بقلم ماركو كارنيلوس
ترجمة وتحرير مريم الحمد
تشير الأحداث الحالية إلى تصاعد حالة الفوضى العالمية المتنامية، فهناك تجاهل غير مسبوق بل وانتهاك صارخ اليوم لمجموعة واسعة من القواعد التي تم الاتفاق عليها منذ عقود من الزمن لضمان السلام والتعايش والتنمية في هذا العالم.
كثيراً ما تضع واشنطن نفسها على أنها الضامن الرئيسي “للنظام العالمي القائم على القواعد”، إلا أن أفعالها قد أثبتت عكس ذلك في كثير من الأحيان فالولايات المتحدة تعمل على تقويض ذات المبدأ الذي تدعي ضمانه!
وتشكل أوكرانيا وغزة ومسارح الصراع الأخرى تذكير دائماً بهذا الوضع المزري، فقبل أيام، احتجزت إسرائيل قوارب العديد من الدول المختلفة في المياه الدولية أثناء توجهها نحو غزة لتوصيل المساعدات الإنسانية، وفي الوقت نفسه، قامت فعلياً ببسط سيادتها على المياه قبالة سواحل غزة، في انتهاك واضح آخر للقانون الدولي.
من حيث المبدأ، هناك اتفاق واسع النطاق على أن قيام نظام دولي مستقر وعادل حقاً يتطلب وجود معيار ثابت، تتحمل فيه الدول المسؤولية عن الأعمال غير القانونية وعن انتهاكات السلامة الإقليمية والسياسية للدول الأخرى، سواء من خلال التدخل العسكري أو الإكراه الاقتصادي.
أما اليوم، فقد تم الاستهزاء بكل مبدأ من مبادئ النظام الدولي التي كانت مقدسة في السابق، مثل حرمة البعثات الدبلوماسية والقنصلية وحق الدول في إدارة دبلوماسيتها بشكل آمن ضمن حدود قوانين الدولة المضيفة.
يظهر التاريخ الحديث أنه وخلال حرب كوسوفو في عام 1999، قصفت الطائرات العسكرية لحلف شمال الأطلسي السفارة الصينية في بلغراد، ولم تقبل بكين أبداً بالتفسير الرسمي المتمثل بأن الأمر كان مجرد حادث آنذاك.
وخلال العقد الأول من القرن 21، حدث موقف محرج بين الحلفاء بعد الكشف عن وجود مجموعة كبيرة من معدات المراقبة التي تم استخدامها للتجسس على المؤسسات الحكومية وصولاً إلى الهاتف المحمول للمستشارة أنجيلا ميركل آنذاك، على سطح السفارة الأمريكية في برلين.
وفي العام الماضي، قصفت إسرائيل المباني الدبلوماسية الإيرانية في دمشق، مما أسفر عن مقتل عدة أشخاص، معترفة بصراحة بهذا العمل غير القانوني، بحجة أنها ليست سفارة أو قنصلية بل منشأة عسكرية.
مأزق السفارة
واليوم يدور نزاع مثير للجدل حول تخطيط المبنى الجديد المقترح للسفارة الصينية في لندن، فمنذ سنوات، تخطط الحكومة الصينية لنقل سفارتها في بريطانيا من موقعها الحالي في بورتلاند بليس إلى موقع أوسع وأكثر حداثة، وهذا في ظاهره يبدو بمثابة ترقية دبلوماسية روتينية، إلا أن المشروع ظل غارقاً بين المعارضة المحلية والمخاوف الأمنية، مما أدى إلى طريق مسدود.
وتعتبر بكين هذا انتهاكاً للبروتوكولات الدبلوماسية، بحجة أن الصين، باعتبارها دولة ذات سيادة، لديها الحق في تأمين بعثاتها الدبلوماسية بشكل مناسب، وهو المبدأ المنصوص عليه في اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، فهي تنظر إلى الرفض البريطاني باعتباره خطوة مسيسة متأثرة بالشكوك الغربية الأوسع نطاقاً حول صعود الصين وإهانة لسيادتها وكرامتها.
يشكل الخلاف حول السفارة الصينية في لندن صورة مصغرة للديناميكية المختلة داخل السياسة العالمية، ففي العالم الحديث، لا يشكل مبدأ السيادة قانوناً غير قابل للتغيير بل هو أداة دبلوماسية تستخدم بمرونة وتعتمد على قوة الدولة وتحالفها الجيوسياسي
في عالم الدبلوماسية الدولية المعقد، تعد السفارات رموزاً قوية لوجود الدولة وأولوياتها، وللشبكة المعقدة من العلاقات الثنائية، وهنا حالة أخرى من المعايير المزدوجة، فمبنى السفارة الأمريكية الجديد الضخم الواقع على نهر التايمز لم يواجه مشاكل مثل الصين، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه من المحتمل أن الولايات المتحدة قد مارست ضغوطاً على بريطانيا لمراجعة موقع السفارة الصينية.
ويظل الغريب في الأمر أن تقبل حكومة ستارمر، التي أظهرت مؤخراً جرأة في الابتعاد عن الموقف الأمريكي عند اعترافها بالدولة الفلسطينية، التدخل الأمريكي في مثل هذه المسألة التي تعد داخلية بحتة.
وبعيداً عن هذه القضية، فقوانين القرن 21 تنص على أنه لابد من احترام مبدأ سيادة الدولة على قدم المساواة من جانب الجميع، ولا يمكن لذلك أن يكون مفهوماً مرناً يتم تطبيقه بشكل انتقائي من قبل الديمقراطيات الغربية.
تقويض النظام العالمي
كثيراً ما تضع واشنطن نفسها على أنها الضامن الرئيسي “للنظام العالمي القائم على القواعد”، إلا أن أفعالها قد أثبتت عكس ذلك في كثير من الأحيان فالولايات المتحدة تعمل على تقويض ذات المبدأ الذي تدعي ضمانه!
إذا ما توقفنا عند السجل التاريخي لذلك، فهو طويل ومثير للجدل، من الحرب في كوسوفو في عام 1999 إلى غزو العراق في عام 2003 والذي تم تبريره بمزاعم زائفة عن أسلحة الدمار الشامل وتم تنفيذه من دون تفويض واضح من الأمم المتحدة، فكان ذلك انتهاكاً للسيادة العراقية.
إضافة إلى ذلك، فإن برامج الحرب الأمريكية الواسعة النطاق بطائرات بدون طيار في باكستان واليمن والصومال وأماكن أخرى، والتي أسفرت عن “عمليات قتل مستهدفة” على أراضٍ أجنبية دون اندلاع أي حرب، تشكل تحدياً حديثاً لمبدأ السيادة، ففي حين تزعم الولايات المتحدة أن هذه أعمال ضرورية للدفاع عن النفس ضد الإرهابيين، فإن البلدان المستهدفة لها كل الحق في النظر إليها باعتبارها انتهاكاً لسلامة أراضيها.
علاوة على ذلك، فإن تطبيق القوانين الأمريكية التي تتجاوز الحدود الإقليمية، مثل العقوبات على الشركات التي تتعامل مع دول مثل إيران وكوبا، يرغم الكيانات الأجنبية فعلياً على الامتثال للسياسة الأمريكية أو مواجهة الاستبعاد من النظام المالي الأمريكي، وهذه حالة واضحة لتجاوز الولايات المتحدة.
هناك تناقض صارخ، فعندما تنتهك الولايات المتحدة سيادة الدول الأخرى، غالباً ما يكون ذلك مبرراً في إطار الأمن العالمي أو حقوق الإنسان أو الحفاظ على النظام الدولي، ولكن عندما تتحرك الصين لدعم حقوقها الدبلوماسية، فهناك معايير مختلفة، حيث تظهر الحواجز على الطرق من خلال لجان التخطيط والمخاوف “الأمنية”.
ويشكل الخلاف حول السفارة الصينية في لندن صورة مصغرة للديناميكية المختلة داخل السياسة العالمية، ففي العالم الحديث، لا يشكل مبدأ السيادة قانوناً غير قابل للتغيير بل هو أداة دبلوماسية تستخدم بمرونة وتعتمد على قوة الدولة وتحالفها الجيوسياسي.
من حيث المبدأ، لا يمكن للسيادة أن تكون طريقاً ذات اتجاه واحد، وإلى أن تتفق القوى الكبرى في العالم على تطبيق هذا المبدأ التأسيسي على قدم المساواة معها وعلى منافسيها، فإن أسس القانون الدولي والاحترام المتبادل سوف تظل هشة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تعزيز انعدام الثقة وعدم الاستقرار لسنوات قادمة، ولذلك سوف يستمر الاضطراب العالمي الحالي الذي نشهده وربما يزداد سوءاً.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)