك باستخدام تقنية مزدوجة للتدفئة والتبريد، عملية تتم بالغالب في المنزل على أيدي النساء اللواتي يستخدمن خزان الدائرة المغلقة أو جهاز “الأنبيق”، الذي يحتوي على وعائين، حيث يتم تسخين الأزهار ببطء في الوعاء الأول، ثم يمر البخار عبر الماء البارد بواسطة أنبوب ليسقط على شكل قطرات في الوعاء الثاني، ويكون زجاجياً كبيراً يتم توريثه بالغالب من الأم إلى ابنتها ويدعى “الفيتشكا”.
بعد التقطير نحصل على ماء زهر البرتقال الذي يسميه التوانسة “الذهب الأبيض”، الذي يعتبر عنصراً أساسياً في صنع الحلويات كذلك
لم أتذكر كم من أوعية “الفيتشكا” رأيت في منزل عائلتي في تونس من قبل، لكن عندما كنت كنت طفلة، لم يكن يُسمح لي بلمسها فقد كانت غالية القيمة عند نساء العائلة، فقد كنت اشاهد عماتي وهن يسكبن كمية صغيرة من السائل لاستخدامها وترك رائحة جميلة في شعورهن وعلى بشرتهن، بل وتنبعث في الهواء فأنا لا يمكنني وصف كثافة روائح العطر في موسم الحصاد.
طريقة تاريخية
طريقة استخراج الروائح الزكية ذاتها، باستخدام جهاز “الأنبيق”، مستوحاة بالأصل من التجارب الكيميائية القديمة وعلم العقاقير العربي والعلوم، ففي حضارة بلاد ما بين النهرين، في شمال العراق تحديداً في حقبة ترجع إلى أكثر من 3500 عام قبل الميلاد كانت تستخدم هذه الطريقة للفصل بين المواد.
ويعود الفضل إلى العالم الفارسي ابن سينا في اختراع التقطير البخاري الحديث للزيوت الأساسية، خاصة زيت الورد، خلال القرن العاشر الميلادي، حيث تحدث في كتابه “القانون في الطب” عن الفضائل الطبية للنباتات الرئيسية، كما كتب الطبيب والكيميائي أبو بكر الرازي، الذي اكتشف حمض الكبريتيك والإيثانول، في كتابه “كتاب الأسرار”، عن كيفية تقطيرهما في القرن العاشر، أما كتاب “الزراعة” لابن العوام الأندلسي فوصف فيه كيفية تقطير الأعشاب والنباتات في القرن الثاني عشر.
“إنها رائحة تونس”
في تونس عدة أنواع من مياه الأزهار التي تعالج بعض الأمراض، بالإضافة إلى استخدامها في الخبز ومستحضرات التجميل، فهي صيدلية أساسية كانت تنتجها العائلات بنفسها قبل أن يصبح شراء المنتجات الجاهزة منها أرخص، ويتم اليوم إنتاج بعض مياه الأزهار بصورة تجارية من أجل التصدير، بما في ذلك صناعة العطور الفاخرة من زهر البرتقال مثلاً، والذي يستخدم أيضاً لعلاج أمراض المعدة والأرق والقلق والربو والإنهاك الحراري، وهو مفضل في الصيف لخصائصه التبريدية.
في عام 2022، تم قطف أكثر من 2500 طن من زهر البرتقال في ولاية نابل الممتدة على طول الساحل الشمالي الشرقي التونسي، وتم تقطير 60% من الزهر محلياً، حيث تعتمد حوالي 3 آلاف أسرة في المنطقة على الزهرة لكسب العيش، بعد التقطير نحصل على ماء زهر البرتقال الذي يسميه التوانسة “الذهب الأبيض”، الذي يعتبر عنصراً أساسياً في صنع الحلويات كذلك، فله نكهة مرة قليلاً لكنها مميزة، ويمكن مزجه مع الزعفران أو في ترطيب حبات الكسكس.
تقول الطالبة التونسية المقيمة في المغرب، ثروة، أن لديها ذكريات جميلة مع ماء الزهر، تقول “اعتاد جدي قضاء أمسيات الصيف في حديقته، حيث يأتي نسيم البحر اللطيف، في شرب قهوته التركية مع قطرتين من ماء الزهر، في ذلك الماء رائحة الوطن، رائحة تونس”.
هناك مياه أزهار أخرى أيضاً، مثل ماء الورد والياسمين والنعناع وإكليل الجبل والزعتر وإبرة الراعي، كما تم إدخال “روزا كانينا” أو النسري في اللهجة التونسية، والغنية بمضادات الأكسدة، إلى المنحدرات الخضراء في مناطق زغوان شمالي تونس من قبل المسلمين الأندلسيين، أما الزعتر فغالباً ما يستخدم لمكافحة أمراض الجهاز التنفسي، ولا غنى عن فوائد ماء إبرة الراعي للبشرة بالإضافة إلى ارتشافها مع القهوة.
تكلفة الرعاية والطوارئ المناخية
في تونس سوق يدعى سوق البلاط، وهو موطن المعالجين بالأعشاب، يزوره المصور التونسي وصاحب مشروع “ضائع في تونس”، مراد بن الشيخ أحمد، فيقول “أحب الذهاب إلى هناك لشم رائحة النباتات ورؤية ألوانها، وقراءة الأسماء الغريبة والتصوير”، ولكن العديد من المحلات تم إغلاقها واستبدالها بمحلات بضاعة مستوردة أو مقلدة، لأنها أكثر ربحاً على الأرجح.
رغم جمال رائحة الكثير من الأعشاب الطبيعية، إلا أن أحد وجوه إقبال الناس عليها لا يبدو مشرقاً، فهو يلقي الضوء على واقع صعب اقتصادياً يلجأ معه الكثيرون إلى العلاجات العشبية بدل الطب الذي نزحت العديد من كوادره لسوء الأوضاع المعيشية، لأنها أرخص.
لا شك أن المياه العطرية أقل تركيزاً من الزيوت الأساسية، لهذا فهي ألطف استخداماً على البشرة، لكنها الأكثر هشاشة وتتحلل بسرعة، كما أنها موسمية وحصادها سنوي فقط، فطن من أزهار البرتقال ينتج 600 لتر من ماء زهر البرتقال، وهي نسبة تختلف من زهرة لأخرى، كما أن عمر الزهرة وإنتاجيتها تتأثر بالظروف المناخية، لذلك تحتاج أنماط الإنتاج التقليدية إلى المزيد من تقنيات الحماية لضمان الحفاظ على التقاليد المحلية التي يفتخر بها التوانسة.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)