بقلم عمر سليمان
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في الوقت الذي كان يعارض فيه الحرب الأمريكية غير الأخلاقية على فيتنام، كان شديد اللهجة في عباراته، فقال عبارته الشهيرة: “لقد دمرنا مؤسساتهم العزيزة، الأسرة والقرية، لقد دمرنا أراضيهم ومحاصيلهم وأفسدنا نساءهم وأطفالهم وقتلنا رجالهم، والآن، لم يتبقَ سوى القليل لنفعله فقد فعلنا كل شيء تقريباً”.
لو كان حياً اليوم، فأنا أعتقد أن موقف مارتن لوثر كينغ من الموت والدمار في غزة كان ليكون واضحاً تماماً، فإسرائيل مذنبة بارتكاب جريمة إبادة جماعية، واتفاق وقف إطلاق النار الهش لا يغير من حقيقة أن كل جانب من جوانب الحياة الفلسطينية قد تم تدميره تقريباً بواسطة أسلحة أمريكية.
إرث كينغ المتمثل في “السلام والتسامح والمساواة” يتناقض ويتنافى تماماً مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والاحتلال وبناء المستوطنات على الأراضي المسروقة والإبادة الجماعية الحالية والحصار المفروض على غزة
في اليوم الذي نتذكر فيه مارتن لوثر كينغ جونيور من كل عام هنا في الولايات المتحدة، وهو يوم وطني أمريكي تكريماً لأيقونة الحقوق المدنية، نستطيع رؤية التوظيف المخادع لحياة مارتن لوثر كينغ وإرثه، فنقرأ منشورات من الصفحة الرسمية لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) على موقع اكس يتم فيها تكريم جهود كينغ كزعيم لحركة الحقوق المدنية.
في يوم ذكراه التي مرت قبل أشهر، كتبت على موقع اكس رداً على تغريدات مكتب التحقيقات الفيدرالية، أن المكتب نفسه “شارك في مراقبة كينغ وحاول تشويه سمعته واستخدم أساليب التلاعب للتأثير عليه للتوقف عن حركته التنظيمية، حتى أن عائلة كينغ تعتقد أن مكتب التحقيقات الفيدرالي كان مسؤولاً كذلك عن وفاته”.
استقطاب إسرائيلي
ليس مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي الجهة الوحيدة التي تحاول توظيف “حلم” مارتن لوثر كينغ لأهدافها!
بينما كانت الإبادة الجماعية في غزة مستمرة لمدة عام ونصف، ورغم تشوه صورة إسرائيل بسبب ذلك حتى أن قادتها باتوا يواجهون أوامر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، وجمهورها الغربي المخلص تاريخياً بدأ بالتلاشي، إلا أن آلة العلاقات العامة الإسرائيلية التي تعرف بالهاسبارا لا تزال تعمل بجد.
في يوم ذكرى مارتن لوثر كينغ العام الماضي، الذي صادف يوم 15 يناير عام 2024، نشر الحساب الرسمي الإسرائيلي على موقع اكس اقتباساً من خطبة الراحل مارتن الشهيرة بعنوان “في حب أعدائك”، والتي ألقيت في كنيسة في مونتغمري في ولاية ألاباما عام 1957.
قال فيها كينغ آنذاك: “الظلام لا يستطيع أن يطرد الظلام، وحده النور يستطيع أن يفعل ذلك، والكراهية لا تستطيع أن تطرد الكراهية، وحده الحب يستطيع أن يفعل ذلك”، واستطرد المنشور بالتعليق على كلام كينغ ذلك: ” نحن نتذكر إرث كينغ المتمثل في السلام والتسامح والمساواة”.
في منشور كهذا، تتحدث المفارقة عن نفسها، فبعد أقل من أسبوعين من بدء الهجوم على غزة في أكتوبر عام 2023، أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أن حربهم على غزة “صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام وبين الإنسانية وقانون الغاب”.
تمت مشاركة هذا الاقتباس على حساب نتنياهو الرسمي على موقع اكس قبل أن يحذف مكتبه المنشور في اليوم التالي في أعقاب قصف المستشفى الأهلي المعمداني.
ما من شك في أن إرث كينغ المتمثل في “السلام والتسامح والمساواة” يتناقض ويتنافى تماماً مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والاحتلال وبناء المستوطنات على الأراضي المسروقة والإبادة الجماعية الحالية والحصار المفروض على غزة.
“رموز تبسيطية”
لقد أخطأ منشور الإسرائيليين حتى في توصيف إرث كينغ إلى وزير وناشط “محب للسلام”، فتلك ترجمة خاطئة لعمله طيلة حياته، تسهل اختيار اسمه وصورته من قبل معارضي نفس حقوق الإنسان والحقوق المدنية التي سعى إلى تحقيقها وترسيخها.
من خلال تمييع رسالة مارتن لوثر كينغ، فإننا نفتح الباب بشكل غير مباشر أمام استقطاب إسرائيلي واسع، فكينغ هو البطل الذي دعا إلى اللاعنف والحب، ومالكولم هو “الشرير” الذي كان بمثابة نظيره العنيف فقد كان يدعو إلى “الكراهية والتشدد”.
ليس ذلك مجرد قراءة غير صادقة للتاريخ، بل هي انقسام يسمح باختزال هؤلاء الرجال في مثل هذه الرموز التبسيطية مما يساعد على تصفية البرامج السياسية وإضفاء الشرعية على أشكال المصالحة غير الشرعية من خلال التذرع بنموذج كينغ، مقابل نزع الشرعية عن أشكال المقاومة المشروعة من خلال نموذج مالكولم إكس.
إن إرث كينغ مؤيد للتحرير وهو بالتالي مؤيد لفلسطين، فقد أوضحت رئيسة مركز مارتن لوثر كينغ جونيور للتغيير الاجتماعي اللاعنفي وابنة كينغ، الدكتورة بيرنيس كينغ، بأنه لو شهد والدها فظائع غزة، لكان من أوائل المؤيدين الصريحين لنداءات وقف إطلاق النار العالمي.
قالت: “أنا متأكدة من أنه كان سيدعو إلى وقف القصف الإسرائيلي للفلسطينيين وإطلاق سراح الرهائن، والعمل من أجل السلام الحقيقي الذي يشمل العدالة”.
“إن الأمة التي تستمر سنة بعد سنة في إنفاق أموال على الدفاع العسكري أكثر من إنفاقها على برامج الارتقاء الاجتماعي تقترب من الموت الروحي” – مارتن لوثر كينغ
وفي عام 1967، نشرت لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية، وهي منظمة أمريكية من أصل إفريقي شارك فيها كينغ، رسالة إخبارية تضمنت قسمًا بعنوان “مشكلة فلسطين”، سردت فيها الحجج ضد الصهيونية باعتبارها مشروعاً استعمارياً استيطانياً، حيث تطرقت فيها الرسالة بالتفصيل إلى السرقة الجماعية للأراضي الفلسطينية وتناول تجريد العرب من إنسانيتهم.
من ناحية أخرى، فقد سافر كينغ إلى القدس عبر بيروت عام 1959، وكان يخطط طوال حياته لزيارة فلسطين التاريخية عدة مرات، ولكن كل فرصة كانت تُلغى مسبقاً.
قامت الناشطة في مجال الحقوق المدنية وكاتبة العمود في صحيفة نيويورك تايمز، ميشيل ألكسندر، بتأريخ مكالمة سجلها مكتب التحقيقات الفيدرالي بين كينغ ومستشاريه عام 1967، لمناقشة ما إذا كان سيقبل دعوة من الحكومة الإسرائيلية لزيارة فلسطين التاريخية، جاء فيها: “أعتقد بأنني إذا ذهبت، فإن العالم العربي وإفريقيا وآسيا سوف يفسرون ذلك على أنه تأييد لكل ما فعلته إسرائيل، وأنا لدي أسئلة محل شك”.
تحرير فلسطين
في أواخر ستينيات القرن العشرين، كانت إفريقيا وآسيا تعانيان من عقود من الاستعمار الأوروبي، وكان كينغ يعرف ذلك التاريخ جيداً.
عندما سُئل في مقابلة مع قناة ABC حول ما إذا كان ينبغي على إسرائيل “إعادة الأراضي التي استولت عليها دون ضمانات”، كان كينج واضحاً في أن الاحتلال هو السبب الرئيسي للتوتر، فقال: “أعتقد أنه من أجل تحقيق السلام والأمن، من الضروري أن تتخلى إسرائيل عن هذه الأراضي التي احتلتها لأن التمسك بها لن يؤدي إلا إلى تفاقم التوترات وتعميق مرارة العرب”.
إن اختيار إسرائيل لكينغ في البروباغندا فيه خداع واستغلال، فقد كان كينغ بمثابة كبش فداء، حيث أن تصريحاته حول الاحتلال لا تؤيد صراحة القضية الفلسطينية، كما أنها لا تدين صراحة انتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية، على عكس شخصيات مؤثرة أخرى في النضال من أجل الحقوق المدنية، مثل جيمس بالدوين، ومالكولم إكس، ومحمد علي، وأنجيلا ديفيس، ونيلسون مانديلا، حيث تشكل أمثلة قوية على العلاقة بين الكفاح ضد العنصرية والاستعمار ودعم التحرير الفلسطيني.
كان كينغ، مثل العديد من أقرانه، يعتقد أن النضال من أجل العدالة والحرية حركة عالمية، ومن الطبيعي أن تمتد دعوته للمساواة وحقوق الإنسان إلى القضية الفلسطينية، فحركة الحقوق المدنية وكل الحركات التي تهدف إلى تحرير البشر من أغلال العنصرية والاحتلال والفصل العنصري، هم خصوم طبيعيون للمشروع الصهيوني.
إن القول بأن كينغ كان سيدعم الاحتلال الإسرائيلي هو إهانة لعمله طوال حياته، والقول بأنه كان سيدعم مليارات الدولارات في مبيعات الأسلحة الأمريكية لإسرائيل أمر غير منطقي، فقد صرح كينغ: “إن الأمة التي تستمر سنة بعد سنة في إنفاق أموال على الدفاع العسكري أكثر من إنفاقها على برامج الارتقاء الاجتماعي تقترب من الموت الروحي”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)