لم يعد تواطؤه يخفى على أحد… بايدن يبصم بالعشرة على الإبادة الجماعية في غزة

بقلم جوناثان كوك

ترجمة وتحرير مريم الحمد

بات  البيت الأبيض يواجه معضلة، هو يملك القدرة على وقف الموت والدمار في غزة في أي وقت ولكنه اختار عدم فعل ذلك، بل إن الولايات المتحدة لم تتردد في دعم إسرائيل إلى أقصى حد بأمر أشبه بترخيص لتدمير القطاع مهما كانت الكلفة!

المشكلة في ذلك هو أن المشهد، وهو كل ما يهم واشنطن، ظهر بشكل كارثي، فقد أظهرت صور تلفزيونية مئات الآلاف من الفلسطينيين وهم يفرون من منازلهم المدمرة بشكل لم يسبق له مثيل منذ عامي 1948 و1967، جعل وسائل الإعلام الغربية تكافح من أجل إخفاء حجم الكارثة الإنسانية.

الأدهى من ذلك هو تحول الحرب الإسرائيلية المعلنة على حماس إلى حرب مفتوحة على مستشفيات غزة، وفقاً لمنظمة أطباء بلا حدود فقد تعرض مستشفى الشفاء للقصف عدة مرات وانقطعت الكهرباء عنه، حتى ظهرت مشاهد مروعة لأطفال يحتضرون بعد أن توقفت حاضنتهم عن العمل، كما تكررت مشاهد مماثلة في مستشفى الرنتيسي.

لقد أدت كل هذه المشاهد الفجة إلى تزايد غضب الرأي العام الغربي على شكل مسيرات احتجاجية بأعداد لم تشهدها تلك البلاد منذ المظاهرات ضد حرب العراق قبل 20 عاماً!

في ظل ذلك ، يواجه السياسيون الغربيون صعوبة كبيرة في إخفاء وتبرير تواطؤهم ضد غزة، فكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول المنشقين عن موقفه السابق قبل أيام، برسالة لخصتها البي بي سي بالقول أن “ماكرون يدعو إسرائيل إلى التوقف عن قتل النساء والأطفال في غزة”.

أما في السر، فحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يناشدونها استخدام نفوذها لكبح جماح إسرائيل التي باتت تحرجهم، وهو ما يتماشى مع رغبة أمريكية آخذة بالتزايد بسبب إدراك واشنطن مدى السرعة التي يمكن بها جر خصوم إسرائيل الإقليميين إلى التدخل مما قد يؤدي إلى توسيع الصراع وتصعيده بشكل خطير لا تريده بطبيعة الحال.

وبدلاً من كبح جماح إسرائيل، فقد سعت واشنطن وما زالت لترقيع الثغرات الإسرائيلية من أجل  تخفيف الانتقادات التي تعد رسالة 500 موظف في الإدارة إلى بايدن مثالاً عليها، حيث تضمن سد الثغرات، إن صح التعبير، دعوة الرئيس إلى “إجراءات أقل تدخلاً” من جانب إسرائيل تجاه المستشفيات، في نفس الوقت الذي كانت قد بدأت فيه إسرائيل هجومها الفعلي على مستشفى الشفاء!

احتلال لم ينتهي

ليس هذا ما يجب أن تفعله واشنطن، فما تحتاجه حقًا هو قصة لتبرير حقيقة استمرارها في توفير الأسلحة والتمويل لإسرائيل لتستمر في تنفيذ جرائمها في وضح النهار!

لقد بدأ ذلك وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بالفعل في قمة مجموعة السبع قبل أيام، وذلك بهدف تحويل التركيز عن الإبادة الجماعية في غزة ودعم واشنطن لها إلى مناقشة نظرية ما يمكن أن يحدث بعد انتهاء القتال.

غزة لم تشهد يوماً خالياً من الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، فكل ما فعلته إسرائيل قبل عندما سحبت مستوطنيها كان إدارة الاحتلال عن بعد، مع أسلحة وأنظمة رقابة جديدة وأكثر تطوراً، أو بمعنى آخر، قامت إسرائيل بصقل احتلال متطور للغاية على سجن فيه 2.3 مليون إنسان، فكيف الحديث عن إعادة احتلال واحتلالها لم ينتهي أصلاً؟!

 في توصيف “رؤيته” لغزة بعد الحرب، قال بلينكن “سوف تكون هناك حاجة لفترة انتقالية في نهاية الصراع، لكن لا نرى إعادة احتلال فما سمعته من القادة الإسرائيليين يؤكد ذلك”، وهو ما كرره وزير الخارجية البريطاني السابق، جيمس كليفرلي، حيث أصر على أن السلطة في غزة سيتم تسليمها إلى “قيادة فلسطينية محبة للسلام”، ويبدو أن كلاهما يلمح إلى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس.

هذه مناورة بنية سيئة، حيث تريد الولايات المتحدة وبريطانيا لنا أن نصدق أنهما جادان في إحياء جثة حل الدولتين التي ظلت في ثلاجة الموتى لفترة طويلة، وهذا خداع مركب، فأول طبقاته هو إصرار واشنطن على أن تتجنب إسرائيل “إعادة احتلال” غزة، حيث يريد بلينكن أن نصدق أن احتلال القطاع قد انتهى منذ انسحاب إسرائيل عام 2005.

السؤال هنا، إذا لم تكن غزة محتلة فعلياً قبل الغزو البري الحالي، فكيف يمكن لواشنطن تفسير الحصار الإسرائيلي للقطاع على مدى 16 عاماً متواصلة؟ وكيف تمكنت إسرائيل من إغلاق الحدود البرية ومنع الوصول إلى المياه الإقليمية لغزة ومراقبة سماء غزة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع؟!

الحقيقة هي أن غزة لم تشهد يوماً خالياً من الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، فكل ما فعلته إسرائيل قبل عندما سحبت مستوطنيها كان إدارة الاحتلال عن بعد، مع أسلحة وأنظمة رقابة جديدة وأكثر تطوراً، أو بمعنى آخر، قامت إسرائيل بصقل احتلال متطور للغاية على سجن فيه 2.3 مليون إنسان، فكيف الحديث عن إعادة احتلال واحتلالها لم ينتهي أصلاً؟!

مواجهة من نسج الخيال

الطبقة الثانية من الخداع هو الانطباع الذي يتعمد بلينكن خلقه بالتمهيد لاستعداد واشنطن لمواجهة مع إسرائيل حول مستقبل غزة، فقد أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه ليس في مزاج يسمح له بالجلوس مع الفلسطينيين، وهنا يقصد السلطة، كما كرر الإعلان مرة أخرى عن أن إسرائيل ستتولى “السيطرة الأمنية” على القطاع بمجرد رحيل حماس.

أعلنها بوضوح في مؤتمره الصحفي الأخير “لن تكون هناك حماس، ولن تكون هناك سلطة مدنية تعلم أطفالها كراهية إسرائيل وقتل الإسرائيليين وتدمير دولة إسرائيل”، وأضاف أن القوات الإسرائيلية ستكون قادرة على “الدخول إلى غزة وقتما تشاء لقتل الإرهابيين” على حد وصفه.

ومع ذلك، فالقول بأن إسرائيل وواشنطن لا يسيران بنفس التوجه هو محض خداع، وما ذلك إلا “خلاف” معقّد بالكامل ومصمم لجعل الأمر يبدو كما لو أن إدارة بايدن تدفع نحو التفاوض وتقف إلى جانب الفلسطينيين ضد إسرائيل، وذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة.

التظاهر نعمة لكلا الجانبين، حيث تريد الولايات المتحدة أن تبدو، بعد تدمير كل منازل غزة وتطهير سكانها عرقياً، وكأنها تجر نتنياهو إلى طاولة المفاوضات قسراً، وفي الوقت نفسه، فإن نتنياهو بخطابه يزيد من رصيده لدى اليمين الإسرائيلي بظهوره بمواقف تتحدى إرادة إدارة بايدن.

كل هذه مسرحية مرتبة، فلن يكون هناك مواجهة في يوم من الأيام بينهما، لأن “الرؤية” الأميركية ليست أكثر من مجرد وهم!

حل اللادولة

في الواقع، لقد تخلت واشنطن رسميًا عما يسمى “حل الدولتين” منذ سنوات، بعد أن أدركت أن إسرائيل لن تسمح أبدًا بأي شكل للدولة الفلسطينية مهما كان مقيداً.

الحديث حول إحياء حل الدولتين لا يعتبر إلا وسيلة مفيدة لصرف الانتباه عن الحل الفعلي الذي تنفذه إسرائيل على مرأى ومسمع من الجميع على الأرض

على مدى 30 عاماً، انتقلت إسرائيل من التظاهر، الذي استمر خلال أول سنوات بعد اتفاقية أوسلو، بأنها قد تتنازل ذات يوم لدولة فلسطينية صورية منزوعة السلاح ومعزولة عن بقية الشرق الأوسط، إلى الرفض الصريح لقيام دولة فلسطينية من الأساس.

قبل شهرين من هجوم حماس في 7 أكتوبر، تم تسريب ما قاله نتنياهو في اجتماع برلماني إسرائيلي مغلق حول “القضاء على آمال الفلسطينيين في إقامة دولة ذات سيادة”، فهل تبدو إسرائيل مستعدة لتسليم غزة للسلطة في ظل ذلك؟!

عام 2019، كان نتنياهو قد صرح في اجتماع لحزبه الليكود، الحاكم آنذاك، أن “دعم حماس وتحويل الأموال إلى حماس” أفضل وسيلة “لإحباط إقامة دولة فلسطينية”.

 تم تحقيق تلك الاستراتيجية بالفعل من خلال السياسات الإسرائيلية المصممة للتقسيم الدائم، مادياً وسياسياً، بين المكونين الإقليميين لأي دولة فلسطينية مستقبلية، وهما الضفة الغربية وقطاع غزة، فأصبح التنقل بين الإقليمين مستحيلاً، وقامت إسرائيل بزرع أصوات محلية معادية للإقليم الآخر، حتى لا يتمكن أي منهما الادعاء بتمثيل الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه، تم إغلاق القدس فعلياً عن كلا المنطقتين وتجريدها من أي تمثيل سياسي فلسطيني.

تعلم إدارة بايدن جيدًا أن إسرائيل لن تسمح أبدًا بتأسيس قيادة فلسطينية “معتدلة” في غزة، أو تسمح بتوحيدها مع الضفة الغربية بأي شكل من الأشكال، ولذلك الحديث حول إحياء حل الدولتين لا يعتبر إلا وسيلة مفيدة لصرف الانتباه عن الحل الفعلي الذي تنفذه إسرائيل على مرأى ومسمع من الجميع على الأرض.

وتتمحور القصة  الإسرائيلية حول اعتبار قصف منازل غزة والبنية التحتية المدنية من المستشفيات والمدارس ومجمعات الأمم المتحدة والمخابز والمساجد والكنائس، أمراً ضرورياً لدعم  غزة!

علاوة على ذلك، تم تهجير السكان من شمال غزة قسراً إلى جنوب القطاع، بهدف إفراغ مدينة غزة وشمالها ليصبح مكاناً بلا سكان،  وهي خطة قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، جيورا إيلاند، أنها تهدف إلى طرد سكان غزة إلى سيناء دون السماح لهم بالعودة.

الحقيقة أن إسرائيل خطة الطرد وما تسمى “خطة غزة الكبرى”، كانت على طاولة إسرائيل منذ عقود، وعليه فإن موافقة واشنطن على إنشاء جيب فلسطيني في سيناء ترجع إلى عام 2007 على أقل تقدير.

عجز عباس

خداع بلينكن التالي قد يكون الإيحاء بأن عباس قادر أو يرغب في أخذ مكان حماس في غزة، ولكن تلك مسألة محسومة بطبيعة الحال، فقد فقد عباس مصداقية حكمه من خلال التسامح الدائم مع جرائم إسرائيل، ومنها موقفه الحالي من الحرب على غزة.

تعد فكرة  تولي عباس مسؤولية غزة في الوقت الذي يظهر فيه عاجزاً في “معقله” في الضفة هي فكرة من نسج الخيال!

أشار السفير البريطاني السابق، كريج موراي، إلى أن عباس يستطيع تفعيل اتفاقية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل طالما أن فلسطين عضو في الأمم المتحدة، وذلك عن طريق محكمة العدل الدولية، ولكن عباس اختار التضحية بشعبه مرة أخرى، لتجنب إثارة غضب الولايات المتحدة.

هل تعلمون ما هو المثير للسخرية أكثر من ذلك؟ هي فكرة أن تسمح إسرائيل للسلطة الفلسطينية بحكم غزة في حين لا يُسمح لنفس السلطة الفلسطينية بأن تكون مسؤولة عن الضفة، فعباس لا يملك أي سيطرة من أي نوع على 62% من الضفة الغربية، وفي الباقي، لم تعد السلطة الفلسطينية أكثر من سلطة محلية، تدير المدارس وتفرغ صناديق القمامة، ولا تملك السلطة سيطرة على الحدود أو الحركة الداخلية أو المجال الجوي أو الترددات الإلكترونية أو العملة أو سجل السكان.

عباس لا يملك سوى شرطة في هذه المدن، تعمل كمقاول أمني محلي للجيش الإسرائيلي، أما عندما يقرر الجيش تنفيذ المهمة بنفسه باقتحام  دون سابق إنذار، تختفي قوات عباس عن المشهد!

وبذلك، تعد فكرة  تولي عباس مسؤولية غزة في الوقت الذي يظهر فيه عاجزاً في “معقله” في الضفة هي فكرة من نسج الخيال!

لا يمكن القضاء على حماس

ربما تكون أكثر خدع البيت الأبيض تلاعباً هو الافتراض بأنه يمكن استئصال حماس من غزة، فالمقاتلون الفلسطينيون ليسوا قوة جاءت من خارج الفلسطينيين، هم ليسوا محتلين، بل خرجوا من رحم شعب عانى عقوداً من الانتهاكات العسكرية والقمع وحماس هي إرث تلك المعاناة.

إن سياسات الإبادة الجماعية التي تنتهجها إسرائيل، لن تؤدي إلى تهدئة دافع المقاومة، بل إلى تأجيج المزيد من الغضب والاستياء، كدافع أقوى للانتقام.

ولو افترضنا جدلاً أنه تم القضاء على حماس، فسوف تخرج مقاومة أخرى أكثر شراسة، فمعظم الأطفال الذين تعرضوا للقصف ويشهدون مقتل أحبائهم، لن يكبروا خلال السنوات القليلة المقبلة ليصبحوا سفراء سلام، بل سوف يحملون البندقية والصاروخ للانتقام لعائلاتهم وشرفهم كحق من حقوقهم الطبيعية.

تعرف كل من إسرائيل والولايات المتحدة كل هذا، فالتاريخ يعج بالدروس التي تعلمها المستعمرون، الحقيقة أن هدفهم هو الحرب الدائمة أو بمعنى آخر إدامة “دوامة العنف”، لأنها تعمل على تشحيم خطى الدبابات لصالح ربح آلة الحرب الغربية من خلال إنتاج نفس الأعداء الذين يقال للشعوب الغربية إنهم بحاجة إلى الحماية منهم.

خلاصة القول أنه سواء أُعيد الفلسطينيون إلى العصر الحجري في غزة، أو طُردوا للعيش في مخيمات اللاجئين في سيناء، فإنهم لن يقبلوا مصيراً يُعاملون فيه باعتبارهم “حيوانات بشرية”، وسوف تستمر معركتهم، وقتها سيتعين على إسرائيل وواشنطن اختراع قصص جديدة من نسج الخيال لمحاولة إقناعنا بأن أيدي الغرب نظيفة.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة