بقلم إميل بادارين
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في موقف لا يتكرر كثيراً، اتفقت هذه المرة مواقف الحكومة الأردنية والديوان الملكي مع مشاعر الأردنيين تجاه اعتبار الإبادة الجماعية في غزة تهديداً وجودياً للأردن.
ينبع هذا الإحساس بداية من إدراك أن لهذا التهديد أسساً أيديولوجية متجذرة في الفكر الصهيوني الديني الذي يعتبر الأردن جزءًا من “إسرائيل الكبرى”، خاصة وأن هذا هو المناخ السياسي الحالي السائد في إسرائيل.
في ظل هذه العقلية، فإن إسرائيل تنظر إلى الأردن من خلال المنطق الحدودي الاستعماري الاستيطاني بشكله التقليدي، تعد فيه الأردن مجالًا استعماريًا وظيفيًا وليس دولة ذات سيادة، حتى أن بعض تفاسير التوراة تعتبر أن الأردن مثل فلسطين هي “أرض جلعاد”، وبالتالي جزء لا يتجزأ من “إسرائيل الكبرى”.
في صيف عام 2020، بدأ هذا النهج الرسمي الأردني بالتراجع بعدما أوشكت إسرائيل على الضم الرسمي للضفة الغربية إليها والتي كانت قد ضمتها بحكم الأمر الواقع على أية حال، ومنذ ذلك الحين، أخذت العلاقات السياسية الأردنية الإسرائيلية مساراً دبلوماسياً متعثراً
لقد وجد هذا المنظور تعبيرًا عنه حتى في كلمات الأغاني الشعبية الإسرائيلية، مثل “ضفتان لهما نهر الأردن… هذا لنا وهذا أيضًا”، من أغنية بعنوان “الضفة الشرقية لنهر الأردن” كتبت عام 1929 بقلم الزعيم اليهودي الأوكراني، فلاديمير جابوتنسكي.
علاوة على ذلك، فإن عدداً من قادة الصهاينة اعتبر أن الاستبعاد البريطاني لشرق الأردن من وعد بلفور بمثابة “تقليص خطير” بحسب وصف حاييم وايزمن في مذكراته، وبعد ذلك، استمرت نظرتهم للأردن باعتباره منطقة أمنية حدودية عازلة ، ومن هنا كانت فكرة تهجير الفلسطينيين إليها على شكل تطهير عرقي.
ويقيم في الأردن اليوم أكثر من مليوني لاجئ فلسطيني بسبب التطهير العرقي المستمر منذ النكبة عام 1948.
تفعيل التحريفية الصهيونية
منذ ثلاثينيات القرن العشرين، حاول الهاشميون، حكام الأردن، مواجهة هذا التهديد من خلال استراتيجيات مختلفة، بما فيها التواطؤ مع الصهيونية والحفاظ على علاقات سرية مع إسرائيل وتشكيل تحالفات مع بريطانيا، ولاحقًا الولايات المتحدة، وتم تتويج هذا المسار في نهاية المطاف بتوقيع معاهدة وادي عربة للسلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994.
جاءت معاهدة وادي عربة بعد أقل من عام على توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر عام 1993، ويبدو أن الأردن كان يرى في أوسلو مظهراً من الأمن له، حيث أن حل الدولتين، الذي يعد مخرج أوسلو الأهم، يثبت رسمياً حدود التوسع الاستعماري الإسرائيلي، وبالتالي إزالة خطر ضم الضفة الغربية إلى الأردن.
منذ أوسلو، ساد هذا المنطق في الأردن، حتى أن الشق الرسمي الأردني استمر في تجاهل مشاعر مواطنيه تجاه إسرائيل، وأبرم 15 اتفاقية ترفضها أطياف شعبية واسعة.
في صيف عام 2020، بدأ هذا النهج الرسمي الأردني بالتراجع بعدما أوشكت إسرائيل على الضم الرسمي للضفة الغربية إليها والتي كانت قد ضمتها بحكم الأمر الواقع على أية حال، ومنذ ذلك الحين، أخذت العلاقات السياسية الأردنية الإسرائيلية مساراً دبلوماسياً متعثراً.
داخل إسرائيل، أخذت الدعوات الداعية للتطهير العرقي ونقل الفلسطينيين إلى الأردن بالتزايد بسرعة كبيرة داخل الطيف السياسي الإسرائيلي السائد، ومنها قامت الحركات اليمينية الإسرائيلية، المهيمنة حاليًا على المشهد السياسي، بتنشيط الرؤية الجغرافية والديموغرافية من خلال خرائط التحريفية الصهيونية .
في مارس عام 2023 مثلاً، عبّر وزير المالية الإسرائيلي والمستوطن من أصل أوكراني والذي يقيم في مستوطنة غير قانونية في الضفة الغربية، بتسلئيل سموتريش، عن هذه الرؤية بوضوح، حيث نفى وجود الشعب الفلسطيني خلال كلمة له على منصة عرضت عليها خريطة تصور الأردن كجزء من “إسرائيل الكبرى”، فسارع الأردن إلى إدانة هذا العمل ووصفه بأنه متهور وعنصري.
حلفاء الأردن الأميركيين والأوروبيين لو يولوا سوى القليل من الاهتمام لمصالحه ونداءاته من أجل وقف إطلاق النار
لكن المفارقة أنه ورغم هذا التوجه، إلا أن الأردن استمر في تعميق اعتماده على إسرائيل، وخاصة في القطاعات الحيوية مثل الطاقة والمياه، مما أثار تخوفاً كبيراً لدى الجمهور الأردني، فقد كان الأردن على وشك توقيع اتفاقية المياه مقابل الطاقة مع إسرائيل في دبي في نوفمبر 2023، إلا أن وزير الخارجية الأردني، وفي إطار الرد على الإبادة الجماعية في غزة، رد قائلاً “لن نوقع على هذه الاتفاقية بعد الآن”، كما وافق البرلمان الأردني بالإجماع على اقتراح بمراجعة المعاهدات مع إسرائيل.
إعلان حرب
كانت التوترات في العلاقة الأردنية الإسرائيلية قد بدأت بالفعل من قبل 7 أكتوبر، بسبب ملامح تهديدات من نوع آخر، فقد دأب المستوطنون في الضفة الغربية على ترويع الفلسطينيين، مما زاد من التوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي والفصل العنصري وهدم المنازل والاعتقالات والقتل.
وفي القدس، أخذ الدور الأردني في الوصاية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية يتعرض لتحديات وتضييقات عديدة، الأمر الذي يشكل مصدراً حاسماً لشرعية النظام الهاشمي، فكثيراً ما قام متطرفون ومسؤولون حكوميون باقتحام هذه المواقع وتدنيسها استعداداً لاحتمال تقسيم المسجد الأقصى تماماً كما حدث في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
إن شعور الأردن بانعدام الأمان مع إسرائيل يتزايد يوماً بعد يوم، خاصة بعد فشل الجهود الدبلوماسية والقمة العربية الإسلامية الاستثنائية في وقف الهجوم على غزة، كما أن حلفاء الأردن الأميركيين والأوروبيين لو يولوا سوى القليل من الاهتمام لمصالحه ونداءاته من أجل وقف إطلاق النار، فقد كشفت هذه الأزمة عن النفوذ الدبلوماسي المحدود للأردن، كما كشفت بأن هذا “التحالف” هو في الأساس علاقة زبائنية واستعمارية جديدة ليس إلا.
من المعروف أن الموقف الأردني الرسمي لا يدعم حماس أو غيرها من حركات المقاومة، إلا أنه يعترف بأهميتها باعتبارها عنصراً أساسياً في “فكرة” المقاومة المتأصلة في المجتمع الفلسطيني
كل ذلك دفع الأردن إلى تحديد خطه الأحمر بوضوح هذه المرة، باعتباره التطهير العرقي في الضفة الغربية أو غزة “إعلان حرب” ضد المملكة.
نقطة تحول
لقد سلط فشل الجهود الدبلوماسية الأردنية لوقف إطلاق النار هذه المرة الضوء على عدم كفاية المنطق الذي ساد 3 عقود، وأن هناك حاجة باتت ملحة لتغيير التوجه.
في الأسابيع الماضية، كانت هناك مؤشرات على هذا التحول، تمثلت في عدة قرارات حاسمة، مثل مراجعة الاتفاقيات السابقة مع إسرائيل وإلغاء الاتفاقيات المخطط لها والانسحاب من لقاء مع الرئيس الأمريكي جو بايدن وتعبئة الجيش الأردني على طول الحدود الغربية وطرد السفير الإسرائيلي في عمان ونشر المستشفيات الميدانية في غزة.
هذه التصرفات الاحادية من طرف الأردن تعطي المؤشر على أن الأردن قد يكون على استعداد لمواجهة التهديدات الإسرائيلية بمفرده، خاصة في حال نشوب حرب إقليمية، مع إصرار إسرائيل على هدفها المعلن في محو حماس حتى الآن، مما يزيد من احتمالية نشوب حرب إقليمية.
من المعروف أن الموقف الأردني الرسمي لا يدعم حماس أو غيرها من حركات المقاومة، إلا أنه يعترف بأهميتها باعتبارها عنصراً أساسياً في “فكرة” المقاومة المتأصلة في المجتمع الفلسطيني، ولذلك فإن الجهود الإسرائيلية لتفكيك حماس تعني أيضاً تدمير نسيج المجتمع الفلسطيني وبنيته التحتية المدنية، وبالتالي التهجير الجماعي للفلسطينيين إلى الأردن ودول أخرى.
من جهة أخرى، يجد الأردن نفسه اليوم محاطًا بأطراف إقليمية صعدت هجماتها على أهداف إسرائيلية وأمريكية، حتى أن حزب الله أعلن صراحةً بإلقاء ثقله عند الحاجة.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار موقع الأردن الاستراتيجي والحدود الطويلة التي يتقاسمها مع إسرائيل، إلى جانب القواعد الأمريكية على أراضيه، فإن الأردن يشعر بقلق عميق إزاء احتمال وقوعه في شرك تبادل إطلاق النار.
من المؤكد أن الأردن يخشى التهديدات الوجودية التي يفرضها شبح الحرب الإقليمية والتطهير العرقي والسعي إلى “إسرائيل الكبرى”، لأن الأردن هو بمثابة المساحة الاستعمارية القادمة للسيطرة من أجل دفع السكان الأصليين في فلسطين إليها، مما يؤكد على أنه لا جدوى من محاولة الاستقرار والسلام مع مجتمع استعماري استيطاني.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)